سنجیب عن هذا السؤال فی قسمین، هما:
1- ماهیة الموت و شموله یوم القیامة.
2- المستثنون من الموت فی ذلک الیوم.
القسم الاوّل: إن موت کل شیء بنظر القرآن الکریم یأتی عند حلول (أجل) ذلک الشیء، و من هنا فإن جمیع الموجودات لها (أجل) و نتیجة ذلک أن الجمیع - بشراً کانوا أم غیر بشر - یموتون فی نهایة الأمر.
و إن تعیین کل أجل یرجع إلى الله تعالى الباقی الوحید الذی لا یطاله الفناء و إن الموت انتقال من الحیاة الفانیة إلى الحیاة الباقیة الخالدة عند الله، إن الموت الذی یطال کل الموجودات سوف یأتی یوم تقوم القیامة الکبرى و إن القیامة هی الساحة التی یحضر فیها الجمیع بین یدی الله سبحانه.
و یعتبر القرآن ابتداء و وقوع هذا الحادث عندما ینفخ فی الصور حیث یکون سبب الموت فی النفخة الاوّلى و سبب الإحیاء فی النفخة الثانیة، و لهذا هناک مجموعة من الآیات و الروایات تحکی عن طی بساط السماوات و الأرض، و مجموعة ثالثة تتحدث عن حضور الخلائق جمیعاً فی عرصة القیامة التی تمثل التجلی الکامل للحیاة الأبدیة الخالدة.
إن مطالعة هذه الآیات و الروایات و استیعاب مدلولاتها یفهم منه أن السماوات و الأرض و عالم البرزخ و کذلک جمیع من فیها حتى حملة العرش و الملائکة المقربین (جبرائیل و میکائیل و ملک الموت و إسرافیل) لا یکونون فی أمان من أهوال ذلک الیوم و ما یحدث بعد النفختین من موت شامل و حشر للجمیع.
القسم الثانی: الآیات و الروایات التی تقدم ذکرها و غیرها مما یماثلها کلها تبین هذه الظاهرة الکبرى، و إضافة إلى المسائل و المطالب التی قدمنا ذکرها، فإن النصوص توضح خصوصیات الأشخاص المستثنین من العذاب و المعاناة و الأهوال فی ذلک الیوم، و إنهم یدیمون حیاتهم فی أمن و أمان بعیداً عن کل هذه الحوادث. و طبقاً لبیان القرآن فإنهم یتمتعون بخصوصیتین کلیتین، و الخصوصیتان هما شیء واحد فی واقع الأمر عبر عنه بتعبیرین:
1- امتلاک الحسنة المحضة المطلقة و التنزه عن کل سیئة و دنیة.
2- الخلوص لله فی العبودیة فهم عباد مخلصون.
و هذه الفئة من الناس و نتیجةً لریاضة النفس و مجاهدتها تحررت من کل تعلقات الدنیا و الصور المثالیة البرزخیة و وصلت إلى حسابها فی الآخرة و سیقت إلى الجنة بشکل مباشر و انتهت إلى لقاء ربها و حطت رحالها هناک.
و فی النتیجة لایقفون فی البرزخ، و لا تعترضهم عقبات یوم القیامة، و فی حقیقة الأمر فإن هذه الفئة هی تجسید للقول: (موتوا قبل أن تموتوا).
و المصداق الکامل و الحقیقی لهذه الفئة هم المعصومون الأربعة عشر (ع)، مع أن الأنبیاء و الاوّلیاء و العارفین من الناس و المحبین و المتبرئین من الاعداء و المندرجین ضمن ولایة الأربعة عشر من هذه الذوات النورانیة، فإنهم یمثلون مصادیق الاستثناء و النجاة أیضاً کل بحسب مرتبته و درجته یوم تحل أهوال النفختین.
من أجل إعطاء جواب شافٍ و مستوعب لهذا السؤال، لابد من توضیح ماهیة الموت یوم القیامة أوّلاً، ثم نتعرض للموت الذی یشمل الجمیع، ثم نجیب عن السؤال القائل: هل یوجد أشخاص لا تطالهم أهوال ذلک الیوم؟ و فی حالة وجود مثل هکذا أشخاص فما هی مشخصاتهم و صفاتهم؟ و من عسى أن یکونوا مصادیق هؤلاء الأفراد فی عالم الخارج؟
القسم الاوّل: و فی توضیح القسم الاوّل یمکن أن نقول: إن موت کل شیء فی نظر القرآن الکریم یأتی حینما یحین (أجله) و إن جمیع الموجودات - من الإنسان و غیر الإنسان - لها أجل محدود.[1] و کل الموجودات تسیر فی حرکتها باتجاه نقطة معینة ستکون النهایة بالنسبة لها و السکون و الکف عن الحرکة و بلوغ مرحلة الاستقرار، و نقطة الاستقرار هذه عند الله بحسب تعبیر القرآن الکریم، «وَ أَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ»،[2] و إن کل ما هو عند الله فإنه باق «وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ»،[3] و لذلک فإن الموجودات التی تنتهی إلى الله و تحضر عنده ستکون لها حیاة أبدیة و خالدة. و إن جمیع الموجودات سواء فی ذلک الإنسان و غیره فی حالة صیرورة باتجاه الله سبحانه و عاقبتها إلیه، و سوف تحضر بین یدیه و تحشر إلیه، و هذا الرجوع الشامل إلى الله هو (الموت) و یعرف بأنه: خروج من الحیاة المتصفة بالحرکة و الکون و الفساد و التغییر و الزمان، و الضیق و الظلمة و الکثرة و التفرق و ... و دخول الحیاة المتصفة بأنها عند الله التی تعتبر حیاة و بقاءً محضاً و خلود الحیاة المتصفة بأنها عند الله التی تعتبر حیاة و بقاءً محضاً و خلودا و رحابا و سعة و نورا و وحدة ... و إنها تتجلى من دون أن یُخالطها لون من ألوان النقص المتقدمة، إذن یمکننا أن نحصل على النتیجة التالیة: إن جمیع الموجودات من الإنسان و حتى السماوات و الأرض و جمیع ما فیهما سوف تواجه مثل هذا (الموت) بغض النظر عن الألفاظ المختلفة التی أشیر فیها إلى هذه الحقیقة، کما عبر عن خروج الروح بالنسبة للإنسان بلفظ الموت، و بلفظ آخر بالنسبة لغیر الإنسان، و هذا ما یأتی بیانه فی هذا المقال.
إن هذا الموت و الأجل الذی یشمل جمیع الموجودات و لا یترک شیئاً منها سوف یتحقق یوم القیامة الکبرى، و إنه سوف یحیط بکل الظواهر و الکائنات ما عدا الله سبحانه، و إن أجل الجمیع سوف یأتی و یحل یوم القیامة و سوف تقف جمیع الخلائق فی عرصة ذلک الیوم المسمى یوم القیامة، التی تمثل ساحة الحضور بین یدی الله سبحانه.
و بعبارة أخرى، أن فی یوم القیامة الکبرى و یوم البعث یطوى بساط السماوت و الأرض و عالم البرزخ، و کذلک یفنى جمیع من فی هذه العوالم (من أهل الدنیا و أهل البرزخ و الملائکة...) و عندها تقوم القیامة و یحشر الجمیع لدى الله سبحانه، و ینتهی الجمیع إلى الحیاة الأبدیة الخالدة المحضة. و إن بیان المشخصات و الأحوال و الخصوصیات التی تتصف بها (الحیاة عند الله) تحتاج إلى مقال مستقل.
و قد عبر القرآن عن منشأ هذه الواقعة و مبدأها بـ (نفخ الصور)[4] و إن هذا النفخ فی الصور هو سبب الموت الجماعی و کذلک سبب الحیاة و النشور بعد ذلک و القیامة بعد الموت، و کذلک ورد فی القرآن التعبیر عن هذه الحادثة بـ (الصیحة)،[5] و (الزجرة)،[6] و (الصاخة)،[7] (الصیحة الشدیدة) و (النقر فی الناقور)[8] و (النفخ فی آلة یخرج منها صوت)، و من مجموع هذه الألفاظ التی تعبر عن واقعیة واحدة یتحصل أن (الصور) و (نفختیه) کمثل ما یستعمل فی الجیوش من آلة تسمى (البوق) الذی ینفخ فیه لأوّل مرة تعبیراً و أمراً بالسکوت و الاستماع، ثم ینفخ فیه ثانیة کأمر بالحرکة و[9]... و قد وردت آیات و روایات کثیرة فی بیان و شرح هذه الحادثة المهولة العظمى، و على عدة مجموعات:
1- الآیات التی تؤکد أن النفخ فی الصور یتبعه الموت و الانطفاء الکامل و طوی بساط السموات و الأرض، مثل قوله: «فَإِذَا نُفِخَ فِی الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَ حُمِلَتِ الأَرْضُ وَ الْجِبَالُ فَدُکَّتَا دَکَّةً وَاحِدَةً * فَیَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ»[10]. و قوله: «یَوْمَ نَطْوِی السَّمَاءَ کَطَیِّ السِّجِلِّ لِلْکُتُبِ کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ»[11] و قوله: «مَطْوِیَّاتٌ بِیَمِینِهِ»،[12] و کذلک آیات أخرى[13] و الجمیع تخبر عن الحوادث التی تقع یوم القیامة إثر النفخ فی الصور الذی تحیط إشعاعاته و أمواجه بجمیع الکائنات.
و من خلال التعمق و التأمل فی مضامین هذه الآیات یمکن التوصل إلى کیفیة موت السماوات و الأرض و انطفاء الجمیع و هو عبارة: عن طی بساطها و تبدیل طبیعتها إلى ما یتناسب مع عرصة یوم القیامة.
2- المجموعة الثانیة: من الآیات و الروایات تدل على أن کل من فی السموات و الأرض یشمله الموت عندما ینفخ فی الصور، «وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِی الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَ کُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِینَ»،[14] «وَ نُفِخَ فِی الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِی الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِیَامٌ یَنْظُرُونَ»،[15] و (الفزع) یعنی الخوف الشدید و (صعق) أی غاب عن الوعی و الإحساس، و فی الحقیقة فإن هاتین الصفتین تبینان حقیقة الموت التی شرحناها فی بدایة هذا المقال، أی أنه الموت المصحوب بالخوف و فقدان الوعی الحاکی عن الموت، و إنه یشمل جمیع من فی السموات و الأرض.
و علیه أولاً: إن البرزخ هو تتمة للدنیا و تابع لها، و لهذا عبروا عن عالم القبر[16] و جنته بالقول (جنة الدنیا)،[17] و ثانیاً: إن أهل الدنیا جمیعاً لابد و أن یمروا بعالم البرزخ،[18] مروراً طویلاً أو قصیراً، و إن المراد بقوله (من فی الأرض) هم أهل الأرض الذین وردوا عالم البرزخ لا أولئک الذین کانوا یعیشون على سطح الأرض. و المراد فی قوله (من فی السموات) أرواح السعداء و الملائکة[19]، الموجودات التی تحررت من الصور المثالیة و قوالب عالم البرزخ، و استقرت(فی السموات) فی عالم فوق عالم البرزخ.
إن موت هاتین المجموعتین (أهل الأرض و أهل السموات) بسبب النفخ فی الصور، لا یعنی فقط أنهم غادروا النشأة الدنیا و ترکوا هذه الأجسام المادیة و حسب، و إنما تحرروا من الصور المثالیة و القوالب البرزخیة أیضاً. و ارتقوا إلى السموات، و حطوا الرحال بفناء ساحة المولى، و الفناء فی الذات الأحدیة المقدسة.
3- المجموعة الأخرى من الآیات تلقی الأضواء على نفخة الحیاة،[20] و بقاء جمیع أولئک الذین ماتوا أثر النفخة الاولى، و نتجاوز ذکر هذه الآیات فی هذه المقالة تجنباً للإطالة و توخیاً للاختصار.
و ذکرت أیضاً الروایات التی تشیر إلى المجامیع الثلاث من الآیات، نکتفی بذکر بعض مضامینها على وجه الاختصار. ینفخ فی الصور ملک باسم (اسرافیل) فیموت جمیع من فی السماوات و الأرض حتى حملة العرش (جبرائیل و میکائیل) و حتى اسرافیل یموت بعد ذلک بأمر الله،[21] و تفنى جمیع الأشیاء[22] و بعد فناء الدنیا لا یوجد زمان و لا مکان فتعدم الآجال و الأزمنة و لا وجود لوحدات الزمن من اللحظات و السنوات،[23] و لا یبقى شیء إلاّ الله الواحد القهار.
و ینفخ فی الصور مرة أخرى فیحیا جمیع من فی الأرض و السماء،[24] و تعود الأشیاء مرة أخرى کما خلقها خالقها.[25]
و المحصل من مجموع هذه الآیات و الروایات أن کل من فی السموات و الأرض و البرزخ یساقون حتى الملائکة المقربون لله عز و جل، فإنهم لیسوا بأمان من أهوال و عقبات ذلک الیوم المفزعة الرهیبة بعد النفختین فی الصور و الموت الجماعی و الحضور فی المحشر و ما یترتب علیه، و إن هذا الحادث المحیط سیشمل الجمیع دون تمییز.
و لکن مع وجود الآیات و الروایات المتقدمة هناک آیات و روایات أخرى تتحدث عن هذا الیوم و حوادثه، و إضافة إلى ما تحمل من معانٍ تقدم ذکرها، فإنها تنبئُ و تشیر إلى أوصاف و مشخصات فئة من العباد مستثنین من حوادث ذلک الیوم و ما یجری إثر النفختین من أهوال و عقبات و متاعب و أوصاب، و إنما یکونون فی أمن و أمان عما یجری فی ذلک الیوم من حوادث و اتفاقات و یدیمون حیاتهم دون تأثر بهذه الأحداث.
القسم الثانی: شرح و توصیف حالة عدد من أولئک الذین لم تشملهم تلک الحوادث دون تأثر بهذه الأحداث.
القسم الثانی: شرح و توصیف حالة عدد من أولئک الذین لم تشملهم تلک الحوادث کما جاء فی الآیات و الروایات.
ألف- فی الآیتین 67 من سورة الزمر، و 78 من سورة النمل، و اللتین تتحدثان عن النفخة الاولى، و بعد بیان ما یجری على أهل السموات و الأرض إثر النفخ فی الصور، و إنهم یتعرضون (للفزع) و (الصعق) تأتی عبارة الاستثناء فی قوله: «إلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ»، إشارة إلى وجود فئة تستثنى مما یصیب أهل السموات و الأرض من فزع و هلع إثر نفخة الصور، ثم تأتی الآیات 89 -90 من سورة النمل لتفسّر و توضح من هم المستثنون وتقول إنهم أصحاب الحسنات: « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ یَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ».
ب- کذلک فی الآیات التی تتحدث عن نفخة الحیاة نظیر الآیات 68 فی سورة الزمر و 53 فی سورة یس، و التی یفهم منها أن أولئک الذین تعرضوا للإماتة فی النفخة الاولى سیحضرون عند الله فی النفخة الثانیة حین ینشرون أحیاءً، و لکن الله یستثنی عباده (المخلصین) من هذا الإحضار کما جاء فی الآیة 127 و 128 فی سورة الصافات.
و علیه فإن أصحاب الحسنات و عباد الله المخلصین هم المستثنون من أحداث و مجریات النفختین و ما یجری على الجمیع أثرهما فیتمتعون بالأمان و الاطمئنان عند الله.
و عندما یتضح لدینا معنى هاتین الصیغیتین (الحسنة، و المخلصین) نتمکن من تشخیص أولئک المستثنین مما یجری فی ذلک الیوم. و لهذا ندرس الآیات و الروایات التی تذکر هذین المفهومین لنصل إلى معنیهما و مدلولیهما.
1- المراد من (الحسنة) (الحسنة المطلقة)، أی الحسنة التی لا تشوبها أی شائبة من السیئة، و إن أصحاب الحسنات المطلقة هم أفراد من أهل الإیمان، و إن ذواتهم خالیة و منزهة من کل الشوائب و مطهرة من کل رجس و دنیة و خالیة من أی لون من ألوان (النفاق) و (الکفر) و (الشرک) لم یسلموا قلوبهم لغیر الله تعالى، و قد أوکلوا جمیع أمورهم و شؤونهم إلیه، حتى وصلوا مرتبة التسلیم الکامل و التوکل المحض، و تجاوزوا ذلک، فخلت نفوسهم من أی شائبة و مظهر من مظاهر الاستکبار و الفرعونیة، و إنما شأنهم الفناء فی ذات الله، و هذه الخصائص تکشف عن مقام (الولایة).
و على هذا الأساس جاء التعبیر بلفظ (بالحسنة) کما تشیر الروایات. التی تفسر معنى هذه الآیة بولایة أمیر المؤمنین (ع).[26] و معرفة ولایة أهل البیت (ع) و محبتهم، و إن السیئة تعنی إنکار ولایتهم و إظهار البغض لأهل البیت (ع).[27]
2- المراد من المخلصین بحسب تعبیر الآیة «قَالَ فَبِعِزَّتِکَ لأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ * إِلاَّ عِبَادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ»،[28] إن امتیازهم عن الآخرین هو حفظهم و صیانتهم من إغواء الشیطان و حیث أن معنى إغواء الشیطان کما هو مضمون الآیة 22 من سورة إبراهیم هو وعوده الکاذبة و الوقوع فی حبائل هذا الخداع الکاذب و أن الطرف الآخر للوقوع بهذه الحبائل هو (الشرک) و الضلال. فالمخلصون من العباد إذاً هم أولئک المطهرون المنزهون من الشرک و الذین یلاقون الله خالصین مخلصین.
و بالتأمل و الدقة فی معنى المفهومین نجد أن کلیهما یبینان حقیقة واحدة. و علیه یمکن وصف الأفراد المستثنین من حوادث النفختین على الوجه التالی: إنهم العباد الذین لا یرون أی وجود سوى وجود الله، و لا یعرفون لغیره مقاماً و منزلة، و لیس لهم أی اختیار بالنسبة لما یصیبهم من نفع أو ضرر أو موت أو حیاة، و إن حقیقتهم و سرهم هو الفناء و الذوبان و الاستغراق بالله تعالى، کما أوکلوا کل أمورهم و شؤون حیاتهم إلى الحق سبحانه، و لم یصدر منهم إلاّ ما یجلب رضا الله و رضوانه، إیتاء (النوافل) و البحث عما فیه رضا الخالق هو دأبهم و شغلهم، و لذلک صار الله عیناً و سمعاً و یداً و لساناً و قلباً بالنسبة لهم.[29] و قد تحولوا - و من دون غلو - الى مرآة إلهیة صافیة، و إنهم یعکسون وجهه الکریم، و إن حقیقتهم تتمثل فی (وجه الله).
و (الوجه) هنا بمعنى الوجه الباطنی و حقیقة کل شیء التی تتوقف علیها معرفة الشیء الکاملة. و لا یمکن التوصل إلى تلک المعرفة إلاّ بها. و إن کون هؤلاء العباد هم وجه الله یعنی أنهم أکمل آیات الله و المرآة الصافیة التی تحکیه و تجلی (صورته) یقول تعالى: «کُلُّ شَیْءٍ هَالِکٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»،[30] و على هذا الأساس، عندما تفنى جمیع الخلائق بما فی ذلک السموات و الأرض و ما فیهما حتى الملائکة المقربون و أهل البرزخ أثر النفخة الاولى، فإن هؤلاء الأشخاص باقون، و لا یقترب الفناء و الزوال من حقیقتهم. و حیث أن وجودهم فان و ذائب فی الله تعالى و لم یبق لهم من وجود سوى وجوده و وجود وجهه، فلا یتوقفون فی البرزخ و لا فی القیامة و الحشر للحساب و السؤال و الجواب. ذلک لأنهم عندما کانوا فی الدنیا بلغوا مرتبة التحرر من کل تعلقاتها و آصارها من خلال الریاضات و المجاهدات النفسیة فی دائرة رضا الله و إرادته، إضافة إلى أنهم تحرروا من الصور المثالیة و القوالب البرزخیة، و وصلوا إلى حسابهم و کتابهم بشکل مباشر، فدخلوا جنة الذات و لقاء الخالق و حطوا رحالهم فی ساحته، إنه مکان الأمن الذی یبلغه السائرون لینعموا بالهدوء و الاطمئنان.[31]و لذلک فهم فی أمن و أمان من لذع تلک الحوادث الشاملة العظیمة التی تقع أثر نفختی الأماتة و الإحیاء، لأن ثمرة هذا الحادث العظیم هو بلوغ کل الموجودات و کل حسب استعداده و استیعاب ظرفه الوجودی للحیاة (عند الله). لأن هؤلاء العباد عاشوا حیاةً أکمل و أعلى مما یناله الآخرون إثر النفخة فی الصور.
و بالتدقیق بما تقدم یفهم أن هؤلاء العباد یمثلون المصداق الکامل لمقولة (موتوا قبل أن تموتوا) و بسبب وجودهم المتمثل (فی وجه الله)، فإن حشرهم و حضورهم یوم القیامة یختلف عن سائر المخلوقات. و بالتوجه إلى ما ورد فی الروایات من عبارات (الحسنة)[32] و (وجه الله)[33] و (الأسماء الحسنى)[34] و (الآیة الکبرى)[35] و نظائرها، فإن المصداق الکامل و الحقیقی لهؤلاء العباد هو الرسول الأکرم (ص) و أهل بیته الطیبون الطاهرون (ع) - و هم المعصومون الأربعة عشر - و أما الأنبیاء و الاولیاء و العارفون و المحبون و المنزهون من البغض و العداوة بالنسبة إلى هؤلاء العباد، فإن لهم مقامات و درجات بحسب ما لهم من مراتب وما یتسع له استعدادهم و ظرفیة وجودهم، و ذلک ضمن السیر فی خط الولایة و المحبة لهؤلاء الصفوة، فإنهم یکونون فی مراتب أدنى و أقل باعتبار کونهم مصادیق لمفهوم (العباد).
و فی الختام لابد من التذکیر أن هذا الحادث العظیم و الیوم المشهود - و نظراً لأهمیته و عظمته - فإنه یحتاج إلى تفصیل و شرح أوسع مما جاء فی هذا المقال، و لذلک ننصح بالرجوع إلى الکتب التی ألفت فی هذا الموضوع لمزید من المعلومات و الإیضاح بخصوص هذا الیوم العظیم و ما ینطوی علیه من أسرار و ما یضمن من حقائق.
مصادر للإطلاع:
1- الطهرانی، محمد حسین، المعاد، ج4.
2- جوادی الآملی، عبدالله، معاد در قرآن "المعاد فی القرآن" (التفسیر الموضوعی للقرآن)، ج4، ص281-297.
3- الطباطبائی، السید محمد حسین، حیات پس از مرگ" الحیاة بعد الموت"، ترجمة، مهدی نبوی و صادق لاریجانی، ص48-62.
[1] الروم، 8.
[2] الأنعام، 2.
[3] النحل، 96.
[4] النمل، 87؛ زمر، 68؛ الحاقة، 13-15؛ و ...
[5] یس، 53.
[6] النازعات، 13 و 14.
[7] عبس، 33 و 34.
[8] المدثر، 8 - 10.
[9] انظر: الحیاة بعد الموت، ص49 و 50.
[10] الحاقة، 13-15.
[11] الأنبیاء، 104.
[12] الزمر، 67.
[13] النازعات، 6 و 7؛ المزمل، 14؛ الحج، 1 و 2؛ التکویر، 3 و 4 و 6؛ القارعة، 5؛ القیامة، 9-7؛ کویر، 1؛ الانفطار، 2؛ و ...
[14] النمل، 87.
[15] الزمر، 68.
[16] تفسیر نور الثقلین، ج3، ص254.
[17] لئالی الأخبار، ج4، ص252.
[18] المؤمنون، 100.
[19] انظر: الحیاة بعد الموت، ص51.
[20] الزمر، 68؛ یس، 51 و 53؛ الکهف، 99؛ طه، 102؛ النبأ، 18؛ ق، 20 و 42 ؛ و ...
[21] الکافی، ج3، ص256.
[22] الاحتجاج، ج2، ص 245.
[23] نهج البلاغة، خ186، بند 29.
[24] الکافی، ج3، ص 256.
[25] الاحتجاج، ج2، ص245.
[26] تفسیر القمی؛ بحار الأنوار، ج7، ص117 و 175؛ ج24، ص45.
[27] الحاکم الحسکانی، شواهد التنزیل، ج1، ص426؛ کافی ج1، ص 185، ح14.
28]] ص، 82 و 83.
[29] الکافی، ج2، ص352 (حدیث قرب نوافل).
[30]مواضع ذات صلة: فناء الأشیاء على سطح الأرض (تفسیر الآیة 26 من سورة الرحمن)، رقم السؤال 868.
[31] الفجر، 27 - 30.
[32] بحار الأنوار، ج7، ص117 و 175؛ و ج24، ص45.
[33] نفس المصدر، ج4، ص 5 – 7؛ ج24، 114-116.
[34] نفس المصدر، ج25، ص4، ح7.
[35] نفس المصدر، ج23، ص206.