ان الآیات الدالة علی بقاء الروح من بعد الموت کثیرة و لا یمکن المناقشة في دلالتها ایضاً، و من جملتها الآیة 169 من سورة آل عمران التي تؤکد بان الشهداء احیاء عند ربهم یرزقون، و هناک ادلة نقلیة و عقلیة کثیرة ایضاً تؤید هذه الآیات و مضمونها هو ان الموجودات المجردة کالارواح لا تنعدم و لا تنفی.
و من هنا و بسبب قوة ادلة بقاء الروح، فقد فسرت الآیات التي تدل علی فناء الناس و هلاکهم بطریقة أخری لکي لا تتنافی مع هذه الآیات. فقد ذکر المفسرون ان هذه الآیات لا ترتبط بهلاک الموجودات بمعنی فنائها المطلق، بل بمعنی زوال اشکالها و صورها، و أما موادها و محتویاتها فانها باقیة و الذي یفنی هو اشکالها و صورها فقط. و الکون ایضاً سینعدم شکله و صورته و لکن هذا الانعدام لیس بمعنی انعدام جمیع الموجودات التي منها المجردات کالارواح، فالارواح باقیة ببقاء الله.
للاجابة عن هذا السؤال یلزم أولاً: أن نبحث عن الروح بشکل منفصل فنقول: إن کلمة الروح قد وردت بانحاء مختلفة في القرآن 21 مرّة، و بالطبع فانه قد قصد بها معان مختلفة. و الامر المهم هنا و الذي یجب ان نتعرض له بشکل منفصل هو انه: اذا مات الانسان فهل ان روحه تبقی و لا تفنی آم ان الروح تفنی کما یفنی الجسد؟[1]
ان من المعارف المهمة في القرآن هو بقاء الروح بعد مفارقتها للبدن و ان الموت لیس هو نهایة الحیاة، بل هو نافذة علی حیاة أخری في عالم ارفع.[2]-[3]
وهناک آیات في القرآن تدل صراحة علی بقاء الروح من بعد الموت، و نشیر فیما یلي الی عدة موارد منها:
1-الآیات التي تدل علی ان الشهداء احیاء:( وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون..)[4]. و هذه الحياة للشهداء من بعد الموت و التي وردت في آيات مختلفة ليست مجرد حياة اجتماعية – بمعنی أنهم مؤثرون في المجتمع لان محبتهم في قلوب الناس و بذلک يترکون آثارهم علی المجتمع- بل يظهر من بعض الآيات مثل: (عند ربهم يرزقون) و.ان المراد هو حياتهم الروحية بعد الموت و ان الارواح لا تفنی بالموت[5].
2- و الطائفة الثانیة هي الآیات الدالة علی عذاب آل فرعون بعد الموت و قبل القیامة. و هذه الآیات تدل کما دلت الآیات السابقة علی حیاة الارواح بعد الموت، و تفترق عنها في أن تلک الآیات دلت علی تنعم الاشخاص کالشهداء، و لکن هذه الآیات تدل علی عذاب الکفار کالفراعنة (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ )[6]. و هذه الآية تدل بصراحة علی وجود الحياة بعد الموت أيضاً و قبل يوم القيامة و هي دليل علی حياة الروح من بعد الموت[7].
3- و الطائفة الثالثة من الایات الدالة علی الحیاة بعد الموت، هي الآیات الدالة علی دخول قوم نوح نار جهنم بعد موتهم: (مِمَّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً)[8]، و استعمال الفعل الماضي في أنهم دخلوا النار یدل علی أن هذا الدخول للنار قد وقع في الزمن الماضي حیث لم تکن القیامة قد قامت[9].
ان بقاء الروح من بعد الموت أمر یؤکده العلماء و الحکماء الاسلامیون ایضاً فانهم یعتبرون بقاء الروح من الاصول المسلمة عندهم.
و الیوم یقف علماء الاسلام امام المادیین استناداً الی الاسس التي تبتني علی هذه الادلة و یرون ان الموت هو بدایة لحیاة جدیدة.
و نؤکد هنا ان الاعتقاد بحیاة الروح بعد الموت لیس معناه ان الروح وحدها هي التي تحشر في القیامة و ان الجسم یفنی تماماً بالموت، بل نعتقد انه في یوم القیامة ستحیا اجساد الناس ایضاً بقدرة الله و ارادته و ان الروح و الجسم یحشران معاً لیلاقوا جزاء اعمالهم.[10]
و أما الآیات التي تدل علی فناء الناس و کیفیة دلالتها فهي کما یلي:
- ان من الآیات التي تدل صراحة علی فناء الناس هي الآیة 26 من سورة الرحمن :(کل من علیها فان) فان هذه الآیة تدل علی فناء الناس، و لکن ینبغي ذکر وجوه أخری في دلالة الآیة. فحیث ان الله تعالی قد ذکر الآیة في مقام و تعداد نعمه علی الناس فان عدداً من المفسرین قد ذهب الی انه: (يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، و إنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، و الجسر الذي لا بدّ منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن، و الخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم).[11]
- و من جملة الآیات الآخری الدالة علی فناء الناس هي الآیة 88 من سورة القصص: (وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
و هذه الآیة تدل صراحة علی فناء جمیع الموجودات، فان عمومها اشمل من الآیة السابقة ایضاً، لانها تشمل جمیع موجودات الارض و السماء، خلافاً للآیة السابقة التي تشمل الموجودات الارضیة فقط. و علینا الآن أن نری کیفیة التوفیق بین هاتین القضیتین اللتین تنفي إحداهما الآخری و لا تنسجم معها، و کیف ذکرهما القرآن معاً؟.
و حیث اننا مسلمون و نعتقد أن القرآن وحي الهي و انه لا تناقض في کلام الله تعالی، فيجب ان نری ما هو المراد الحقیقي من هذه الآیات لکي نحل هذا التناقض بین ظواهر الآیات.
یری کثیر من المفسرین أن الآیات الدالة علی هلاک الناس و فنائهم، لها دلالة محدودة، فهي تدل علی فناء الامور المادیة و هلاک الموجودات المادیة فحسب کالآیة 26 من سورة الرحمن و التي تقدم الکلام عنها. و هذه الطائفة من الآیات تحاول إفهام الانسان بان هذه الامور المادیة تفنی جمیعاً، و ان الرکون الیها رکون الی امور فانیة عابرة. و لذلک فقد عد هذا الفناء في جملة النعم الالهیة. و أما الآیات الآخری التي تتنافی مع بقاء الروح فکیف نتعامل معها؟ و یأتي هذا السؤال کذلک بالنسبة للجنة و النار أیضاً بان یقال: هل ان الجنة و النار ایضاً تفنی عند فناء هذا العالم؟ او ان الآیات الدالة علی فناء الموجودات لا تتنافی مع هذه المفاهیم؟
و قد وجه المفسرون هذه الآیات الدالة علی فناء مطلق الموجودات و التي تشمل ظاهراً الموجودات غیر المادیة کالروح ایضاً بتوجیه آخر من أجل سلب هذه الدلالة منها و اخراج الروح من موضوع هذه الآیات في النتیجة. و قد تم هذا التوجیه بقرینة الآیات و الادلة المحکمة النقلیة و العقلیة الأخری الدالة علی بقاء الروح، حیث ان الروح باقیة ببقاء الله و کما أن الله باق فان الروح ستبقی ایضاً من باب ان الانسان لم یکن ازلیاً و أن جسمه و روحه مخلوق لله فانه سیکون أبدیاً و لا یفنی.
و قد ذکر عدد من المفسرین معاني للآیات المرتبطة بالفناء لا تتنافی مع هذه العقائد في الروح و الجنة و النار. فقد ذکروا: أنّ كثيرا ما يتفق أن يكون المراد من الهلاك و العدم هو تخلخل النظام و دماره، لا تلاشيه و فنائه فلو أن عمارة مثلا تهدمت بسبب الزلزلة فهنا يصدق عليها الفناء و الهلاك، في حين أنّ مواد العمارة لا تزال موجودة، غير أن نظامها قد أختل و انعدم فحسب!.
و نعرف أن في نهاية هذا العالم ستنطفئ الشمس، و يظلم القمر، و تندك الجبال، و تموت الموجودات الحيّة، فهذا معنى هلاكها! هذا من جهة!.
و من جهة أخرى فإنّ الفناء متعلق بهذه الدنيا، و ما في هذه الدنيا... أمّا الجنّة و النّار فسواء كانتا داخل هذا العالم أو خارجه، فليستا جزءا من هذه الدنيا ليشملهما حكم الفناء و العدم لنظامهما، فهما متعلقتان بالآخرة لا بالدنيا![12].
و هذا المعنی یصدق علی الروح ایضاً، لان الروح ایضاً منعزلة عن هذا العالم المادي و لا یمکن اعتبارها جزءً من عالم المادة لکي تفنی عند فناء العالم المادي.
و بالطبع فان هناک توجیهاً آخر لهذه الآیات، فقد فسر البعض الهلاک بالعدم الذاتي، بمعنی ان جمیع الموجودات المادیة و غیر المادیة هي معدومة ذاتاً و انها تکتسب الوجود من الله فحسب و انه هو الذي یهبها الحیاة و ان هذه الحیاة ستبقی في الموجودات غیر المادیة کالارواح- لان الموجودات المجردة لیس لها القابلیة لاي عدم- و ان الارواح من حیث انها ناشئة من ذات الباري تعالی و باقیة ببقائه فانه لا یمکن أن تفنی و تنعدم.
[1] وللاطلاع أکثر لاحظ: موضوع: مصير الروح بعد الموت، 13421 (الموقع: 13185).
[2] لاحظ: السبحاني، جعفر، أصالة الروح من وجهة نظر القرآن، ص60، منشورات اميد، قم، 1358ش.
[3] لاحظ: الموت ونهاية وجود الانسان، 5368( الموقع: 5766).
[4] آل عمران:169.
[5] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج4، ص61، مکتب النشر الاسلامي، قم، 1417ه.ق. فخر الدين الرازي، ابو عبد الله محمد بن عمر، مفاتيح الغيب، ج21، ص395، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1420.
[6] غافر: 46.
[7] مکام الشيرازي، ناصر، تفسير الامثل، ج20، ص11، دار الکتب الاسلامية، طهران، 1374، مفاتيح الغيب، ج21، ص395.
[8] نوح: 36.
[9] أصالة الروح من وجهة نظر القرآن،ص68.
[10] لاحظ: المعاد الجسماني، 10124 ( الموقع: 10086)، البدن المحشور في المعاد الجسماني، 10441 ( الموقع: 10349).
[11] تفسير الامثل، ج23، ص135.
[12] نفس المصدر، ج16، ص193.