الکثیر من المفسرین الکبار سواء کانوا من أهل السنة أو الشیعة یقولون أن قوله تعالى: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلامَ دِینًا» هی جملة اعتراضیة فی سیاق الآیة الثالثة من سورة المائدة، کما أن الجمیع متفقون على أن موقع هذه الآیة فی القرآن هو بإذن النبی (ص) و إنها کانت فی هذا الموقع منذ البدایة. ذلک لأن الحق تعالى أوکل مهمة ترتیب الآیات إلى نبیه (ص). و أما فیما یخص القول بأن الأمر متروک للأمة فذلک ما یتنافى مع کون وحدة القرآن کإعجاز إلهی و أنه کلام صادر عن الله سبحانه، لأن أحد وجوه إعجاز القرآن وحدة سیاقه و انسجام تراکیبه، و من المعلوم فإن الإخلال بأی نحو من هذه الأنحاء کالترتیب و التنسیق و تتابع الآیات فی أی مجموعة یؤدی إلى تفکیک المجموعة و تلاشیها تماماً.
و أما فیما یخص القول بأن استبدال مواقع الآیات من قبل أهل السنة و المعاندین لخلافة علی (ع) فهو أمر مرفوض و مردود.
ذلک لأن حساسیة النبی الأکرم (ص) شدیدة إزاء نص القرآن و مراقبته دقیقة فی أمر کتابته من قبل أعیان الصحابة من أمثال علی (ع) و ابن عباس، و ذلک ما شکل مانعاً من ظهور الاختلاف و التحریف و نقل الآیات من مکان لآخر.
و أما القول بالتحریف فی زمن الخلفاء الثلاثة فإنه منتفٍ أیضاً؛ لأن المصاحف الموجودة فی ذلک العصر و التی جمعت بأمر من عثمان بن عفان کانت على درجة من الشهرة، کما أنها حضیت بتأیید أمیر المؤمنین (ع)، و لم یصلنا عنه اعتراض أو کلام یدل على حدوث التحریف أو التغییر فی زمن حکومة الخلفاء الثلاثة، و کذلک فی عصر الأئمة الآخرین (ع)، فإن الروایات الدالة على ثواب القراءة و حفظ القرآن و غیرها تدل على صیانته و سلامته، و إن المسلمین لم یمسوا الکتاب بالتغییر أو أی لون من ألوان التصرف. وکذلک فإن هذا الاحتمال باطل حتى بعد عصر الأئمة المعصومین (ع)، و ذلک لعدم وجود أحد من المفسرین و أهل الفکر و النظر انتابه الشک فی حجیة القرآن، أو أنه یقول باستبدال مواضع آیاته.
هذا مع بقاء نسخ من القرآن فی خط النسخ و الکوفی ترجع إلى عصر الأئمة (ع)، بحسب تشخیص الخبراء و أهل الفن، و ما زالت باقیة إلى یومنا هذا. و قد أیدوا قدمها و قطعوا به، و من الملفت أن بعض هذه المصاحف ینسب إلى الأئمة (علیه السلام).
و خلاصة القول: مع قبول فرض وجود الاعتراض فی فقرة «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلامَ دِینًا» مع الآیة الثالثة من سورة المائدة فلا دخل لأیدی المعاندین فی ذلک، و إنه خارج عن عهدة الرسول الأکرم (ص)، و إنه أمر من مختصات الحق تعالى.
ولکنه یحتمل أن یقال أنه لا وجود للتعارض الخاص بین الفقرة و سائر سیاق سورة المائدة، ذلک أن من الواضح جداً لأهل الفکر أن جو السورة هو التأکید على حفظ العهد و الوفاء به، و لذلک فلا یخلو من وجه أن یضع الله سبحانه أعظم عهد من عهوده و هو ولایة أمیر المؤمنین (ع) فیما بین سائر العهود التی اتخذها على الناس من قبیل التشریع و الأحکام، حتى لا یکون عرضة للنسیان و الإغفال على مرور الأیام و الأزمان. و لذلک نرى أن آیة إکمال الدین و إتمام النعمة وضعت بین آیات الأحکام و التشریع.
فیما یخص الفقرة «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلاَمَ دِینًا»[1] یوجد فرضان أساسیان:
أ- إن هذه الفقرة التی تخص ولایة أمیر المؤمنین (ع) واقعة کجملة اعتراضیة، لها نوع تباین مع ما قبلها وما بعدها.
ب- مع وجود الاختلاف الظاهری بین الفقرة المذکورة وما یحیطها من الآیات، إلاّ أن قلیلاً من الدقة یجعلنا نکتشف و ندرک وجود الارتباط بین الفقرة و سیاق الآیات المحیطة بها.
توضیح الفرض الأوّل:
إذا أردنا أن نصل إلى الجواب الصحیح فلابد من دراسة التعارض المشار إلیه من حیث الأسباب و العلل المتعلقة به.
أ- 1. إن الجملة المعترضة التی وردت بین آیات سورة المائدة کانت منذ بدایة نزول الوحی و إنها بأمر الله و إرادته.
أ- 2. إن ما حدث لها من الانتقال و تبدیل الموقع کان بإذن رسول الله (ص) و بأیدی کتاب الوحی الأوائل.
أ- 3. إن تبدیل موقع الفقرة کان على أیدی المعاندین لولایة علی (ع)، و إنهم أقدموا على ذلک لأجل إخفاء دلیل إمامته.
و حیث أن السؤال یلتقی بالاحتمال الثالث بشکل مباشر لذلک نقدمه على الاحتمالین الآخرین، و نبدأ البحث فیه:
أ-3:إن ما یفرض من تدخل المعاندین فی أمر الوحی - فی حالة قبوله - أما إن یکون فی عصر النبی الأکرم (ص) ، و أما فی عصر الأئمة المعصومین (ع)، و الاحتمال الثالث ما بعد عام 329 هـ ق بعد رحلة آخر نائب من نواب الإمام الخاصین و هو علی بن محمد السمری، و لکن الحساسیة الخاصة لدى الرسول الأکرم (ص) إزاء القرآن و العلاقة الشدیدة لکتاب الوحی بهذا الکتاب الإلهی، و إضافة إلى حفظ القرآن الکریم و تناقله فی الصدور، کل ذلک یرقى إلى مستوى القطع بعدم إمکانیة وقوع تحریف القرآن أو تبدیل محالِّ آیاته مما یوجب التشویش و الاختلاط فی آیاته و فقراته و الإخلال بنظامه و سیاقاته المترابطة.
أما إذا قلنا أن بعثرة الآیات الشریفة فی القرآن وقعت فی زمن اغتصاب الخلافة و إخفاء الحق فی زمن بنی أمیة و بنی العباس، ففی ذلک تسلیم لخلاف الواقع. و ذلک للأسباب التالیة:
أوّلاً: إن الکتاب الکریم تم تدوینه فی زمن النبی الأکرم (ص)[2]، و تم إرساله فی العقود الأولى إلى مختلف المناطق[3]، مما أتاح لعموم المسلمین الاطلاع علیه و معرفتهم بآیات القرآن الکریم، هذا مع أن صحابة الرسول على معرفة کاملة بنصوص الآیات و مواقعها و ترتیبها، فلا یبقى أی مجال لجماعة أخرى أن تعمل النظر أو تقدم على عمل یفضی إلى استبدال آیات القرآن و تحویلها عن مواضعها.
ثانیاً: إن الإمام علیا (ع)، و خلال أیام حکومته منذ العام 35 إلى 40 هـ کان یمتلک القدرة السیاسیة و الإمکانات اللازمة لرفع و تلافی التحریف فی حالة وقوعه، و لکن لم یرد عنه أی موقف من هذا القبیل و لم ینه أحداً عن العمل بهذا المصحف، بل الأکثر من هذا إنه نقل عنه تأیید المصاحف التی جمعت فی عهد عثمان، و قال:« لو کانت الأمور بیدی لفعلت کما فعل عثمان»[4]، یضاف إلى ذلک روایة الإمام (ع) فی جواب طلحة حین قال: فأخبرنی عما کتب عمر و عثمان، أقرآن کله أم فیه ما لیس بقرآن؟ فقال (ع): « بَلْ قُرْآنٌ کُلُّهُ. قَالَ إِنْ أَخَذْتُمْ بِمَا فِیهِ نَجَوْتُمْ مِنَ النَّارِ وَ دَخَلْتُمُ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ فِیهِ حُجَّتَنَا، وَ بَیَانَ حَقِّنَا، وَ فَرْضَ طَاعَتِنَا».[5]
إذن لم یرد أی نهی فی زمن أمیر المؤمنین و الأئمة المعصومین(ع) یمنع من التمسک بالقرآن الکریم و الرجوع إلیه، بل إن ما ورد من أخبار و روایات فی ثواب القراءة و حفظ القرآن، ورد الأحادیث إلى الآیات و ... یتضمن تأییدات کثیرة على أن الآیات القرآنیة لم تمس و لم ینلها أی تغییر أو تبدیل سواء بلحاظ الترتیب أو المحتوى.
أما القول بأن ید التحریف امتدت إلى القرآن من قبل المعاندین بعد الغیبة الصغرى فذلک مما لا یقبل أیضاً، للأسباب التالیة:
أوّلاً: توجد نسخ خطیة عدیدة تنسب إلى الفترة الزمنیة التی تلی الغیبة الکبرى حتى أن بعضها ینسب - بحسب الظاهر - إلى الأئمة (ع)، و ثانیاً: أنه لا یوجد عالم مختص بعلوم القرآن - حتى أولئک الذی یقبلون التحریف من جهة النقص-[6] لهم قول أو کلام فی مسالة ترتیب القرآن کما هو علیه حیث انهم لم یقبلوا وقوع التحریف ای التغییر فی الترتیب ونظم الآیات فی تلک الفترة، و الکل متفق على حجة القرآن الموجود بالکامل.
أ- 2: و الآن جاء دور الاحتمال الثانی، و هو أن تغییر و تبدیل مواضع الآیات کان من قبل الرسول (ص)، و مع أن هذا الفرض خارج عن دائرة السؤال، إلاّ أن الإجابة عنه لا تخلو من فائدة و وجه.
یرى بعض مفسری الشیعة الکبار،[7] أن القول بإیکال ترتیب الآیات إلى النبی (ص) احتمال قوی، و یقول فی ذلک: إن القول بأن الأمر ترک للأمة - و مع کثرة القائلین به - إلاّ أن الأدلة التی أقیمت ضده کثیرة، منها: أوّلاً: إن القرآن معجزة إلهیة و هو معجزة کمجموعة واحدة متکاملة و متناسقة بمثابة کل واحد، إذا زال منه جزء یکون سبباً فی فقدانه لهذه الکلیة، مما یؤدی بهذه المجموعة المتناسقة إلى التبعثر و التشتت.
فقد أثبت فی الکتب المفصلة المختصة بعلوم القرآن؛ أن أحد جوانب إعجاز[8] القرآن هو التنسیق و الانسجام فی صیاغاته، إذن فترک ترتیبه إلى الأمة - و حتى إلى النبی - یوجب أن لا یکون هذا الکل الواحد من عند الله سبحانه، و حیث أن النتیجة باطلة فمن المستبعد أن یترک ترتیب الآیات إلى النبی (ص)، و یحتمل أن یکون باطلاً.
و هناک أدلة أخرى تثبت هذه الدعوى نحیل القارئ إلى مراجعة الکتب[9] الخاصة فی هذا المجال.
أ- 1:و المورد الذی یبقى لدینا فی الاحتمال (ألف) هو أن یکون وضع آیة الغدیر فی هذا الموضع کجملة اعتراضیة بالنسبة لما قبلها وما بعدها هو أمر و إرادة إلهیة، و إنها کانت منذ البدایة فی هذا الموضع من دون أن یتدخل أی شخص فی هذا الأمر بما فی ذلک رسول الله (ص).
و لکن ما هی الفلسفة من وراء هذا العمل، فذلک ما یخفى علینا و ما نجهله. و لکن مع ذلک عرضت بعض الأدلة الاستحسانیة فی هذا الصدد نشیر إلى نموذج منها:
إن الله سبحانه و تعالى لم یصرح بذکر الإمام علی (ع) و لم یشر إلیه بالاسم من أجل تجنب تفرقة الأمة و ابتعادها عن القرآن الکریم، و إن وضع هذه الآیة فی وسط آیات الأحکام حتى یتجنب إثارة المعاندین و وقوفهم بوجه القرآن الکریم، و مثال ذلک ما یفعله البعض من وضع حاجاته الثمینة خلال الأشیاء التی لا قیمة لها لیبعدها عن الأنظار.
و ما تقدم من القول مبنی على أننا نقبل التعارض بین آیة الولایة و الآیات الأوّل من سورة المائدة.
ب- و لکن یوجد احتمال بوجود اتحاد مفهومی بین الآیة و ما یحیط بها من الآیات فی هذه السورة، و یظهر ذلک من خلال التدبر فی آیات سورة المائدة، و هو أن الأجواء الحاکمة على آیات هذه السورة هی أجواء الوفاء بالعهد و تنفیذه سواء العهد المأخوذ من الله على عباده أو العهود التی تکتب و تنشأ بین الناس أنفسهم، و من العهود التی اتخذها الله على نفسه للناس أن یکمل لهم دینهم و یتم علیهم نعمته، و ذلک بقبول ولایة أمیر المؤمنین (ع) بعنوان خلیفة لرسول الله (ص) و خلیفة الله فی أرضه. و هذا العهد یتضمن جانباً آخر لأن الولایة تستوعب کل جوانب الحیاة بالنسبة إلى الإنسان الفردیة منا و الاجتماعیة. و لذلک تم التأکید على هذه البیعة باعتبارها المصداق الأبرز للعهد الإلهی لله على الناس، و قد وضع هذا العهد ضمن سلسلة العهود الإلهیة الواردة فی سورة المائدة حتى لا یکون مورداً للنسیان و الإهمال على مرور الأیام و الأعصار. إذن فمن المحتمل أن یکون وضع هذا الجملة فی هذه السیاق لهذا الحکمة.
و للإطلاع بشکل أوسع على واقعة الغدیر و آیاتها و مبارکة الصحابة لأمیر المؤمنین على(ع) ذلک یلزم الرجوع إلى المصادر التالیة:
1- مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص84 إلى 370؛ ج 6، ص401.
2- سنن ابن ماجه، ج 1، ص55 إلى 60.
3- المستدرک على الصحیحین، الحاکم النیسابوری، ج 3، ص118 و 613.
4- الغدیر، العلامة الأمینی، ج 1.
فهرست المصادر:
1.جرجی زیدان، تاریخ الحضارة الإسلامیة.
2.جواد علی، المفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام.
3.الشیخ أبو عبد الله الزنجانی، تاریخ القرآن.
4. أحمد ابن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی.
5.علی بن الأثیر، الکامل فی التاریخ.
6. سلیم ابن قیس الهلالی، کتاب سلیم بن قیس.
7. عبد الرحمن السیوطی، الإتقان فی علوم القرآن.
8. السید محمد حسین الطباطبائی، المیزان فی تفسیر القرآن.
9. السید أبو الفضل میر محمدی، تاریخ و علوم قرآن ، تاریخ و علوم القرآن.
[1] المائدة،3.
[2] من الخطوط التی یکتب بها العرب قبل الإسلام الخطی النبطی الذی انتشر فی قبیلة الأنباط فی شمال الحجاز، و لکن بعد مدة انبثق عنه خط النسخ، حتى صار الخط الخاص للقرآن الکریم. جواد علی، المفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام، ص153؛ انتشارات دار العلم، بیروت، لبنان؛ الشیخ أبو عبد الله الزنجانی، تاریخ القرآن، ص48، انتشارات دفتر تبلیغات إسلامی.
[3] عمد عثمان بن عفان إلى استنساخ عدة نسخ من القرآن فی عصره و أرسل بها إلى أطراف العالم الإسلامی و المدن الکبرى فیه منها: الکوفة، البصرة، مکة، الشام، البحرین، مصر، الیمن، و ... أحمد ابن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی، ج 2، ص158، انتشارات دار صادر، بیروت، لبنان.
[4] علی بن الأثیر، الکامل فی التاریخ، ج3، ص 112،، دار صادر بیروت.
[5] سلیم ابن قیس الهلالی، کتاب سلیم بن قیس، ص312، انتشارات الهادی، قم.
[6] عبد الرحمن السیوطی، الإتقان فی علوم القرآن، ، ج1، ص72، المکتبة الثقافیة، بیروت، لبنان .
[7] السید محمد حسین الطباطبائی، المیزان فی تفسیر القرآن، ج5، ص275، دفتر انتشارات إسلامی.
[8] السید أبو الفضل میر محمدی، تاریخ و علوم قرآن ، تاریخ و علوم القرآن، ص197، دفتر انتشارات إسلامی،
[9] انظر: مناهل العرفان، ج2، ص309.