ذکروا لعدم حضور عبد الله بن جعفر في کربلاء عللاً بعضها تحتاج إلی تأمل و لا یمکن قبولها، و القسم الآخر منها یمکن الاطمئنان له، أهمّها و أفضلها علل مرضه و کهولة سنه التي تنسجم أکثر مع ما ورد في التأریخ بأنه أرسل عائلته مع الإمام الحسین (ع) و کذلک تأسفه علی عدم الحضور في کربلا، فقد یظهر بأن هذه الأمور هي العلل الأصلیة لعدم حضور عبد الله في کربلاء و الذي یؤید هذا المدعی مکانة و احترام عبد الله بعد واقعة عاشوراء عند أهل البیت (ع) و بني هاشم، فلم یلمه أو یقرعه أحد منهم علی عدم حضوره في کربلاء.
لابد و قبل الدخول في الجواب من ذکر عدة نکات مهمة:
1- شهداء کربلاء: أما عن شهداء کربلاء فیجب القول بأنهم أناس أکسبوا الجهاد في سبیل الله معنیً رائعاً. فقد أظهروا لنا بأن القیام في سبیل الله هو نصر و فوز کبیر علی کل حال. فقد قتلوا و خسروا المعرکة –حسب الظاهر- لکنهم نالوا بذلک النصر و الظفر الواقعي، خُلّدوا بموتهم في سبیل الله و صاروا من المحبوبین عند الله سبحانه. لقد وصلوا إلی مقام لا یُمکن أن یصله إلا قلة من الخواص. و هذا المقام من الرفعة بمکان بحیث لا یمکن مقارنتهم إلا بشهداء بدر.[1] فقد نالوا بموتهم في سبیل الله حیاة فیها کل معنی الحیاة الواقعیة.
2- عدم حضور بعض الوجهاء في کربلاء: لقد تخلف عن قیام أبي عبد الله الحسین (ع) بعض الأشخاص المعروفین و الوجهاء و عذرهم في ذلک یمکن قبوله و تبریره،لذلک فلا یمکن طرد شخص من زمرة المؤمنین و المفلحین لمجرد أنه لم یحضر في کربلاء مع الإمام الحسین (ع)، و إن کان غیاب من غاب عن کربلاء ذلک الوقت ضرراً کبیراً لا یمکن جبرانه، فقد فاتهم توفیق الشهادة في رکاب أبي عبد الله الحسین (ع)، مع هذا لا یمکن اعتبار تخلّفهم هذا خروجا عن الإیمان.
علی کل حال فلیس کل من لم یحضر في کربلاء یُوضع في زمرة الخائنین لأبي عبد الله الحسین (ع)، بل ان قسماً منهم کانوا من المؤمنین، لکنهم لا قِبَل لهم أن یکونوا في عداد شهداء کربلاء، فقد حصل شهداء الطف علی فضیلة و مقام لا یقدر علی الحصول علیه إلا القلیل من الناس. و العلامة الحليّ یعتبر من المؤیّدین لهذا الرأي فیری أن عبد الله بن جعفر و أمثاله ینبغي أن لا یُخرّجون من الإیمان لمجرد عدم حضورهم في کربلاء.
یقول العلامة المجلسي نقلاً عن العلامة الحلّي: "فقد ثبت في أصل الإمامة إن أرکان الإیمان التوحید و العدل و النبوة و الإمامة و السید محمد بن الحنفیة و عبد الله بن جعفر و أمثالهم أجل قدراً و أعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحق و خروجهم عن الإیمان الذي یحصل به اکتساب الثواب الدائم و الخلاص من العقاب". [2]
شخصیة عبد الله
عبد الله بن جعفر الطیّار، و جعفر الطیار کان من صحابة رسول الله (ص) الکبار و أخا أمیر المؤمنین (ع) و کان له شأن و منزلة عظیمة في تأریخ الإسلام، و کان من زعماء المسلمین الذي هاجروا إلی الحبشة، وعبد الله هو أول مولود من المسلمین ولد في الحبشة و بعد رجوعهم إلی الحجاز لازم خدمة أبیه جعفر و کذلک خدمة رسول الله (ص) و بعد وفاة أبیه، عاش سنیناً طویلة في کنف عمه العباس بن عبد المطلب.[3]
یعتبر عبد الله من کبار بني هاشم و قد کان في خدمة أمیر المؤمنین سنین طویلة لا یتخلّف عن نصرته في المواقف المختلفة. لقد کان یری الدفاع عن أمیر المؤمنین (ع) تکلیفاً شرعیاً فوقف مدافعاً و محامیاً عنه مع باقي أصحاب رسول الله (ص) في مواطن عدیدة.
حب عبد الله و إیمانه بالنظام الإسلامي و حاکمه المقتدر (أمیر المؤمنین (ع) دفعه إلی تلبیة دعوة الامام و القائد الإسلامي آنذاک و الخوض في لهوات حروب الحق ضد الباطل، حیث اشترک في عدة حروب دفاعاً عن أهداف الإسلام المقدسة.
عقیدة عبد الله بالإمام الحسن (ع) و الإمام الحسین (ع) واسعة جداً فقد کان یبذل قصاری جهده في خدمتهما، (روی سلیم بن قیس قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب یقول: قال لي معاویة: ما أشد تعظیمک للحسن و الحسین، ما هما بخیر منک و لا أبوهما بخیر من أبیک و لو لا أن فاطمة بنت رسول الله (ص) لقلت: ما أمک أسماء بنت عمیس بدونها!!. قال: فغضبت من مقالته، و أخذني ما لا أملک، فقلت: أنت لقلیل المعرفة بهما و بأبیهما و أمهما، بلی و الله إنّهما خیرٌ مني و أبوهما خیر من أبي و أمهما خیر من أمي، و لقد سمعت رسول الله (ص) یقول فیهما و في أبیهما و أنا غلام فحفظته منه و رعیته. فقال معاویة: و لیس في المجلس غیر الحسن و الحسین (ع) و إبن جعفر رحمه الله و إبن عباس و أخیه الفضل: هات ما سمعت! فوالله ما أنت بکذّاب فقال: إنه أعظم مما في نفسک".[4]
الآن و بعد کل ما قدّمنا نتساءل و نقول: کیف بمثل هکذا إنسان أن یتخلّف عن الحضور في واقعة کربلاء و هي قضیة المسلمین الکبری آنذاک بل و إلی زماننا هذا و حتی الأبد!!!
أسباب عدم حضور عبد اله بن جعفر في کربلاء
لقد کان تحلیل عبد الله لسفر الإمام الحسین (ع) هو إنه (ع) یرید السفر إلی العراق حفظاً لحیاته و فراراً من القتل و لم یکن هدف الإمام الحقیقي هو القیام و تشکیل الحکومة. و في هذا الصعید حاول عبد الله أن یحصل علی أمان للإمام الحسین (ع) من حاکم بني أمیة، لکن الإمام الحسین (ع) رفض هذا الأمان و امتنع عن قبوله.[5] لهذا السبب أشفق عبد الله علی الإمام الحسین و اقترح علیه أن یصرف النظر عن السفر إلی کربلاء، لکنه عندما رأی عزم الإمام الحسین (ع) علی هذا التحرّک و تصمیمه أرسل عائلته (زوجته و ولدیه) في رکاب الإمام الحسین (ع) لیدافعوا عن الإمام الحسین (ع).
لقد ذکروا عدة أسباب لعدم حضور عبد الله في کربلاء نتناولها و نبیّنها لکم باختصار:
1- أحد الأسباب المذکورة بین المحققین هو کفّ بصره. و هذا الدلیل لا یخلو من الإشکال، لأن طبیعة الإنسان المکفوف أن تکون له قیود في المجتمع فلا یمکنه أداء نشاطات اجتماعیة کثیرة. أما عبد الله فقد کانت له أنشطة کثیرة بعید علی المکفوف أداؤها، و من أنشطته هو أخذه الأمان لأبي عبد الله (ع) [6] و غیرها لذلک فمن الصعب علینا أن نقبل مسألة کف بصره.
2- احتمل قسم آخر من المحقّقین أن تخلّفه و عدم حضوره في کربلاء هو لإشارة و أمر من الإمام الحسین (ع) حتی یبقی في مکة و المدینة لحفظ ما تبقی من بني هاشم هناک. [7] و نظراً إلی أن عمره کان آنذاک 70 سنة، فلعل کهولة السن و عدم قدرته علی الحرب أدّت إلی أن لا یوجب الإمام الحسین (ع) الجهاد علیه. و من ثَمّ کان عدم اشتراکه تلبیة لأمر الإمام الحسین (ع) فبقی لیحفظ ما تبقی من بني هاشم في مکة و المدینة.
3- قال البعض الآخر أن المرض أقعد عبد الله عن اللحوق برکب عاشوراء، و إلا فلو کانت صحته جیده لما تخلّف عن الحضور.[8] إذ مرضه و إرسال عائلته إلی کربلاء، من العوامل التي تبرّر عدم حضور عبد الله في کربلاء.
إذن نظراً إلی عدم المنافاة بین النقطتین الأخیرتین یمکن الوصول إلی هذه النتیجة و هي أن الإمام الحسین (ع) لم یوجب علیه الجهاد و الخروج معه بسبب مرضه و کهولته حیث کان عمره آنذاک ما یقارب 70 سنة و کذلک عدم استطاعته علی القتال. فمن هنا کان عدم اشتراکه بأمر من الإمام الحسین (ع) و کذلک لیحفظ ما تبقی من بني هاشم في مکة و المدینة.
تأسف عبد الله علی عدم الحضور و من ثَمّ الشهادة في رکاب أبي عبد الله الحسین (ع) و إرسال عائلته معه أیضاً یمکن أن یشکّل تأییداً لما قدّمنا.
عدم کون عبد الله مذنباً:
کما بیّنا سابقاً بأن عدم حضور عبد الله بن جعفر في کربلاء، یعتبر خسارة عظیمة فقد فاتته فضیلة کبیرة، لکن هذا لا یدل علی إنه کان مقصّراً، لوجود شواهد و قرائن عدیدة تُبرّر عذره کما و أنه کان یرغب في الحضور في کربلاء و الشهادة في رکاب أبي عبد الله الحسین (ع) و إرسال أولاده للجهاد و الشهادة تحت یدي الإمام (ع) یمکن اعتباره دلیلاً واضحاً علی أنه کان مؤیّداً لأصل قیام الإمام الحسین (ع). و یمکن نقل تأسفه علی عدم حضوره في کربلاء عن فحوی قصته مع خادمه.
"و دخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (ع) فنعی إلیه فاسترجع، فقال أبو السلاسل مولی عبد الله: هذا ما لقینا من الحسین بن علي علیهما السلام؟ فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: یابن اللخناء أ للحسین (ع) تقول هذا؟ و الله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتی أقتل معه...".[9]
من العوامل الأخری التي تُبیّن أن عدم حضور عبد الله في کربلاء کان عن عدم تقصیر منه هو احترام بني هاشم له و کذلک عدم عتاب الحوراء زینب (س) له علی عدم حضوره، فقد عاشت بقیة عمرها معه بعد الطف و لم ینقل لنا التأریخ بأنها لامته یوماً علی عدم حضوره و هذا بحد ذاته شاهد کبیر علی عدم تقصیر عبد الله بن جعفر.
[1] الفیروز آبادي، السید مرتضی، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج 3، ص 280، الإسلامیة، الطبعة الثانیة، طهران، 1392 ق، إني لمع علي (ع) إذ أتی کربلاء فقال: یقتل في هذا الموضع شهداء لیس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر، أخرجه الطبراني و ذکره الهیثمي أیضاً في مجمعه، ج 9، ص 190.
[2] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 42، ص 109 و 110، قد ثبت في أصل الإمامة أن أرکان الإیمان التوحید و العدل و النبوة و الإمامة و السید محمد بن الحنفیة و عبد الله بن جعفر و أمثالهم أجل قدراً و أعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحق و خروجهم عن الإیمان الذي یحصل به اکتساب الثواب الدائم و الخلاص من العقاب.
[3] الشیخ الطبرسي، إعلام الوری بأعلام الهدی، الإسلامیة، الطبعة الثالثة، طهران، 1390ق؛ الثقفي الکوفي، أبو اسحاق إبراهیم بن محمد، الغارات، العطاردي، عزیز الله، ص 385، نشر عطارد، 1373 ش.
[4] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج علی أهل اللجاج، ج 2، ص 285، الناشر مرتضی، الطبعة الأولی، مشهد، 1403 ق.
[5] الشیخ المفید، الإرشاد، الرسولي المحلاتي، السید هاشم، ج 2، ص 70، الإسلامیة، طهران، الطبعة الثانیة، بي تا.
[6] نفس المصدر.
[7] دائرة المعارف الشیعة، جمعٌ من الکتّاب، ج 11، ص 83.
[8] ثقافة عاشوراء، جواد المحدّثي، ص 298-299، نشر معروف، قم، 1378 ش.
[9] الشیخ المفید، الإرشاد في معرفة حجج الله علی العباد، ج 2، ص 128، مؤتمر الشیخ المفید، الطبعة الأولی، قم، 1413.