يعتبر أكثر علماء اللغة و مفسّري القرآن الكريم بأن كلمة الإستهزاء و السخرية ذات معنى واحد. و معناها هو احتقار الطرف المقابل و التقليل من قيمته و شأنه و منزلته. أو الإستهزاء بأحد الأصول و المباني و التعاليم الإنسانية و الدينية، و إظهارها للآخرين بشكل يوحي بأنها عديمة الأهمية. لذلك فإن السخرية و الإستهزاء يمكن أن يوجّه للفرد أو لمجموعة من الأفراد و يمكن أن يوجّه للثقافة و العادات و التقاليد و القيم الأخلاقية و الدينية.
فعندما يكون الهدف من الكاريكاتور تشوية سمعة الأفراد و إظهار عيوبهم إستهزاءً بهم، أو لتحقير القوم أو العشيرة و غير ذلك سينطبق عليه عنوان السخرية، و عندئذ من الطبيعي لا يكون جائزاً لا عقلاً و لا شرعاً، أما إذا انصب في خدمة الرأي العام للمجتمع و لأجل إراءة الضعف الإجتماعي و مشاكل المجتمع فمن البديهي عدم صدق عنوان السخرية عليه، بل يمكن اعتباره رسالة من أهل الفن لبيان المشاكل الإجتماعية و السياسية كالمشاكل الإقتصادية أو بعض التمييزات العنصرية و عدم المساواة و غيرها من الأمور.
يتناول هذا المقال في البداية التحقيق الإجمالي في علل و عوامل و خلفيات أحد الأساليب الأخلاقية غير الصحيحة و هي السخرية و الإستهزاء طبقاً لما جاء في تعاليمنا الدينية، بعد ذلك نعرج بالموضوع و ندخل في مسألة الكاريكاتور و هل يعتبر من مصاديق السخرية أم إنه مستثنىً منه؟. لهذا الغرض نبدأ أولا ببيان المعنى اللغوي للسخرية و الإستهزاء.
الف)يعتبر أكثر علماء اللغة و مفسري القرآن الكريم بأن كلمة الإستهزاء و السخرية ذات معنى واحد. و معناها هو احتقار الطرف المقابل و التقليل من قيمته و شأنه و منزلته[1]. أو الإستهزاء بأحد الأصول و المباني و التعاليم الإنسانية و الدينية، و إظهارها للآخرين بشكل يوحي بأنها عديمة الأهمية. إن كلمة "السخرية" المشتقة من كلمة "يسخر" هي بمعنى الإستهزاء، و الإستهزاء هو: ذكر ما يستحقر و يستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليد بحيث يضحك منه بالطبع.[2]
و المعنيان قد إستعملا في القرآن الكريم، نظير الآيات التالية:
1ـ "يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسىَ أَن يَكُونُواْ خَيرْا مِّنهْمْ وَ لَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسىَ أَن يَكُنَّ خَيرْا مِّنهْنَّ وَ لَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكمُْ وَ لَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَاب".[3]
2ـ "قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ ءَايَتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتهَزِءُون".[4]
أنواع السخرية:
للسخرية أنواع مختلفة كغيرها من الأشياء الأخرى، فقد تتم بكتابة الجمل الساخرة أو بنبز الآخرين بألقاب قبيحة و غير مقبولة، أو بكتابة مقالة أو قد تكون برسم الكاريكاتور أو عن طريق عرض مسرحي و تقليد لطريقة كلام و لهجة الأقوام و الأمم و... و غالباً ما تنتقل هذه الأمور للآخرين عن طريق وسائل الأعلام المكتوبة كالصحف و المنشورات، أو الصوتية و المصوّرة كالمذياع و التلفاز. و كما بيّنا، بأن الإستهزاء و السخرية، قد يتحققان باللسان أو بالعمل، كالإشارة و الكناية و التعريض و تقليد الحركات و الكلام، بشكل من شأنه أن يضحك المشاهدين و المستمعين. كما و هناك كلمات أخرى في الإستعمال القرآني لها إرتباط بكلمة السخرية من حيث الموضوع، كالهمزة و اللمزة و التنابز، و لا مجال في هذا المقال لدراستها و نرجعكم فيها إلى التفاسير القرآنية.[5]
دوافع و جذور السخرية
إن السخرية و الإستهزاء في رأي القرآن كباقي السلوك الإنساني القبيح له عوامل و جذور مختلفة يمكن هنا الإشارة إلى بعضها:
1ـ الإستعلاء
أحد جذور استعلاء الأفراد هو أن يرى الإنسان نفسه أو قومه أو محتده و عشيرته أفضل من الآخرين، و منها كثير من الفكاهات المتّجهة لعرق و ثقافة الأقوام الأخرى، فعندما يقول القرآن الكريم "يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسىَ أَن يَكُونُواْ خَيرْا مِّنهْمْ وَ لَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسىَ أَن يَكُنَّ خَيرْا مِّنهْنَّ وَ لَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكمُْ وَ لَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَاب"[6] فيُفهم من "عَسىَ أَن يَكُونُواْ خَيرْا مِّنهْمْ" أن منشأ الإستهزاء و السخرية هو حسّ الإستعلاء و التكبّر و الغرور. [7]
2ـ طلب الدنيا و محوريتها:
إن النصوص الدينية تعتبر إفتتان الكفار بالدنيا و شغفهم بها هو أحد عوامل سخريتهم من المؤمنين و إستهزائهم بهم: " زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرْ حِسَاب".[8]
3ـ الجهل
كثير من الناس و على أثر عدم معرفتهم بحكم الإستهزاء و السخرية و جهل بآثاره السيئة الدنيوية و الأخروية يقومون به لا لشيء سوى للتسلّي و التلهي، على أن الجهل مذموم في الروايات و كثيراً ما حذرت من آثاره السيئة فعن أمير المؤمنين (ع): "أسوء القسم الجهل".[9]
4ـ إرتكارب الذنب
يمكن عدّ الإستغراق في الذنوب من جملة جذور الإستهزاء و أسبابه، لأن الذنب يُظلم القلب و يبعده عن القيم، لذلك نجدهم يواجهون آيات الله عزّوجلّ بالاستهزاء و السخرية، و من هنا عبر عنهم القرآن الكريم: " ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُن".[10]
آثار الإستهزاء و السخرية
إن قبح و حرمة الإستهزاء و السخرية و وصف الآخرين بما لا يليق بهم و إظهار عيوبهم و إفشاء أسرارهم، من المسلمات الواضحة، سواء أ كانت عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق المحاورات أو العلاقات الإجتماعية الأخرى، و إن كان قبحها في وسائل الإعلام أكثر، لأن آثارها السيئة أكثر. نشير هنا إلى نموذجين من آثارها السيئة الثقافية و الدينية و السياسية و الإجتماعية:
1ـ تعريض سمعة الآخرين للخطر
من المشاكل التي تواجهنا في عصرنا الحاضر، هي كثرة إرسال الرسائل القصيرة عن طريق الهاتف الجوّال و كذلك البلوتوث و التي تنتشر بسرعة و تنتقل عن طريقها كثير من الأمور غير الأخلاقية و كذلك انتقاد الآخرين و الإستهزاء ببعض طبقات المجتمع و...، مع إن ديننا الإسلامي يؤكّد بأن حرمة المؤمن أكبر و أعظم من حرمة بيت الله: فعن أبي عبد الله (ع) قال: "المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة".[11]
2ـ نسيان الله
من الآثار السيّئة لللإستهزاء و التلهّي به هو الغفلة عن ذكر الله تعالى فضلاً عن إضمحلال الحمية الدينية و إضعاف المباني العقائدية للناس: "فَاتخَّذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتىَّ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَ كُنتُم مِّنهْمْ تَضْحَكُون".[12]
فهذه الآية تدل على ان الإنشغال بسخرية المؤمنين و الإستهزاء بعقائدهم و سلوكهم و تصرفاتهم و تسلية النفس بهذه المسائل يؤدي بلا شك إلى الغفلة عن ذكر الله سبحانه، و لا عاقبة للغفلة إلا العذاب الإلهى.
القسم الثاني: الكاريكاتور
يعتبر الكاريكاتور في يومنا الحاضر فنّاً يمكن ضّمه إلى غيره من الفنون، كالطرفة السياسية القولية و غيرها التي يراد منها إظهار بعض المسائل الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية و... فمن الممكن أن يعالج رسّام الكاريكاتور اليوم بفنه هذا كثيراً من المشاكل و النقائص الإجتماعية و يظهرها في قالب الكاريكاتور و هؤلاء كغيرهم من الأفراد يمكنهم عن هذا الطريق أداء حق رسالتهم الثقافية و التزامهم الإجتماعي و الديني.
و كمثال على ما نقول إذا قام أحد هؤلاء الفنانين برسم أحد الأمثال و التشبيهات القرآنية على شكل كاريكاتور، بأن يأخذ مثلاً الآية "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكلُونَ فىِ بُطُونِهِمْ نَارًا وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[13] و يرسمها على شكل شخص يأكل ناراً أو قوله تعالى "وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *الَّذي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ"[14] و يبين تهديد الله و إنذاره للأثرياء الذين ليس لهم هدف إلا جمع الأموال و تكديس الثروة، على شكل كاريكاتور، فهل سينطبق على هذا العمل عنوان السخرية؟ فمن الطبيعي عدم ذلك، بل هو عمل ينسجم مع الرسالة الدينية و الثقافية.
على أي حال، فهذا العمل (الكاريكاتور) إذا كان لأجل تشويه سمعة الأفراد و إظهار عيوبهم لأهداف غير أخلاقية و لا عقلانية و لا شرعية[15] أو إذا كان لأجل الفساد الثقافي و غيره سينطبق عليه ـ بلا شك ـ عنوان السخرية و من الطبيعي يكون حراماً و غير جائز، أما إذا انصبّ في خدمة الرأي العام للمجتمع و لأجل إظهار الضعف الإجتماعي و مشاكل الأمة و المجتمع، فمن البديهي عدم صدق عنوان السخرية عليه، بل يمكن اعتباره رسالة من أهل الفنّ لتنبيه المسؤولين و المتصدين على المشاكل الإجتماعية و السياسية كالمشاكل الإقتصادية أو بعض التمييزات العنصرية و عدم المساواة و غيرها من الأمور.
[1] الفهري، سيد أبو الحسن، قاموس المحيط، كلمة "السخرية"، المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 11، ص 256، القرشي، علي أكبر، قاموس القرآن، ج 7، ص 154، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1371 ش.
[2] الطباطبائي، سيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص321، مكتب النشر الاسلامي، 1417هـ.
[3] الحجرات، 11.
[4] التوبة، 65.
[5] كمثال على ما نقول راجعوا تفسير الأمثل للشيخ المكارم الشيرازي، ج 16، ص 546، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، قم، 1421 ق.
[6] الحجرات،11.
[7] تفسير الأمثل، ج 22، ص 179.
[8] البقرة، 212.
[9] التميمي الآمدي، عبد الواحد، غرر الحكم، ص 73، مكتب تبليغات الإسلامي، قم، 1366 ش.
[10] الروم، 10.
[11] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 64، ص 71، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1409 ق.
[12] المؤمنون، 110.
[13] النساء، 10.
[14] الهمزة، 1-3.
[15] إذا كان لهدف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلا ينطق عليه عنوان السخرية.