قاعدة الفیض عند المسیحیین لها اهمیة خاصة، و هي قریبة الی حد ما من قاعدة اللطف عند المسلمین. و رغم تشابه هاتین القاعدتین في بعض الموارد، الا ان بینهما اختلافات عمیقة، بحیث ان اتباع احدی القاعدتین لا یدرجون ضمن اتباع القاعدة الاخری. و هذا الامر یقلل کثیراً من احتمال استنساخ احد الطرفین من الآخر.
قبل التعرض للجواب ینبغي أن نری اولاً ما هي القاعدة التي تکون قریبة عند المسیحیین من قاعدة اللطف الاسلامية، ثم التعرض للتعریف و بحث هذه الامور والخروج بالاجابة المناسبة من خلال دراسة اوجه الشبه و الاختلاف.
یبدو - کما ذکر في متن السؤال- أن اقرب قاعدة في المسیحیة الی قاعدة اللطف الاسلامية هي قاعدة الفیض. و لکن قاعدة اللطف لها معان مختلفة عند القائلین بها. و نحن نذکر هنا باختصار بعض هذه المعاني و التعاریف.
قاعدة اللطف في کلام الشیعة:
تکلم علماء الشیعة في مواضع متعددة من کتبهم الکلامیة عن هذه القاعدة، و اتفقت كلمتهم تقریباً علی تعریف هذه القاعدة.
یقول الشیخ المفید: اللطف هو عبارة عن ما یقرب المکلف من الطاعة و یبعده عن المعصیة، من دون أن یؤثر في اصل القیام بالتکلیف و لم یصل الی حد الالجاء.
ویقول الشیخ الطوسي: اللطف عبارة عن ما یدعو الانسان الی القیام بالواجب و یمنعه عن فعل القبیح.[1]
ویمکن تعریف اللطف بعبارة اسهل: اللطف هو ما یستطیع ان یقرب الانسان من الکمال النهائي و السعادة الابدیة. و في أدبیات الشیعة فان التکلیف و الوعد و الوعید و الانذار و التبشیر و الحدود و القصاص و بعثة الانبیاء و الرسل و نصب الامام و العصمة و المعجزات و...کلها من مصادیق اللطف.
و قد ذکر المتکلمون –ایضاً- قیوداً للطف الالهي تتمثل في:
- ان یکون التکلیف ثابتاً قبل الفعل.
- ان لایصل اللطف الی حد الاکراه و الالجاء.
وانما ذكورا القید الاول لان اللطف یقرب المکلف من الطاعة فلا بد ان يكون قبل العمل. و ذكروا القيد الثاني للتخلص من مشكلة الالجاء و الجبر الممنوعة ولاخراج الالجاء و الجبر من تحت دائرة تعریف اللطف.
ویری الشیعة أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم. و یقولون: حیث إن الله کریم فانه یجب علیه اللطف لهذا السبب، وکذلک فان هذا اللطف عون للانسان في التمکن من طي مسیر الکمال، لا لیقوم بکل العمل من أجل فلاحه.
قاعدة اللطف عند المعتزلة:
من القواعد المعروفة في کلام المعتزلة هي (قاعدة اللطف ) و التي تذکر في باب العدل الالهي. و یری هؤلاء ان اللطف هو عبارة عن الاعمال و الامور التي یتقرب المکلف بواسطتها الی فعل الطاعات و یبتعد عن ارتکاب المعاصي. أي أنها تهئ الارضیة للقیام بالتکلیف الالهي، بشرط ان لا تنتهي الی حد سلب اختیار المکلف.
وقد ذکر المعتزلة في کتبهم استناداً الی الآیات القرآنية تعاریف متعددة لللطف نشیر فیما یلي الی بعضها:
ان اللطف الالهي ما یؤدي بالانسان الی اتباع الخیر و تجنب الشر.[2]
لطف الله عامل یحفز الانسان علی اختیار الطاعة او یسهل علیه هذا الاختیار.[3]
ان الانسان اذا ترک لحاله فانه سیعمل طبقاً لمیوله الطبیعیة، و من هنا یکون اللطف الالهي بمنزلة القوة التي تسوقه نحو الخیر.[4]
إن الثواب و العقاب تابع لللطف الالهي، لان اللطف هو الذي یمکن الانسان من معرفة الامور التي یترتب علیها الثواب و العقاب.[5] و لهذا السبب فان الاشخاص الواعین و العلماء یبتهلون الى الله بان یلطف بهم و یغفر لهم سیئاتهم.[6]
واختلف المعتزلة فیما بینهم في وجوب اللطف الالهي وعدم و جوبه. فذهب بشر بن المعتمر الى القول باللطف الالهي الذي لا یمکن ان یتخلف. فهو یری ان الله یمکنه ان یجبر الکافر علی الایمان، و المذنب علی التوبة، و ان مثل هذا الشخص یستحق نفس ثواب من یقوم بذلک العمل من دون هذا اللطف الذي لا یتخلف، و لکن رغم کون الاستفادة من هذا اللطف في مصلحة الانسان الا ان الله لا یبذل هذا اللطف دائماً. و من الواضح ان الله لیس مکلفاً بالعمل بمراعاة ما هو الافضل و الاصلح للانسان.[7]
ویری عبد الجبار ان وجوب اللطف الالهي مغایر لاختیار الانسان و یقول: إن الانسان حاکم علی أفعاله دائماً. فان عمل صالحاً فان الله یعینه بلطفه و إن عمل سوءاً یحرمه من لطفه، وف ي کلا الحالتین لا یکون الانسان مکرهاً، بل يبقى مختاراً. و مثل هذا التفسیر مخالف للتفکیر الجبري الذي یسلب الارادة و الابداع عن الانسان.
وقد ذکر بعض المتکلمین وجوهاً مختلفة للطف الالهي نشیر فیما یلي الی بعضها:
یقول عبد الجبار: ان اللطف یختلف عن الثواب خلافاً لعبّاد، لان الثواب یتعلق بالعمل الذي یکون قد تحقق و انتهی، والحال ان اللطف الالهي یتعلق بالعمل الذي یراد تحقیقه و فعله. و طلبنا للعون و المساعدة من الله یتعلق بالافعال الحالیة و المستقبلیة، لا الافعال الماضیة.[8] و یری هذا الفریق ان من وجوه اللطف الالهي الاخری هي العافیة و السلامة و الحکمة و کمال العقل و الادراک الحسي و رسالة النبي و وحي الکتاب المقدس.
قاعدة اللطف عند الاشاعرة:
انکر الاشاعرة قاعدة اللطف و أوردوا علیها بعض الملاحظات:
یقول الاشعري: ینکر اکثر المعتزلة ان یکون لله لطف لو اعمله في حق من لم یؤمن فانه یکون مؤمناً. فلیس لله مثل هذا اللطف الذي یکون اعماله اکثر نفعاً لهم في دینهم، و انه یوجب علیهم او یرید منهم ان یعملوا باوامره، ولا یمنع الناس ما یحتاجون الیه لکي یقوموا بواجباتهم تجاه الله، و حین یحصل ذلک، تحصل الطاعة من العبد و هي التي تجعله مستحقاً للثواب الذي وعد به، ولکن للانسان حق الاختیار.
و یقول الاشعري: یری بشر (بن المعتمر) ان لله لطفاً لو بذله لشخص عدیم الایمان لآمن. و لکن لا یجب علی الله فعل ذلک فان الله لو بذل لطفه هکذا و آمن الانسان بسببه، فان الانسان سیکون مستحقاً للثواب الذي تحقق بمعونة الله، اذن ففي الحالة یجب ان یکون مستحقاً لذلک الثواب حتى مع عدم الایمان[9].
قاعدة الفیض عند المسیحیین:
تعرض المسیحیون لمجموعة من البحوث في باب قاعدة (الفیض) شبیهة بمباحث اللطف. و کان اوغسطین – انطلاقا مما تصوره عن الانسان و الذنب الاول- یری ان لیس للانسان الحریة اللازمة للسیر في الخطوات الاولی باتجاه النجاة. و انه لیس للانسان (ارادة حرة)، و لیس هذا فحسب بل ان له ارادة ملوثة بالذنب. و من هنا فهو یمیل دوماً الی الذنب و الابتعاد عن الله. و یصور اوغسطین العلاقة بين الذنوب و بين البشرة علاقة ذاتية. و یری ان الانسان لا یمکن ان یرتبط بالله بمعونة ما یمتلکه من الامکانیات و الآلیات، و انه لا یمکن للبشر عمل أي شيء یتغلب به علی عقدة الذنب.[10] انه یری ان فیض الله هو الوحید القادر علی ان یبطل هذا المیل للذنب عند الانسان. فهو یعتبر (الفیض) هدیة مجانیة من قبل الله للانسان، من دون ان یکون الانسان جديراً بهذه الهبة و مستحقاً لها. و ان الله یکسر طوق الذنب عن الانسان بواسطة هذا الفیض. ففیض الله سبب النجاة الوحید و الانطلاق نحو جمیع النشاطات و انها مستندة في شروعها و في استمرارها الی هذا الفیض الالهي. ثم ان الفیض لا یوهب للجمیع. و نتیجة لذلک فان الایمان لا یکون من نصیب الجمیع. بل الفیض یوهب لمن اختارهم الله أي اصفیاءه.[11] (لیس من الراجي ولا من المتعجل بل من الله الراحم)[12] و لا یمکن للنجاة الا ان تکون هدیة مجانیة، و لیست امراً یمکننا الحصول علیه، بل هي عطاء یهبه الله للانسان.
وعلی هذا فان اوغسطین یری ان منشأ النجاة أمر خارج عن الانسان و هو من الله. فالله هو مبدء النجاة لا الانسان. و من الجدیر بالذکر ان هذا الفهم لاوغسطین عن النجاة و الفیض یؤدی بالتالی الی الجبر شئنا أم أبینا، و ذلک لان الله لم یجعل هدیة الفیض في متناول الجمیع، بل وهبها للبعض فقط. فیلزم إذن ان یکون قد اختار مسبقاً من یرید لهم ان یکونوا من الناجین.
و بناءً علی هذا فقد وضع اوغسطین -استناداً الی الکتاب المقدسة- نظریة خاصة حول (الجبر) او (التقدیر) محصلها ان الارادة الاولیة و الازلیة لله متعلقة بنجاة البعض و ترک البعض الآخر على مسافة بعيدة عن النجاة.
و بعد ان اوضحنا هذه المباني عند المعتقدین بها، تصل النوبة الى المقارنة بینها لمعرفة نقاط الاشتراك و الافتراق الموجودة بين القاعدتين.
ان موارد الشبه الاساسیة بین هاتین القاعدتین یمکن تحدیدها بما یلي:
- کلا الطرفین یری انه لا یمکن للانسان ان یطوي طریق الکمال لوحده، بل یحتاج الی الامداد الالهي في هذا الطریق.
- ان علماء الاسلام و المسیحیة لا یوجبون ذلک علی الله، بل یرون ان ذلک جودا و كرما و هدیة من قبل الله.
ولکن مع وجود هذا التشابه فان بینهما اختلافا کبیراً، يتمثل في:
1- يعد الفیض عند المسیحیین من اهم التعالیم المحورية للديانية المسیحیة، أي تجسید عیسی. و من هنا يحظى باهمیة كبيرة عندهم لا تراها في الفكر الاسلامي.
2-ان مسألة الفیض عند المسیحیین لها علاقة قویة بمسألة الذنب الاول. و لاتشاركهم الديانة الاسلامية هذا المعتقد لعدم الايمان بفكرة الخطيئة الاولى التي بقيت تلازم البشرية.
- للطف عند المسلمین وجوه کثیرة، و لکنه لدی المسیحیین یتحدد بدائرة صغیرة جداً.
- یطرح المسلمون اللطف بشکل ینسجم مع اختیار الانسان، خلافا للمسیحیین، وکما نقل عن اوغسطین فانه یفهم منه معنی الجبر.
- ان اللطف عند المسلمین یقرب الانسان من الخیر، و لکن الفیض لدی المسیحیین یجعل الانسان محسناً. و بعبارة أخری: ان اللطف له دور المساعد و أما الفیض فیقوم بدور الفاعل في الاحسان.
و من هنا یمکن القول بنحو عام أن مسألة الفیض و اللطف مع وجود أوجه الشبه بینهما و لکنهما يفترقان بفروق اساسیة جداً. و هذا ما یقلل کثیراً من احتمال استنساخ أحدهما من الآخر.
[1] الخرازي، مجلة الانتظار، العدد: 8، قاعدة اللطف، ص1.
[2] عبد الجبار، شرح الاصول الخمسة، ص59، دار احیاء التراث العربي، بیروت.
[3] عبد الجبار، المغني في أبواب التوحید والعدل، ج13، ص9، القاهرة، 1962.
[4] شرح الاصول الخمسة، ص524.
[5] نفس المصدر، ص64.
[6] المغني في أبواب التوحید والعدل، ج11، ص89، القاهرة، 1962.
[7] الاشعري، علي بن اسماعیل، مقالات الاسلامیین و اختلاف المصلین، هلوت ریتر، ص246، 1980.
[8] المغني في أبواب التوحید والعدل، ج13، ص22.
[9] المرادي، عبد الحمید، مقارنة قاعدة اللطف في الکلام الاسلامي و الالهیات المسیحیة، ص5.
[10] مک کرات، آلیستر، مقدمة علی فکر نهضة الاصلاح الدیني، الحدادي، ص171، مرکز المطالعات و المذاهب، قم، 1386ش.
[11] تونی لین، ترجمة روبرت آسریان، تاریخ الفکر المسیحي، ص87.
[12] الکتاب المقدس، الرسالة الی الرومیین، 9: 16.