بما أن السؤال یطرح تعارض الغیبة مع نظریة الإمامة بشکل کلی دون الإشارة إلى المصادیق، فلابد من الإشارة إلى ذکر عناوین وظائف الإمام، ثم نرى و بشیء من التحلیل، هل إن هذه الوظائف تنسجم مع دور الإمام فی الغیبة أم لا؟
الإمامة هی استمرار للنبوة و امتداد لها و لکن دون نزول الوحی و هذا هو الفارق الوحید بین المفهومین. و الإمام یؤدی جمیع وظائف النبی الأساسیة و من أهمها:
1- إقامة الحکومة الإلهیة و تحریر الناس من سلطان الظلم و الجور. و بما أن الحکومة هی فعالیة اجتماعیة بقیادة شخص یلقى القبول من أفراد المجتمع، و لذلک فلا یمکن أن نطلب من القائد فی أوساط المجتمع أن یقیم حکومة فی ظل أی ظروف و أوضاع تسود الأمة و تحکم الواقع الاجتماعی، و لهذا نجد أن الرسول الأکرم (ص) لم یقدم على مثل هذا العمل قبل الهجرة إلى المدینة، ومع ذلک لا یعد هذا خللاً فی نبوته، و إنما یکشف عن عدم ملائمة الظروف و مواتاة الأجواء الاجتماعیة لقبول مثل هذا العمل الکبیر.
و هکذا الأمر بالنسبة لغیبة الإمام الثانی عشر فإن الأمر مشابه لما کان علیه فی صدر الإسلام.
إنه عصر ملیء بالاضطرابات و الفتن الشاملة. و علیه فطلب النهوض و الثورة من الإمام الثانی عشر (ع) فی ظل هذه الظروف یعد مطلباً لا عقلائیاً. و من جهة أخرى فإن من أبرز خصائص ثورة الإمام (ع) إقامة أساس العدل و الإنصاف.
فغیبة الإمام لا تتنافى مع وظیفته الأولى إذاً، و إنما تکشف عن انحسار الدین و تأثیره و ضعف الناس و خورهم و قصورهم عن قبول الحکومة الإسلامیة.
2- بیان المعارف الإلهیة و إرشاد الناس. هذه هی المهمة الثانیة بالنسبة إلى الإمام، و التی تؤدى على نحویین، تارة بشکل مباشر و أخرى بصورة غیر مباشرة. کما کان رسول الله (ص) یفعل ذلک فعندما تحول العقبات و المصاعب بینه و بین الناس، أو عدم قدرة الناس و تمکنهم من الوصول إلیه، فإنه یختار رجالاً من أهل التقوى و العلم و الاطلاع بأمور الإسلام و یرسلهم للقیام بمهمة إرشاد الناس و توعیتهم، و هذا عین ما قام به الإمام الثانی عشر (عج) حیث نصب النواب والسفراء الخاصین فی عصر الغیبة الصغرى، و النواب العامین فی عصر الغیبة الکبرى لیکونوا واسطة بینه وبین الناس. هذه نماذج من وظائف الإمام و قد ثبت أنها لا تتعارض مع الغیبة.
و أما ألطاف الإمام و برکاته فهی أوسع و أشمل من وظائفه، و لا تنحصر فی الإمام الحاضر أو الغائب.
و لابد من القول أن الإمام هو روح العالم و القطب الذی تدور علیه السماوات و الأرض، على نحو أوضحه أهل بیت الرسول الأکرم (ص) بأقوال و أحادیث کثیرة مؤداها أنه لو لم یکن الإمام موجوداً "لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها". فالإمام هو السبب المتصل بین الأرض و السماء و هو مجرى نزول البرکات الإلهیة. دعاؤه مستجاب و نوایاه کلها خیر و برکة. و نجد هذا لمورد یتکرر فی زیارات أئمة الهدى کثیراً.
إن عباد الله یواجهون أعداءً أقسموا على المواجهة و على رأسهم إبلیس. و إن الإمام (ع) - و عن طریق آثاره و تصرفه القدسی فی النفوس - یحول بینهم و بین الوقوع فی الکثیر من الحبائل و المصائد و ینجیهم من کثیر من البلایا و یهدیهم إلى سبیل الرشاد. هذا هامش من عوائد و فوائد و برکات الإمام الغائب الذی أشار إلیها الرسول الأکرم (ص) فی روایته المعروفة حینما وصف الإمام بالشمس التی تحتجب وراء الغیوم، و مع أن الناس لا یرون الإمام و لا هو حاضر بشکل کامل بین ظهرانیهم، إلا أنه یغمرهم بفیض وجوده الملیء بالفوائد و العوائد.
السؤال المطروح یتصف بالعموم و الکلیة و الإجمال بشکل کبیر، و لم یشر السائل إلى موضع بعینه یکون فیه التعارض بین غیبة الإمام (عج) و نظریة الإمامة. و لذلک نرى من اللازم أن نبین وظائف الإمام و ندرسها بشکل مستقل، ثم نعالج فیما بعد مسألة کون هذه الوظائف تتنافى مع الغیبة أم تتوافق معها.
و تعرف الإمامة على أنها استمرار للنبوة و متابعه لسیرها[1] و للإمام جمیع خصائص النبی إلاّ فیما یتعلق بمسألة الوحی و انقطاع نزول الآیات. فالإمام إذن کالنبی یتحمل أداء ثلاث وظائف[2] أساسیة:
1- إقامة الحکومة الإلهیة و تحریر الناس من سلطان حکام الجور.
2- بیان المعارف الإلهیة و إیصالها إلى أسماع من هم فی حاجتها.
3- إرشاد الناس و هدایتهم إلى الطریق المستقیم.
هذه الموارد الثلاثة تشکل العمدة فی وظائف الإمام و لکن إذا کانت الظروف الاجتماعیة غیر مواتیة أو أن ضعف الأمة و خورها و انحلالها أدى إلى عدم تمکن الإمام من إقامة بعض هذه الوظائف التی یتطلب إجراؤها و تنفیذها إلى وجود و جاهزیة طرفین لا طرف واحد، فلا لوم على الإمام فی ذلک، و لا ینسب لساحته أی قصور أو تقصیر. و من الواضح إن هذا الأمر لا یتنافى مع فلسفة الإمامة.
و لابد من القول أن الثورة و تشکیل الحکومة نشاطات و فعالیات اجتماعیة تحتاج إلى ظروف خاصة و مناسبة. و إذا قلنا إنّ من واجب القیادة النهوض و تشکیل الحکومة دون النظر إلى الظروف و العوامل الأخرى حتى لو لم یکن ذلک فی صالح الأمة فإن هذا قول جزاف و غیر مقبول.
لأننا نعلم أن نبی الإسلام (ص) عندما کان فی مکة و قبل أن یهاجر إلى المدینة، لم یتمکن من إقامة بعض شؤون الإسلام الظاهریة بسبب الظروف القاهرة الحاکمة فی ذلک المجتمع، فضلاً عن تشکیل الحکومة، و لا یعد هذا الأمر مؤاخذة أو تقصیراً ینسب إلى ساحة النبی الأکرم (ص)، و إنما هو کاشف عن طبیعة الأوضاع و الأجواء التی کانت تسود فی تلک الحقبة الزمنیة و مدى قبولها لإقامة حکومة إسلامیة.
و هذا الأمر لا یقتصر على عصر الرسول الأکرم (ص)، و نحن نشاهد أن إدبار الناس و وهن إرادتهم و ضعفهم أدى إلى عدم توفیق الأئمة - ما عدا الإمام الأوّل (ع) فی السنوات الاخیرة من عمره الشریف - فی مسألة إقامة الحکومة الإسلامیة، و لکن هذا الأمر لا یعد خللاً و لا نقصاً بالنسبة لفلسفة الإمامة.
و کذلک الحال بالنسبة إلى الغیبة الکبرى - و بحسب ما تقدم - فإنها لا تتنافى مع وظیفة الإمام. و إن أی وقت تکون فیه الأوضاع مناسبة و الظروف ملائمة لإجراء الأحکام الإلهیة فی سیاق حکومة إسلامیة فسوف یکون ذلک هو یوم ظهور الإمام و ختام الغیبة الکبرى. و لعله من الممکن القول أن أکبر ما یعرف به الإمام الثانی عشر (عج)[3] هو إقامة حکومة العدل الشاملة التی تعبر عن العدل الإلهی، إذن فلا وجود لأی منافاة و مغایرة بین نظریة الإمامة و فلسفتها فی مسألة إقامة الحکومة الإسلامیة و غیبة الإمام الثانی عشر (عج).
و أما البُعد الثانی بالنسبة لوظائف الإمام فیمکن أن یقال فیه:
فی الوقت الذی لم تتوفر فیه الفرصة لنبی الإسلام (ص) لأن یخاطب الناس بشکل مباشر و یقوم بمهمة هدایتهم و تعلیمهم و هم ینتشرون فی القبائل المتفرقة، و یمثلون مختلف طبقات المجتمع کان النبی (ص) یبعث رجالاً من أهل المعرفة و الاطلاع و حفظة القرآن الکریم لیبینوا للناس معالم دینهم فی مختلف المناطق[4]و هذه سنة حسنة و ذکرى خلفها النبی الأکرم (ص)، و هی فی نفس الوقت طریقة عقلائیة لنشر تعالیم الدین الإلهی.
و قد استفاد الإمام الثانی عشر (عج) من هذا المنهج النبوی، فقام بتعیین النواب الخاصین له فی عصر الغیبة الصغرى لتأمین احتیاجات الناس العلمیة و الإجابة عن تساؤلاتهم الدینیة. و کذلک استمر هذا المنهج إلى عصر الغیبة الکبرى، و لکن الوسیلة و الأسلوب طرأ علیه شیء من التغییر، أی أن الإمام (عج) نصب فی هذا العصر نواباً عامین عنه، و وضع لذلک مشخصات و خصائص یمکن تشخیص و تعیین النائب العام للإمام من خلال تحققها و وجودها، و قد أرجع الناس إلى هؤلاء النواب فی ما یستجد من الحوادث و المسائل.[5]
و لا ینتهی الأمر عند هذا الحد، و ذلک لأنه من الممکن أن تستجد مسألة لا یوفق النواب فی حلها، و إیجاد الجواب المناسب لها. و فی مثل هذه الحالة یتدخل الإمام إما بشکل مباشر و بعنوان الإمام الثانی عشر نفسه و یتجلى للأفاضل فی زمانه او غیر مباشر و بطریق آخر لیشیر إلى طریق الهدایة والنجاة. و یکفینا أن ننظر إلى نظریة الإجماع الدخولی[6] فی الفقه الإسلامی أو الکتب التی تذکر من تشرف بلقاء الإمام من العلماء و الصالحین.
و أما الجواب عن عدم تنافی الغیبة مع البعد الثالث من أبعاد وظائف الإمام (عج) فهو مشابه للمورد السابق، فلا یحتاج إلى التفصیل و التحلیل فی مورد الإجابة.
و بغض النظر عن الموارد المتقدمة فإنه من اللازم التطرق لمسألتین:
أ- إن غیبة الإمام لیست غیبة جسمانیة، لأننا نعتقد أنه یعیش حیاةً عادیةً کأی فرد من أفراد المجتمع، إلا أنه یتمتع بعمر طویل بإذن الله تعالى و إرادته، و هذا لا یخالف القواعد و الأسس العقلیة و الحیاة الطبیعیة. و نحن حینما نعبر بالغیبة عن الإمام الثانی عشر فالمراد الغیبة العنوانیة، و معنى ذلک أن الإمام لا یطرح نفسه بشکل علنی و مباشر کإمام و قائد للشیعة فی العالم حتى یحین موعد ظهوره.
ب- ما تقدم ذکره بعنوان فلسفة الإمامة یمثل الوظائف الملقاة على عاتق الإمام، و أما ما نشاهده من الأمور الصادرة من الإمام و التی یشاهدها الکثیر من الناس، فهذه لیست بعنوان الوظیفة أو التکلیف بالنسبة له، و إنما هی من باب اللطف الإلهی و الرحمة و العنایة التی تنزل علینا بواسطة الإمام و برکة وجوده و من الأمثلة على ذلک:
1- إن الإمام روح العالم: طبقاً لأقوال آل بیت النبی الأکرم (ص) فإن الإمام یمثل روح العالم.[7] و مدار وجود العالم و عدم وجوده، و على نحو ما جاء فی الروایات: (لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت).[8]
2- إن الإمام واسطة الفیض الإلهی و مجرى نزول البرکات السماویة إلى الناس، و لذلک ورد فی زیارات الأئمة المعصومین و روایاتهم (و بکم تنبت الأرض أشجارها، و بکم تخرج الأشجار أثمارها، و بکم تنزل السماء قطرها و رزقها).[9]
3- التأثیر فی النفوس[10] و الحیلولة دون الضلال و الانحراف عن الطریق و السقوط فی حبائل الشیطان.
و هذا ما نشاهده بوضوح تام فی الأیام المقدسة کأیام محرم و صفر و ... و فی کافة أرجاء العالم.
و کل الذی تقدم ذکره یمثل جزءاً یسیراً و مختصراً من فیض الإمام الغائب و فوائده و عوائده، و کما قال الرسول الأکرم (ص): «انهم لینتفعون به ویستضیئون بنور ولایته فی غیبته کانتفاع الناس الشمس وان جللها السحاب».[11]
و من الطبیعی أن کلام الرسول هذا ینطوی على معانٍ دقیقة و هامة نترک للقارئ الکریم التعرف علیها من خلال مراجعة الکتب المفصلة فی هذا المیدان.[12]و [13]
المصادر:
1- تعلیم العقائد، محمد تقی مصباح الیزدی.
2- الشیعة فی الإسلام، السید محمد حسین الطباطبائی.
3- دلائل الإمامة، محمد بن جریر الطبری.
4- فرازهایى از تاریخ پیامبر اسلام "شعاع من تاریخ نبی الإسلام"، جعفر السبحانی.
5- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی.
6- أصول الفقه، الشیخ محمد رضا المظفر.
7- سیرة الأئمة، مهدی بیشوائی.
8- أصول الکافی، محمد بن یعقوب الکلینی، تصحیح علی أکبر غفاری.
9- کامل الزیارات، ابن قولویه القمی.
10- بدایة المعارف الإلهیة، السید محسن خرازی.
11- بحار الأنوار، محمد باقر المجلسی.
12- الإمام المهدی من الولادة حتى الظهور، السید محمد کاظم القزوینی.
[1] تعلیم العقائد، ص306.
[2] الشیعة فی الإسلام، ص176.
[3] دلائل الإمامة، ص240.
[4] أشعة من تاریخ الإسلام، ص307
[5] وسائل الشیعة، ج18، ص101.
[6] أصول الفقه، ص358.
[7] سیرة الأئمة، ص719.
[8] أصول الکافی، ج1، ص179.
[9] کامل الزیارات، الزیارة الثانیة.
[10] بدایة المعارف الإلهیة، ج2، ص153.
[11] بحار الأنوار، ج52، ص93.
[12] الإمام المهدی من الولادة و حتى الظهور، ص325.
[13] لمزید الاطلاع انظر مواضیع ذات صلة: الامام المهدی عند الشیعی، رقم السؤال 168؛ فوائد وجود الامام فی عصر الغیبة، رقم السؤال654؛ فلسفة طول عمر الامام(عج)، رقم السؤال 209؛ المبانی الفلسفیة للمهدویة، رقم السؤال 221.