لآیات القرآن الکریم القدرة و القابلیة فی أن تُفسّر بتفاسیر متعددة، و یمکن أن تکون هذه التفاسیر صحیحة و مقبولة بشرط عدم التناقض و التضاد. و یبدو أن التفاسیر المطروحة لهذه الآیة تتصف بعدم التناقض إلى حدّ ما، إلا ان أکثر التفاسیر وضوحاً و جلاءً لها هو الرأی القائل بأن هذا التهدید من علامات حدث سیقع فی المستقبل و ینتهی بالمعاد و قیام الساعة، و هذا یعنی أنه لم یتحقق حتى هذه الساعة.
و قد تکون هذه الحادثة من علامات ظهور الإمام المهدی ـ عج ـ أیضاً لما لها من إمتداد إلى یوم القیامة.
ظاهر هذه الآیة من سورة الدخان یدل على أنها تهدّد المشرکین بحادثة مدهشة لم تتحقّق لحد الآن. مع ذلک، فلمفسّری القرآن الکریم نظریات مختلفة فی هذا المجال نشیر إلى بعضها:
1ـ نفس الإستدلال الذی ذکرناه فی الجواب الاجمالی و الذی یرى أن هذا تهدید، لم یتحقق عملیاً لحدّ الآن و لا بد من إنتظاره فی سلسلة علامات بدایات المعاد و القیامة. و نسب هذا الرأی الذی ینسجم اکثر من غیره مع ظاهر الآیات إلى بعض المفسّرین أمثال الإمام أمیر المؤمنین (ع) و إبن عباس و زید بن علی و أبی هریره و الحسن البصری و غیرهم.[1]
2ـ التفسیر الآخر ما أشیر إلیه فی السؤال، و هذا التفسیر ناظر إلى أن هذا العذاب الموعود، هو نفس القحط الذی أصیبت به قریش بدعاء النبی (ص) علیها، و کأن أحدهم أصبح یرى فی السماء دخاناً من شدة الجوع و العطش و ضعف البصر الناجم عنهما، و إن لم یکن هذا الدخان موجوداً حقیقة.
و قد تبنى هذه النظریة بعض مفسّری أهل السنة، و هناک أحادیث فی صحیح البخاری و مسلم و الترمذی تؤکد هذا المعنى.[2]
ومن الواضح أن هذا التفسیر لا یمکن قبوله 100%، لأن القرآن الکریم قد هدد بظهور دخان حقیقی فی السماء لا أن الأمر مجرد موضوع فرضی مجازی ناشئ من خطأ فی الرؤیة. أَضف الى ذلک أن هذا التفسیر لا أثر له فی روایات أهل البیت (ع)، و حتى لو أشیر إلیه فی بعض الکتب الشیعیة، فلا یعنی ذلک أنه یمثل رأی مدرسة أهل البیت (ع) بل هو رأی تفسیری منقول عن التفاسیر السنیّة.
و مع ذلک من غیر المنطقی إنکار هذا التفسیر و الجزم بعدم مصداقیته بضرس قاطع 100%، بل لا بد من وضعه فی باب الإحتمال و لو الضعیف منه.
3ـ هناک نظریة ثالثة ترى أن هذا الدخان وعد إلهی و قد فُسّر فی هذه الآیة بالغبار و التراب الذی علا و إرتفع فی فضاء مکة فی أحداث فتح مکة نتیجة حرکة و جولان خیول المسلمین و إثارتها للغبار و التراب.[3]
و هذا التفسیر أیضاً لا ینطبق کثیراً مع هذه الآیة، و لیس له سند معتبر، إضافة إلى أن المشرکین فی فتح مکة قد استسلموا بدون حرب و لم یصبهم ضرر کبیر حتى یعدّ مصداقا للوعد الالهی بحلول العذاب المؤلم و المهول.
4ـ جاء فی بعض التفاسیر الشیعیة أن هذا الدخان تهدید إلهی، له علاقة بحادثة سماویة ستتحقق فی زمن الرجعة.[4] و لم یتضح جیداً فی هذا التفسیر أن هذه النظریة، هل إستدلال شخصی للکاتب أم لها سند روائی! و على فرض وجود نص فی الکتب الروائیة یدل علیها و انه نصل لروایة، فمع ذلک هی مرسلة و لا یمکن الإعتماد علیها فی إصدار حکم قطعی على أساسها.
و بطبیعة الحال، أن صاحب هذا الکتاب أولى باستدلال بحاجة إلى إعمال فکر و تأمل، و هذا الإستدلال یبتنی على أن هذا العذاب لا یمکن وقوعه فی یوم القیامة و لا فی الأزمنة المتصلة بها، إذ جاء فی مواصلة الکلام فی الآیة: "إِنَّا کاَشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِیلاً إِنَّکمُْ عَائدُون"،[5] و نحن نعلم أن عذاب یوم القیامة لا تخفیف فیه و لا رجوع، لذا فلا بد و إن یکون هذا التهدید له إرتباط بزمان لم یسلب فیه الإختیار بشکل کامل من البشر و هذا الزمان لیس إلا زمان رجوع الحکم لأهل البیت (ع).[6]
و بهذه الرؤیة، لا یحصل تضاد بین هذا التفسیر و التفسیر الأول، لأن حکومة أهل البیت (ع) فی آخر الزمان ستتحقّق کما أن لها إمتداداً إلى یوم القیامة بنحو من الأنحاء. و فی النهایة، یجب أن لا ننسى بأن لآیات القرآن الکریم القدرة و القابلیة فی أن تفسّر بتفاسیر متعددة تحمل على اکثر من وجه، و یمکن أن تکون هذه التفاسیر صحیحة و مقبولة بشرط عدم التناقض و التضاد. و یبدو أن التفاسیر المطروحة لهذه الآیة تتصف بعدم التناقض إلى حدّ ما، إلا ان أکثر التفاسیر وضوحاً و جلاءً لها هو الرأی القائل بأن هذا التهدید من علامات حدث سیقع فی المستقبل و ینتهی بالمعاد و قیام الساعة، و هذا یعنی أنه لم یتحقق حتى هذه الساعة. و فی هذا الإطار، لا یبعد أن تکون هذه الحادثة من علامات الظهور التی تتحقّق فی آخر الزمان.
[1] القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن، ج 16، ص 130، إنتشارات ناصر خسرو، 1364 ه ش.
[2] نفس المصدر، ص 131.
[3] نفس المصدر.
[4] القمی، علی بن إبراهیم، تفسیر القمی، ج 2، ص 290، مؤسسة دار الکتاب، قم، 1404 ه ق.
[5] الدخان، 15.
[6] القمی، علی بن إبراهیم، نفس المصدر.