و فی (فروع الکافی و من لا یحضره الفقیه و وسائل الشیعة)، عن سماعة بن مهران إنه سأل أبا عبد الله (ع) عن زیارة القبور و بناء المساجد فیها، فقال: أما زیارة القبور، فلا بأس بها، و لا یبنی عندها مساجد". و کذلک فی (من لا یحضره الفقیه) عن الإمام الصادق (ع): "کل ما جعل علی القبر من غیر تراب القبر فهو ثقل علی المیت". و فی (فروع الکافی و وسائل الشیعة) عن أبی عبد الله (ع): "ان النبی (ص) نهی أن یزاد علی القبر تراب لم یخرج منه".
و توجدروایة فی (من لا یحضره الفقیه و وسائل الشیعة) عن علی أمیر المؤمنین(ع) ما معناه: (من بنی علی قبر أو وضع تمثالاً فقد خرج من الإسلام). و فی (وسائل الشیعة) عن أبی عبد الله (ع): قال "قال أمیر المؤمنین (ع)بعثنی رسول الله (ص) إلی المدینة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها و لا قبراً إلا سویته...". و فی (الاستبصار و وسائل الشیعة عن علی بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسی (ع) عن البناء علی القبر و الجلوس علیه هل یصح؟ قال: "لا یصلح البناء علیه و لا الجلوس و لا تجصیصه و لا تطیینه".
القرآن الکریم ذکر بشکل صریح مسألة بناء المسجد علی قبور أصحاب الکهف فی ذکره لقصّتهم و قد أمضی ذلک و لم ینه عنه بل ذکره من مؤیداً کأمر مستحسن. هناک روایات کثیرة لا تعتبر العبادة قرب قبور أولیاء الله عبادة فحسب بل تعتبرها ذات ثواب مضاعف. من جهة ثالثة توجد روایات یبدو منها بالنظرة الاولی معارضة للآیة الکریمة و لروایات الطائفة الأولی، لکن لا بد أن یعلم بأن بعض الوقائع و الأمور الإجتماعیة مثل الارتداد للشرک و التکاثر و التفاخر و عدم الصبر و التحمل و بعض الأفکار الخرافیة و غیر المنسجمة مع الدین الإسلامی و ... التی تهدّد المجتمع الإسلامی، هی من جملة الأدلة التی أدت إلی منع اهتمام الناس المفرط بالقبور من قبل المعصومین (ع).
أضف الى ذلک اننا عندما نرجع الى سیرة المسلمین عامة وأهل البیت (ع) خاصة نجدهم قد شاهدوا بإم اعینهم البناء على قبر الرسول الاکرم (ص) و الائمة الاوائل کالامام الحسین (ع)، و لم ینهوا عن ذلک، و قد تحدث الرحالة و اصحاب التأریخ عن القبب و البناء على القبور أمام مرأى و مسمع علماء المسلمین کافة فهنا تجد قبرا مجللا لأبی حنیفة و هناک لعبد القادر و ثالث للشخیة الفلانیة اضف الى امتداد ذلک على بقاع العالم الاسلامی من شمال افریقیا الى بلاد الهند و ما جاورها، و لم ینه عنه الا قبل قرنین من قبل فئة اعتبرت نفسها مدافعة عن التوحید و کأن کل علماء الاسلام على مقر القرون و الایام لم یلتفوا لما التفت الیه الوهابیون!!، و هذا یکشف عن کون علماء المذاهب قاطبة کانوا یفهمون روایات المنع بنحو آخر لا یتنافى مع بناء القباب علیها.
کما قلنا فی جواب السؤال (5614 الموقع: 5922) فی نفس هذا الموقع، عندما نرجع الی الآیة 21 من سورة الکهف نراها تشیر الى الموقف من جثامین الفیة من اصحاب الکهف "قَالَ الَّذِینَ غَلَبُواْ عَلىَ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیهْم مَّسْجِدً"، و من هنا لا یمکن اعتبار بناء المسجد قرب القبور و الصلاة فیها لوحده اقداماً مخالفاً للموازین الإسلامیة، لکن الروایات الموجودة فی هذا المجال یمکن تقسیمها إلی قسمین متفاوتین قابلین للتقسیم:
القسم الأول: هناک روایات لا تعتبر الصلاة قرب قبور أولیاء الله (ع) جائزة فحسب، بل تعتبرها ذات ثواب مضاعف. و قد وصلت الی حد التواتر المعنوی أمثال هذه الروایات فی أحادیث أهل البیت (ع) إلی حد بحیث لا یبقی أی مجال لتوجیه مخالفتها، بحیث عقد صاحب وسائل الشیعة فصلا خاصا یحتوی علی أکثر من عشر أحادیث لتبیان ثواب الصلاة جوار قبر سید الشهداء الإمام الحسین (ع)[1] و لیس من الصحیح حمل تلک الروایات فی ظاهره علی حرمة أو کراهة بناء المسجد أو أداء الصلاة قرب القبور. ففی هذا المجال یجب القول: نحن و بسبب صراحة القرآن و روایات القسم الأول، فی جواز بناء المسجد و الصلاة قرب القبور، لابد أن نعتبر روایات القسم الثانی متعلقة بالنهی عن نوع من الاحترام الخاص للقبور الذی من شأنه أن یؤدی إلی الشرک أو الإسراف أو التفاخر أو استغلال شخصیة الموتی و...، أما الاحترام المتعارف لقبور أولیاء الله فهو غیر مشمول بهذا المنع و ذلک لأنه لا ینافی عبودیة الله سبحانه بل یکون فی طولها.
و بعبارة أخری، الآیة الشریفة و روایات القسم الأول، تبیّن حکماً ثابتاً أما روایات القسم الثانی فهی ناظرة إلی أحکام مقطعیة لم تذکر إلا لشروط خاصة. و الآن نبیّن لکم توضیحاً مختصراً فیما یتعلّق ببعض الموارد التی یمکن اعتبارها أدلة علی صدور روایات القسم الثانی:
1- مخالفة الأوامر الإلهیة: ففی النظرة الأولی یجب العلم بأن السجدة باتجاه القبور لوحدها لا یمکن اعتبارها شرکاً کما هو الحال بالنسبة للصلاة و السجود مقابل الکعبة فهی لیس بمعنی عبادتها، و یمکن أن نذکر أمثلة اخری للصلاة مقابل رموز اخری، و لکن هی لله سبحانه، کأمر الله سبحانه للملائکة فیما یخص السجود لآدم (ع).[2] و کذلک أمر الله سبحانه لکل المسلمین بأن یصلّوا إلی مقام إبراهیم (ع) بعد الطواف [3] و نحن نعلم أن هذا المقام لم یکن إلا محط أقدامه (ع)، فإذا کان البناء و الصلاة قربه أو مقابله مؤشّراً علی عبادة الله سبحانه و لا یعد من الشرک جزماً، فلا یُمکن أن تکون مثلاً الصلاة إلی جنب أو مقابل قبر إبراهیم (ع) فی فلسطین شرکاً، لکن و مع کل ذلک فبما أن الله سبحانه قد عیّن قبلة للمسلمین، لا یجوز انتخاب مکاناً آخر غیرها تعسّفاً و جعله قبلة أخری و إن کان مقدّساً. فلعل احتمال لعنة الیهود و النصاری من قبل النبی محمد (ص) هی بسبب إنهم اتخذوا قبور أنبیائهم قبلة لهم تعسفاً، و النبی (ص) کان قلقاً لئلا یتخذ فریق من المسلمین تعسّفاً بعد وفاته قبره قبلة لهم یصلّون إلیها بدلاً من الکعبة. فاذا انتفى هذا الخطر و ترسخت لدى المسلمین القبلة الحقیقیة فلا مانع من البناء حینئذ.
2- التکاثر و التفاخر: بمراجعتنا للتفاسیر[4] نواجه حادثة تاریخیة و هی ان مجموعة أفراد قبیلتین کانوا یتفاخرون، فکان أفراد القبیلة الاولی یتفاخر علی القبیلة الاخری برجالهم البارزین و المعروفین و یتباهون بهم أمامهم، و عندما لم یبق من الأحیاء أحد إلا ذکروه شرعوا بتعداد الأموات و ذکر خصائصهم و بطولاتهم و افتخاراتهم مقابل القبیلة الاخری حتی نزلت الآیات الأولی من سورة التکاثر "أَلْهَئکُمُ التَّکاَثُر* حَتىَ زُرْتمُُ الْمَقَابِر" فمن الطبیعی أن لا تکون هذه الرؤیة للأموات و استغلال أسمائهم و شخصیاتهم و بناء المقابر غیر العادیة –التی لا تکون إلا لارضاء أنفسهم- مقبولة و مؤیدة من قبل الإسلام، و لعل أکثر الروایات التی کانت تذم و تمنع بناء المقابر، منصرفة إلی أمثال هذه الموارد التی نشاهد الآن ما یشابهها –مع الأسف- فی بعض المقابر العائلیة.
3- المبالغة فی إظهار العزاء و المصیبة بالنسبة للمصائب العادیة: فمع ان الدین الإسلامی قد أوصی کثیراً بالصبر علی المصائب الحالّة بالإنسان، مع ذلک نشاهد الآن بعض الأفراد أصحاب العزاء علی الموتی العادیین، یتخذون سبیل الافراط و کأنما لا یعتقدون بأجر و ثواب الصابرین، و لعل بعض الروایات ناظرة إلی هذه المسألة و أنه یجب ألا یؤدی موت الأحبة إلی أن یعطل الإنسان حیاته الشریفة.
4- الاعتقاد بعدم انتفاع الموتی بتزیین القبور: کان الاعتقاد السائد سابقاً هو أن الموتی بعد الموت یحتاجون أیضاً إلی الغذاء و المکان المناسب و آلات الزینة و غیرها من الأمور الضروریة للحیاة الدنیویة، لذلک نجد فی بناء القبور الأثریة فی الحضارات القدیمة، آثاراً من هذه الأمور المادیة. فبعض الروایات قد تکون ناظرة إلی إنه لیس من الجدیر بناء القبور بهذه الکیفیة بما فیها من الامکانات المادیة، و هذه أیضاً لا یمکن أن یصل نفعها الی الموتی.
5- احتمال الارتداد إلی عبادة الأوثان: بما ان عرب صدر الإسلام، لا زالت بعض تصرّفاتهم یُشم منها رائحة الوثنیة، و لم یتطهّروا تماماً من الشرک آنذاک لذا فاحتمال رجوع عقائد الجاهلیة موجود و یُهدّد المسلمین باستمرار، لذلک اتخذ النبی الأکرم (ص) اتجاه بعض المباحات موقفا شدیدة حتی یستئصل الشرک من جذوره. و من الطبیعی لا حاجة إلی هذه الشدة بعد استئصاله من جذوره. فمن جملة هذه الاقدامات: أمر النبی محمد (ص) بکسر الأوانی التی کان یُشرب بها الخمور و تحفظ به، مع علمنا بأن الفقهاء لم یفتوا بذلک حیث لا یوجد فقیه یقول بوجوب کسر تلک الآنیة، و هذا یعنی أنهم فهموا من موقف الرسول (ص) ذلک أنه کان إجراءا مقطعیا فقط.
فبعض ردود الفعل الشدیدة التی اتخذت فی صدر الإسلام بالنسبة لما یتعلّق بالقبور یمکن أن نجعلها ضمن هذا الاطار. کمثال علی ذلک، ان أهل السنة یعتقدون بأن النبی الأکرم (ص) کان یمنع المسلمین ابتداءً من زیارة القبور ثم و بمرور الزمان لم یرفع هذا المنع عنهم فحسب، بل أوصاهم به و جعل زیارة القبور مما تذکر بالموت و القیامة و تزهد بالدنیا.[5]
بناءً علی ما مضی و نظراً للواقع الموجود، فیما یخص المراقد الشریفة لأئمة الشیعة (ع) یمکن الانتهاء إلی هذه النتیجة و هی: ان البناء فی أطراف مراقدهم الشریفة (ع) لا یختلف کثیراً عن بناء المسجد علی قبور أصحاب الکهف الذی عدّ فیما بعد مکاناً لعبادة الله سبحانه وان الامکانات المادیة الموجودة التی هی أما لرفاه الزائرین أو رمز من رموز الفن الإسلامی، لا یُمکن أن تکون مصداقاً للأمور المنفیة التی لها ارتباط بالقبور. لذلک لا یُمکن أن نعتبره عملاً غیر مقبول شرعاً.
و من الجدیر بالالتفات الیه ما نشاهده الیوم من حالات مشابهه لما ورد فی السؤال ناشئة من احتیاجات العصر الحاضر فی بناء بعض الأماکن المقدسة فی الحرمین الشریفین، منها:
1- مع علمنا بأن للعبادة علی جبل الصفا فی مکة ثوابا عظیما حسب ما جاءت به روایات الشیعة و السنة، نجدهم الیوم و بسبب المحافظة علی هذا الجبل التاریخی المقدّس جعلوا حوله حصاراً و بنوا علیه قبّة، بحیث لا یُمکن لزائری بیت الله الحرام إلا أن یقفوا جنب هذا الحصار و ینشغلوا بعبادة الله سبحانه، کما ان السعی بین الصفا و المروة الذی کان یؤدی سابقاً تحت السماء و فی فضاء مفتوح، بنوا الآن فوقه طبقات مختلفة بحیث صار یؤدی بمحیط مغلق، متعلّلین بأن هذا العمل جاء لتلبیة حاجات الزائرین الذین یزداد عددهم یوما بعد یوم.
2- مع أن رعایة حرمة الکعبة واجبة علی کل حال، بحیث تذکر بعض الروایات کراهیة ارتفاع کل بناء فی مکة بحیث یعلوا الکعبة،[6] نشاهد الیوم عمارات ارتفعت فی أطراف المسجد الحرام بحیث وصل ارتفاعها إلی عشر أضعاف ارتفاع الکعبة، و من المؤکّد لم یذکروا لهذا العمل توجیهاً إلا حاجة الزائرین و رفاههم.
الآن سؤالنا هو، ألا یمکن و بهذه الأدلة، أن یهیّؤا لزائری البقیع- الذین یأتون للزیارة بکل مشقة و عناء علی رغم کل القیود الکثیرة و الازدحام الشدید- المجال المناسب و المسقف؟ و إذا لم یکن وضع القبة علی أعلی جبل الصفا و المروة مؤشّراً علی الشرک، کیف تکون نفس هذه القبة إذا بنیت علی قبور أولیاء الله تعد مؤشّراً علی الشرک و الوثنیة؟!
وفی الختام نثیر انتباهکم إلی روایة من صحیح البخاری عن أبی بکر بن عیاش عن سفیان التمّار أنه حدّثه إنه رأی قبر النبی (ص) مستناً، (یعنی کالقبة الصغیرة).[7] فإذا کان بناء القبر سابقاً علی شکل بحیث یخیل للناظر إنه کالقبة الصغیرة جائزاً، هل فی بناء قبة أکبر علی القبر اشکال؟
أضف الى ذلک إن الموقف العلمی للمسلمین خیر شاهد على جواز البناء، فنحن عندما نرجع الى سیرة المسلمین عامة وأهل البیت (ع) خاصة نجدهم قد شاهدوا بإم اعینهم البناء على قبر الرسول الاکرم (ص) و الائمة الاوائل کالامام الحسین (ع)، و لم ینهوا عن ذلک، و قد تحدث الرحالة و اصحاب التأریخ عن القبب و البناء على القبور أمام مرأى و مسمع علماء المسلمین کافة فهنا تجد قبرا مجللا لأبی حنیفة و هناک لعبد القادر و ثالث للشخیة الفلانیة اضف الى امتداد ذلک على بقاع العالم الاسلامی من شمال افریقیا الى بلاد الهند و ما جاورها، و لم ینه عنه الا قبل قرنین من قبل فئة اعتبرت نفسها مدافعة عن التوحید و کأن کل علماء الاسلام على مقر القرون و الایام لم یلتفوا لما التفت الیه الوهابیون!!، و هذا یکشف عن کون علماء المذاهب قاطبة کانوا یفهمون روایات المنع بنحو آخر لا یتنافى مع بناء القباب علیها.
[1] الحر العاملی، محمد بن الحسن، ج14، ص517، باب 69- استحباب کثرة الصلاة عند قبر الحسین (ع) فرضاً و نقلاً ...، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 هـ.ق.
[2] البقرة، 34؛ الاعراف، 11؛ الاسراء، 61؛ الکهف، 50؛ طه، 116. " ".
[3] البقرة، 125 " وَ اتخَّذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلى".
[4] القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن، ج21، ص169، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1364 هـ.ش.
[5] سنن إبن ماجة، ج1، ص501، ح1571، تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی، دار الفکر، بیروت "کنت نهیتکم عن زیارة القبور، فزوروها فإنها تزهد فی الدنیا و تذکر الآخرة". اقرؤا فی هذا المجال الجواب رقم 8146 (الموقع: 8926).
[6] الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج13، ص235، الباب 17، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 هـ.ق.
[7] صحیح البخاری، ج2، ص106، دار الفکر، بیروت، 1401 هـ.ق.