الجدير بالاهتمام هنا، انه و قبل البحث عن الشواهد القرآنية التي قد يبدو منها للوهلة الاولى اعتماد القرآن الكريم الصناعات الخمس او تحليل الآية الكريمة " ادع الى سبيل ربك..."[1]، لابد من البحث عن ماهية و جذور و مكانة الصناعات الخمس في الفكر البشري و تحليلها تحليلا علميا دقيقاً. فان قسما كبيراً من تلك الصناعات انما صمم لغاية التغلب على الخصم انطلاقا من الروحية الحاكمة على الفلاسفة اليونان في ذلك الوقت، و هذا ما تظهره بوضوح التعاريف التي ذكرت للصناعات الخمس.
صحيح ان التسلح بتلك الصناعات ينفع في التغلب على الجانب السلبي فيها و عدم الانهيار و الانهزام النفسي أمامها، و لكن لا يمكن القول – كما يذهب الى ذلك بعض المفكرين- بان الموعظة القرآنية لا تتطابق مع فن الخطابة المنطقي، كذلك لا يرادف الجدل بالتي هي احسن الجدل المنطقي و... و ما يذكره البعض من التطابق لا يمكن التسليم به بهذه السهولة.
ثم من الضروري الالتفات الى قضية مهمة و هي ان الجهة التي يرومها الاسلام و القرآن الكريم و يتحركان باتجاهها تختلف عن الجهة التي ترومها الحضارة التي ولدت فيها تلك الصناعات الخمس و التي انتقلت الينا عن طريق الترجمة للتراث اليوناني و ان اصطبغت بالصبغة الاسلامية لغرض الانتفاع منها في مجال البحث الديني. كالاستفادة منها في تطوير فن الخطابة و الارشاد الديني، و كذلك الجدل و النقاش العقائدي و... و من هنا لابد من تحديد الموقف و المقارنة بين الثقافتين اليونانية و القرآنية.
قد تجد تشابها بين بعض المتون الدينية و بين الجدل المنطقي، الا ان ذلك في الواقع من قبيل تنبيه المخاطب فقط لا لغرض التغلب و ظهور البراعة أمام الخصم كما هو المنهج الشائع بين الناس، بل نرى الروايات تقف موقف الذام للجدال و المراء و... و تنهى عنه بشدة:
"روی أَن رجلا قال للحسین بن علي بن أَبي طالب (ع): اجلس حتَّى نتناظر فی الدِّین! فقال: یا هذا أَنا بصیرٌ بدیني مكشوفٌ علی هداي فإِنْ كنت جاهلا بدینك فاذهبْ فاطلُبهُ ما لي و للمماراة و إِنَّ الشَّیطان لیوسوس للرَّجل و یناجیه و یقول: ناظرِ النَّاسَ في الدِّینِ لئلا یظُنُّوا بك العجزَ و الجهلَ".[2]
من هنا يمكن الاعتراف بانه يوجد في القرآن الكريم و كلمات المعصومين (ع) ما يشابه كل واحدة من الصناعات الخمس، و لكن تشابه الشيئين لا يعني بالضرورة التطابق بينهما، فعلى سبيل المثال الجمالية الفنية للقرآن الكريم تسمو على الشعر، و لكن مع ذلك لا ينطبق التعريف الارسطي للشعر[3] على القرآن بحال من الاحوال جزماً.
كذلك المواعظ القرآنية تبدو للوهلة الاولى شبيهة للخطابة في الصناعات الخمس، و لكن تعريف الخطابة التي تعتمد على المشهورات العرفية (و إن لم تكن حقة) لاخضاع المخاطب لسلطة الخطيب. و لكن النظرة المتأملة في الحالتين تكشف و بوضوح ان هذا لا ينجسم مع الهدف القرآني. و هكذا الكلام في الجدل الذي تدعو اليه الآية المباركة لا ينطبق مع الجدل في الصناعات الخمس؛ و ذلك لان المراد من الجدل الذي تدعو اليه الآية – حسبما يرى الكثير من العلماء- هو المناظرة و الاستدلال المنطقي، كذلك المقصود من الحكمة في الآية شيء أمر وراء الفلسفة اليونانية. يتضح من ذلك كله ان من المسلم به ان التعريف الذي ذكره المناطقة للصناعات الخمس يواجه الكثير من الاشكالات باستثناء البرهان فقط.
و نحن نرى اننا اذا تجردنا من الخلفيات و الاحكام المسبقة في الفلسفة اليونانية و القرآن الكريم نرى ان الاشتراك في اللفظ لا يعني التطابق بينهما و ان الحكمة و الموعظة و الجدل بالتي هي احسن في القرآن لها تعاريفها الخاصة التي تختلف بها عن مقارناتها في الفلسفة اليونانية، و هذا ما اشارت اليه كلمات الاعلام السابقين.
[1] «ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»، النحل، 125.
[2] المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار، ج2، ص 135، موسسة الوفاء، بیروت، 1409ق.
[3] الذي يطغى عليه عنصر الاحاسيس و التخيلات التي تجمل القبيح و تجعل الجمل اكثر جمالا و....