مع أن السؤال لم یصرح بحکم شرب قطرة من الخمر، لکن یبدو أن السؤال هو حکم شرب قطرة من الخمر، فنجیب عنه بالنحو التالی:
طبقا لرؤیة الشیعة، کل الأحکام لها مصالح و مفاسد و قد وضعها الشارع المقدس على المکلفین على أساس تلک المصالح و المفاسد، لکنه لم یذکر لنا جمیع هذه المصالح و المفاسد.[1] و العلل التی قد ذکرت لبعض الأحکام فی الواقع إنما هی من قبیل الحکم أی العلل الناقصة و لیس من قبیل العلة التامة، و لهذا لا نستطیع أن ننفی الحکم بانتفاء تلک العلة الناقصة.
و بناءً على طلبکم سنتناول المسألة من الجانب العقلی لا الجانب التعبدی، و للوصول إلى الجواب المطلوب لابد من ذکر عدة قضایا:
أ: کما ذکرتم فی سؤالکم، إن فی الخمر أضراراً جمسیة و روحیة کثیرة، لکن لا ینبغی أن نغفل عن هذه الحقیقة و هی أن ما یضرّ کثیره فیضر قلیله أیضاً و إن اختلف مدى ضرر هذین المقدارین.
ب: أجمع فقهاء الشیعة على أن الخمر من بین النجاسات التی حددها الشارع [2] و أکل الشیء النجس حرام[3]، سواء کان کثیراً أم قلیلاً.
وقد جاء فی تفسیر العیاشی عن الإمام الصادق أنه قال: إن الله حرم الخمر قلیلها و کثیرها کما حرم المیتة و الدم و لحم الخنزیر.[4] و قالت السیدة الزهراء (ع) فی خطبتها: و النهی عن شرب الخمر تنزیها عن الرجس.[5]
ج: لیست کل المحرمات فی درجة واحدة من الحرمة. إذ یرى المشرّع بعضها أکثر أهمیة و البعض الآخر أقل اهمیة، و لهذا من أجل ترک المحرمات الأکثر أهمیة، اتخذت إجراءات أشد. من باب المثال یقول الله سبحانه فی القرآن فی باب الزنا: "وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ کانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبیلا".[6]
لقد نهت هذه الآیة عن الزنا و بالغت فی تحریمه، لأنها لم تقل لا ترتکبوا الزنا بل قالت لا تقربوه.[7] و یقول سبحانه فی مال الیتیم: "وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتیمِ إِلاَّ بِالَّتی هِیَ أَحْسَن"[8] و عندما ینهى عن الاقتراب إلى مال الیتیم بدل أن ینهى عن أکله فهذا مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.[9] ولهذا لم یمنع عن أکل مال الیتیم فسحب، بل منع حتی من الاقتراب من حریمهم و عدم المساس به.[10]
من هنا قد یقال، کما شدد الشارع فی الزنا و أکل مال الیتیم فمنع من الاقتراب إلیهما لشدة حرمتها، کذلک حکم بالنسبة إلى الخمر فیجب الاجتناب عن قطرة واحدة فلا یجوز الاقتراب منه بل لا یجوز معاشرة شاربی الخمر.
النتیجة: لا یمکن القول بجواز شرب قطرة من الخمر إلا إذا ثبت أن العلة التامة لحرمة شرب الخمر هی الضرر و ثبت أنه لا ضرر فی شرب قطرة منه، أولا. و یثبت أن الخمر لیس نجساٌ، ثانیا. و أن لا یؤدی شرب القطرة إلى الجرأة و التجاسر على شرب الأکثر منها ثالثاٌ. و بما أنه لم تثبت أی واحدة من هذه المقدمات الثلاث، بل ثبت عکسها، فنحکم بحرمة شرب الخمر ولو قطرة واحدة.
من البدیهی أن فی عملیة وضع الأحکام و القوانین سواء أ کانت من قبل الشارع المقدس أم من قبل المؤسسات المدنیة و الحکومیة ینظر المقنن إلى الکلیات و الحالة العامّة و الغالبة. مثلاً إذا منع المقنّن فی قوانین المرور، السیر فی الشوارع ذات الاتجاه الواحد من الاتجاه المعاکس، فقد أخذ بنظر الاعتبار أنه إذا جاء سائق من الجانب المقابل و سار بالاتجاه المعاکس لما هو مقرر، سیؤدی هذا إلى حوادث و خسائر فی الأرواح و الأموال. فهل یعقل هنا أن یقول سائق إنی أرید أن أسوق خلاف الاتجاه بقدر أمتار قلیلة فقط؟ من الطبیعی أن لا یقبل هذا الکلام من أی أحد و لا یمکن أن یستثنى القانون. طبعاً فی حالات الاضطرار ترفع حرمة الکثیر من الأحکام، مثل حرمة أکل المیتة فی المکان الذی یتعذر الطعام فیه على الإنسان، فترفع حرمة أکلها فی سبیل حفظه من الموت.
[1] و کثیر منها لم تصل إلینا.
[2] تحریر الوسیلة للإمام الخمینی (ره) ج1، ص118، المسکر المائع بالأصل نجس.
[3] تحریر الوسیلة للإمام الخمینی (ره) ج2، ص163، یحرم تناول الأعیان النجسة و کذا المتنجسة ما دامت باقیة على النجاسة مائعة کانت أو جامدة.
[4] الطباطبائی، محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ج6، ص136، النشر الإسلامی لجماعة المدرسین، قم 1407ق. الجدیر بالذکر أننا أوردنا هذا الحدیث لا من باب التعبد به بل بسبب التعلیل المذکور فی ذیل الروایة.
[5] الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج، ص97 نشر المرتضى، مشهد 1403ق.
[6] الإسراء، 32.
[7] المیزان فی تفسیر القرآن، ج13، ص85ـ 86.
[8] الانعام، 152؛ الإسراء، 32.
[9] المیزان فی تفسیر القرآن، ج13، ص91.
[10] مکارم شیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج8، ص469، نشر مدرسة
لإمام علی بن أبی طالب، قم 1421ق.