الخسران من المواضيع التي سلّط القرآن الكريم عليها الأضواء عدة مراّت، حيث وردت مادة "خسر" 56 مرة بمشتقاتها المختلفة في هذا الكتاب المقدس. و كما أن الخسران هو أمر نسبي في الأمور المادية، لذلك يتراءى لمن أفلس بالكامل أنه خاسر كما يتراءى لمن حصل على ربح أقل من المتوقع، و هذا الامر يجري في الأمور المعنوية كذلك. لذلك نجد أولياء الله يعتبرون أنفسهم من الخاسرين و يضعون أنفسهم موضع التقريع الشديد على تقصيرهم في تحصيل الفائدة الكاملة مع توفر الظروف المناسبة لذلك، و في نفس الوقت يوجد أفراد يزيد خسرانهم بمراتب عن هؤلاء فإنهم ليسوا قد حرموا من الفائدة فحسب، بل قد إبتلوا باضرار و خسارات جسيمة أثقلت كاهلهم.
على كل حال، قد ذكر القرآن و كذلك روايات أهل البيت (ع) مصاديق مختلفة للخاسرين، منها: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيهُمْ في الحْياةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يحَسَبُونَ أَنهَّمْ يحُسِنُونَ صُنْعًا* أُوْلَئكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِايَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائهِ فحَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لهَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا* ذَالِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَ اتخَّذُواْ ءَايَاتيِ وَ رُسُليِ هُزُوًا".[1]
فهذه الآيات من القرآن الكريم تبين أن أخسر الناس هم الذين يقترفون المعاصي ظناٌ منهم أنهم يحسنون صنعاً. فالشيطان يلقي هذا الظنّ و الواهم في أذهانهم و يزيّن لهم أعمالهم القبيحة بوسوسته و بسوء إستفادته من فطرة الإنسان المحبة للخير الطالبه له.[2]
أما لماذا عبّر عنهم القرآن بالأخسرين إعمالا؟ فقد ذكر المفسّرون نكاتاً و ملاحظات جميلة، نشير الى بعض منها كما جاء في أحد التفاسير:[3] "نلاحظ في حياتنا و حياة الآخرين، أن الإنسان عندما يقوم بعمل خاطئ و يعتقد أنه صحيح، فإن جهله المركب هذا لا يدوم أكثر من لحظة أو موقف أو حتى سنّة، أما أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ و هو الخسران المبين. لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمّي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، لأن الذي يرتكب الذنب و هو يعلم بذلك، فإنه سيضع حدّاً لما هو فيه و يعوّض عن الذنب بالتوبة و العمل الصالح، أما أولئك الذين يظنّون – طوال حياتهم- أن ذنوبهم عبادة و أعمالهم السيئة أعمالاً صالحة، و إنحرافهم استقامة، فإن مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم و جبران الخلل الذي وقعوا فيه، بل يستمرّون فيما هم عليه إلى نقطة النهاية، فيصدق بحقهم التعبير القرآني: "بالأخسرين أعمالا".
و قد وردت في الروايات تفاسير مختلفة لـ "الأخسرين أعمالا" و كل منها تشير إلى مصداق بيّن لهذا المفهوم الواسع، من غير أن تحده و تعينه.
ورد في حديث عن الأصبغ بن نباته أن شخصاً جاء لأمير المؤمنين (ع) يسأله عن تفسير هذه الآية فقال: "كفرة أهل اليهود و النصارى فقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم "و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" ثم نزل عن المنبر و ضرب بيده على منكب إبن الكوّاء ثم قال: يا إبن الكوّاء و ما أهل النهروان منهم ببعيد![4] و توجد في حديث آخر إشارة إلى الرهبان (تاركي الدنيا من الرجال و النساء) و أهل البدع من المسلمين.[5]
بعد هذا الكلام نطرح هذا السؤال و هو: ما هو منشأ هذه الحالة الإنحرافية؟ من المسلم به أن التعصّبات الشديدة و الغرور و التكبّر و الأنانية و حبّ الذات تعتبر من أهم عوامل ظهور هذه الظنون الخاطئة.
و قد يكون سبب ظهورها هو التزلّف و المداهنة و الإنزواء، و قد يكون السبب هو الشعور بالغرور و الإفتخار و المباهاة بهذه الأعمال القبيحة بدلاً عن الخجل من اقترافها و التنفر منها.
[1] الكهف، 106 ـ 103.
[2] الأنعام، 43، الأنفال، 48، النمل 24، العنكبوت 38، ...
[3] مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، ج 9، ص 380، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، قم، 1421 ق.
[4] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 10، ص 122، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404 ق.
[5] نفس المصدر، ج 2، ص 298.