یرجع التدرج فی أمر الدین إلى قدرات الإنسان الفکریة و الروحیة من جانب، و إلى احتیاجاته و ابتلاءاته الدنیویة و الاجتماعیة من جانب آخر. و بما أن الإنسان القدیم لا یمتلک القدرات الفکریة اللازمة، فهو غیر مؤهل فکریاً لتلقی معارف و علوم العصور اللاحقة، و کذلک الحال بالنسبة للإنسان السابق لبعثة النبی (ص)، فإنه لا یمتلک المؤهلات الفکریة و المعنویة اللازمة لهضم تعالیم الإسلام. کما کان الإنسان القدیم یعیش فی نظام العائلة دون الحاجة إلى النظام الاجتماعی و علاقاته و قوانینه، فإنه ما کان یمتلک المؤهلات الفکریة التی یتصور معها حاجته إلى أحکام الاجتماع و أسالیب الحیاة فیه، و هکذا فإن الحیاة الاجتماعیة الضیقة و المحدودة قبل الإسلام لا تؤهل الإنسان للإحساس بالحاجة إلى قوانین الإسلام الشاملة، و لذلک فتعلیم هذه القوانین التی تتعدى الإمکانات الفکریة و محاولة فهمها أمر لغوی و عبثی، بل إنه من قبیل التکلیف بما لا یطاق. و لکن بعد أن تقدمت المجتمعات و بلغت فی تدرجها مراحل فکریة و روحیة متقدمة وضعت فی متناول أیدیها قوانین و معارف أساسیة تؤمن لها أسباب رقیها و تقدمها فی الدنیا و الآخرة و إلى الأبد.
الهدف من تشریع الدین و جعل التکالیف هو هدایة الإنسان إلى الترقی و التعالی و تحریره من قیود الدنیا التی تکبله لینطلق فی مسیره باتجاه قمة إنسانیته الواقعیة، و من جهة أخرى فإن قدرات الإنسان العقلیة و الروحیة و حاجاته من جانب آخر هی أیضاً فی حالة ترقٍ و تقدم و تکامل. فلیس له فی بدایة أمره المؤهلات الکافیة لتلقی التعالیم التی تتناسب مع مراحله الأخیرة.
فالإنسان بالنسبة إلى تلقی نظم و قوانین الوحی الإلهی أشبه بالطفل فی مراحله الأولى الذی لا یتحمل فی بدایاته إلاّ الیسیر من المفاهیم و تعلم بعض الحروف و الإعداد، لیعد تدریجیاً و یؤهل لتلقی التعلیم و التربیة فی المراحل الأخرى، و بذلک یتمکن من تخطی مراحل تعلمه بکل لوازمها و تفاصیلها و تقدمه بموفقیة و نجاح، حتى یصل إلى المرحلة الأخیرة التی یمکن أن یطلق علیه عند إتمامها أنه أتم تحصیله و أنهى دراسته، و حینها یستفید الآخرون مما حصل علیه من خلال سعیه و جهده، کما هو الحال بالنسبة للطفل فی مرحلته الابتدائیة الأولى لا یمکن أن یعطی ما یناسب المراحل المتقدمة، و کذلک لا یمکن أن یکلف طالب السنة الأخیرة فی المدارس الإعدادیة بالمنهج الجامعی. و هکذا فالإنسان فی مراحله الأولى لا یمکن أن یتلقى تعالیم أنبیاء العصور المستقبلیة، بل لا حاجة له فیها، و کذلک العصور المتقدمة و الامم السالفة على الإسلام لا إمکان لدیهم لتلقی تعالیم النبوة الخاتمة التی بشر بها محمد (ص).
إضافة إلى ذلک فإن المحدودیة فی عمر الأنبیاء (ع)، و قدراتهم الفکریة و الروحیة تشکل عاملاً آخر و علة فی مسألة تدرج الدین وتکمیله على مراحل. مع أن الأمر المسلم هو أن کل نبی هو الأفضل و الأکمل بالنسبة إلى معاصریه و من جمیع الجهات و الحیثیات، و من هنا قال النبی الأکرم (ص): «... و لا بعث الله نبیاً (و لا رسولاً) حتى یستکمل العقل، و یکون عقله أفضل من جمیع عقول أمته»[1].
و کذلک قال الإمام العسکری (ع): «فلما استکمل أربعین سنة و نظر الله عز و جل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب و أجلها و أطوعها و أخشعها و أخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت و محمد ینظر إلیها».[2]
إذن فالمعرفة الدقیقة بسعة العقل و شرح الصدر و سائر القدرات الباطنة و المعنویة بالنسبة للإنسان لا یمکن أن تتأتى إلاّ لله سبحانه، فهو أعلم حیث یجعل رسالته.[3] و إن إمکانیة اختیار النبی و الإمام مفقودة لدى البشر، و لهذا فإن حجم التعالیم و کیفیتها و زمان تجدید الشرائع و نسخ الشرائع المتقدمة کل هذا منوط بالله سبحانه و موکل إلى علمه و حکمته و إذنه. و کل هذه المسائل خارجة عن قدرات الإنسان و إمکانیاته.
کما أن محدودیة دائرة التبلیغ و الانتشار و وسائل الإعلام بالنسبة للأمم السالفة هی عوامل إضافیة و موانع تحول بین بقاء الدین إلى زمن بعید لیصل إلى جمیع أفراد الإنسان.
و إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تقدم من محدودیة الحفظ و التوثیق و ضعف وسائل نقل المعلومات من جانب، و بعد الفاصل الزمنی عن عهد النبی من جانب آخر حیث یتسبب ذلک البعد الزمنی بالنسیان و السهو و التحریف المؤثر من قبل کبار القوم للتعالیم و الأحکام الإلهیة، مما یسبب تلاشی و ضیاع الغرض من تعالیم الدین الذی یتمثل بهدایة الناس. أما بالنسبة إلى الإسلام فإن تأکید هذا الدین على الضبط و (التدوین) و حفظ مواریث الماضین و اتساع ظاهرة التبادل الثقافی و تراکمها و سیطرة النقد و محاکمة الأجواء الثقافیة فإن المشکلة و الموانع السابقة أزیلت بالکامل.
کل الذی تقدم فی جانب، و خصوصیة بعض التشریعات و الأحکام و اختصاصها بمقطع زمنی معین من جانب آخر، فمثلاً جاءت بعض التحریمات بمثابة العقوبات و الحدود التعزیریة التی تحمل جنبة المجازاة بالنسبة إلى الیهود، و عندما جاء المسیح (ع) رفعت تلک التحریمات.[4]
و الإسلام لم یکن مستثنى من هذا الأمر، و لذلک فقد وصل إلى تکامله بالتدریج و على مدى 23 عاماً، و قد جاءت بعض أحکامه بشکل تدریجی، کأحکام تحریم الخمر و القمار و حد الزنا و غیرها، و إن مناسک حج التمتع کملت فی آخر حجة لرسول الله (ص) أی فی العام العاشر للهجرة النبویة (23 للبعثة).
و بعض الأحکام تعرضت للنسخ کالصدقة فی حالة النجوى[5]، وإن هذا الأمر غیر خاف على أی حکیم أو سیاسی، و هو أن تغییر أوضاع المجتمع و إحداث التحولات فی بنیته الأساسیة و هز قواعده الفکریة و العقائدیة و استبدالها لیس بالأمر الهین الذی یتم بین عشیة أو ضحاها، خصوصاً إذا کانت تلک العادات و الأحکام و العقائد مما توارثته الأجیال وتقادمت علیه العصور، فکیف إذا ما کان مشفوعاً بالعصبیات الجاهلیة المستحکمة و الحاکمة.
نعم کان النبی یمتلک المؤهلات اللازمة لتلقی الدین دفعة واحدة فی لیلة القدر أو لیلة المعراج. و أما سائر الناس، فلم یکن لهم الاستعداد الکافی و القدرات العقلیة و الروحیة لتحمل التحول الفجائی الدفعی فی زمان واحد، لیتعلموه و یطبقوه. و کذلک فإن الإمام علیا (ع) واجه المشکلة ذاتها عندما حاول تطهیر المجتمع من البدع، و لم یعط الوقت الکافی لإصلاح المجتمع، و بقیت هذه المعضلة مستمرة إلى آخر عهد النبی (ص)، و مع أن القرآن قد اکتمل و تم، و لکن تفسیره و تأویله لم یکن فی مستوى فهم الناس أو مما یقع مورد ابتلائهم فی ذلک الوقت.
و لذلک فإن تعالیم الإسلام أودعت فی صدر علی (ع) الواسع المنشرح لها، لیکون هو المرشد و الهادی و مبین الأحکام للأمة، و قد انتقل هذا الأمر منه إلى سائر الأئمة (ع) و کان همّ الأئمة و شغلهم الشاغل تربیة عدد من طلاب العلم و المعرفة و کذلک تأهیل الأمة لیتمکن الجمیع من خلال الرجوع إلى الکتاب و السنة، النهج النظری و العملی و تعالیم النبی (ص) و الأئمة (ع) ان یشقوا طریقهم حتى عصر الظهور على صعید رفع الاحتیاجات العلمیة و الفکریة و الأخلاقیة و الشرعیة للأمة فی ذلک المقطع الزمنی من تاریخها، خصوصاً و إن منبع الوحی الأصیل (القرآن الکریم) بقی مصوناً من أی تحریف و تغییر لیکون المرجع و الملاک الذی تعرض علیه الأحادیث لمعرفة الموضوع فیها من الصحیح.
و قد أثبت منهج علماء الشیعة و مسیرتهم العلمیة أن هذا الدین دین کامل، و أنه قادر على تلبیة الحاجات البشریة الدنیویة و المعنویة و یعطی الأجوبة الشافیة لکل التساؤلات. و لو لم یسد الأعداء الطرق و یضعوا الموانع؛ فإن هذا الدین یتمکن من تأمین العدل و القسط و ینشر الصلح و السلام و الصفاء فی ربوع الأرض مع أن الوعد الإلهی یؤکد أن الظالمین لا یرفعون أیدیهم عن عنادهم و إصرارهم على الوقوف بوجه العدالة و تطبیق أحکام الدین و إجراء تشریعاته، حتى تکون نهایتهم على الید المقتدرة للمصلح الموعود(عج) ذلک عندما ترفع کل الموانع وتمهد السبل لتتحقق العدالة بأجلى صورها و سعتها و شمولها.
المصادر:
1- السبحانی، جعفر، الإلهیات، ج3، ص22-64، 485 - 528، 225.
2- الشیروانی، علی، درسنامه ی عقاید، "دروس عقائدیة" ، ج1 و 2، الدروس 29، 31، 35.
4- مصباح الیزدی، محمد تقی، راه و راهنماشناسى" الطریق إلى المعرفة"، ج4، ص1-55؛ ج5، ص13_56، 177 - 189.
5- المطهری، مرتضى، خاتمیت" الخاتمیة"، ص37-63 ، 99 ، 143-163.