یبدو أن السائل لم یفهم المراد من برهان استحالة التسلسل و کیفیة الاستدلال به، هذا من جهة؛ و من جهة ثانیة انه تصور أو ظن انه من الممکن تطبیق صفات الله تعالى الذی هو وجود مجرد على الکرة الارضیة التی هی وجود مادی، لها خصوصیات المادة.
من هنا ینبغی اولا معرفة برهان استحالة التسلسل معرفة دقیقة، و ثانیا معرفة الالوهیة و المراد من واجب الوجود(الله) لیتّضح لنا انه لایمکن بحال من الاحوال ان یکون مصداقه وجودا مادیا محدودا بأبعاد المادة.
1- المراد من التسلسل هو ترتب امور غیر متناهیة، لکن الفلاسفة یرون التسلسل مستحیلا بشرطین أساسیّین: أحدهما ان یکون بین حلقات السلسلة ترتب حقیقی بحیث تکون کل واحدة منها مترتبة فی الواقع على الاخرى لا بحسب الاعتبار و الاتفاق. و الثانی ان تکون جمیع الحلقات موجودة فی زمان واحد، لا أن إحداهما تفنى و الأخرى توجد بعدها.
قد بیّن الفارابی استحالة التسلسل فی العلل الحقیقیة بالنحو التالی: لو کانت کل حلقة من حلقات سلسلة العلل و المعلولات تحتاج الى ما بعدها فهذا یعنی ان کل السلسلة أیضا تحتاج الى علة موجدة لان المفروض ان کل حلقاتها محتاجة الى علّة، فلابد من ان تنتهی السلسلة الى علّة، هذه العلة لا تحتاج الى علة فتکون سلسلة العلل تنتهی الى مبدء غنی عن العلة.
و على أساس اصالة الوجود و التبعیة الذاتیة لوجود المعلول لعلته یمکن ان یقام برهان آخر على إثبات تناهی علل الوجود بالقول: لو لم یکن وراء سلسلة العلل – التی تکون کل واحدة منها عین التبعیة- وجود مستقل مطلق، یلزم من ذلک حصول التابع و المحتاج بدون المتبوع و الغنی.
2- عندما نتحدّث عن الله نعنی بذلک الموجود القدیم و واجب الوجود الغنی فی ذاته و المنزهة عن الحاجة و التبعیة و... فحینئذ کیف یمکن القول -حسب مفروض السؤال- بامکان الوصول الى کرة هی غنیة فی ذاتها مع کونها مادة و جسما، و الحال ان کل موجود جسمانی محتاج لانه محتاج الى أجزائه و مرکباته و....؟!
بعبارة أخرى: نستدل ببرهان استحالة التسلسل على وجود واجب الوجود و الذی یعنی الموجود المستقل القائم بالذات الغنی عن العلة و الذی تستند الیه الوجودات التبعیة و الفقیرة بوجودها الیه، و هذه الخصوصیة لایمکن ان تصدق على الموجود المادی، الجسم و الجسمانی کالکرة الارضیة؛ لان الکرة الارضیة جسم و الجسم من صنف الممکنات، و الممکن مستند فی وجوده على الواجب.
یبدو من ان السائل المحترم لم یفهم جیدا المراد من برهان استحالة التسلسل هذا من جهة، و من جهة ثانیة ظن انه من الممکن اسراء صفات الواجب تعالى على المادة المحدودة لاثبات نفی وجود الله تعالى.
من هنا ینبغی اولا معرفة المراد من برهان استحالة التسلسل؛ و ثانیا بیان المراد من الله تعالى و صفاته و بیان ان مصداق ذلک لا یمکن ان یکون موجودا مادیا محدودا.
و کمقدمة نقول: المراد من التسلسل ترتب امور غیر متناهیة و قد قال الفلاسفة بان التسلسل المحال هو الذی تکون حلقاته ذات ترتب حقیقی و لها اجتماع و تحقق فی الوجود.[1]
و لقد ذکرت عدة تقریرات لاثبات استحالة التسلسل نشیر الى بعضها:
قال الفارابی فی برهانه المعروف بالاسد الاخصر: أنه إذا کان ما من واحد من آحاد السلسلة الذاهبة بالترتیب بالفعل لا إلى نهایة إلا و هو کالواحد فی أنه لیس یوجد إلا و یوجد آخر وراءه من قبل کانت الآحاد اللامتناهیة بأسرها یصدق علیها أنها لا تدخل فی الوجود ما لم یکن شیء من ورائها موجودا من قبل، فإذن بداهة العقل قاضیة بأنه من أین یوجد فی تلک السلسلة شیء حتى یوجد شیء ما بعده.[2]
بمعنى انه لو فرضنا سلسلة من الموجودات بحیث تکون کل حلقة منها متعلقة و متوقفة على الأخرى فما لم توجد الحلقة السابقة فان الحلقة المتوقفة علیها لا توجد ایضا، فلازم ذلک ان تکون کل هذه السلسلة متوقفة على موجود آخر، لان الفرض هو ان جمیع حلقاتها تتمیز بهذه الخاصة، فلا مفر من فرض موجود على رأس هذه السلسلة و هو غیر متوقف على شیء آخر، و ما لم یکن ذلک الموجود متحققا فان حلقات السلسلة لن توجد بالترتیب، اذن مثل هذه السلسلة لا یمکن ان تکون غیر متناهیة من جهة البدء، و بعبارة اخرى فالتسلسل فی العلل مستحیل.
و لصدر المتألهین فی الحکمة المتعالیة تقریر آخر لبیان استحالة التسلسل ینطلق فیه من فکرة اصالة الوجود حاصله: بناء على القول باصالة الوجود و کون الوجود المعلول رابطا بالنسبة الى علته المفیضة للوجود فان کل معلول بالنسبة الى علته الموجدة له یکون عین الربط و التعلّق و لیس له أی لون من ألوان الاستقلال، و اذا فرضنا ان هذه العلة المفروضة کانت معلولة بالنسبة الى علّة أعلى منها فان لها نفس الحالة بالنسبة الیها. اذن لو فرضنا سلسلة من العلل و المعلولات بحیث تکون کل علة فیها معلولة لعلة أخرى فسوف تکون هناک سلسلة من التعلقات. و من البدیهی انه لایتحقق وجود المتعلق من دون وجود مستقل یقع طرفا لتعلقه، اذن لابد ان یکون وراء هذه السلسلة من الروابط و التعلقات وجود مستقل یتحقق الجمیع فی ظله. و بناء على هذا فانه لایمکن اعتبار هذه السلسلة بلا بدایة و من دون مستقل مطلقا.[3]
اتّضح من خلال ذلک انا نحتاج الى موجود لایکون معلولا لعلة أخرى و یکون مستقلا مطلقا عن غیره و هو ما نطلق علیه اسم الله تعالى و الفلاسفة یطلقون علیه عنوان" واجب الوجود".
بعبارة أخرى: ان الکلام منصب على انه لیس کل موجود یمکن ان یکون مبدأ لحلقة العلل و المعلولات الا ان یکون مستقلا و غنیا لیکون منطلقا لسائر حلقات السلسلة.
و هنا یثار السؤال التالی: هل یمکن للکرة الارضیة ان تکون هی ذلک الوجود المستقل و الغنی الذی تنطلق منه سائر الموجودات، و الحال انها جسم و انها من صنف الممکنات، و هل یصحّ لمثل هکذا موجود ان یکون مستقلا و غنیّا ذاتا؟ و هل ان مجرد فرض کونه قدیما یخرجه عن صفة الامکان الذاتی و ینفی عنه حدوثه الذاتی؟!!.
و لتوضیح ذلک نقول:
1- الموجود ینقسم الى قسمین واجب و ممکن. و الواجب قدیم ذاتا، و الممکن هو الاخر ینقسم الى قسمین، قدیم زمانی و حادث زمانی؛ و مناط حاجة الشیء للعلة هو الامکان الذاتی لا الحدوث الزمانی[4]؛ بمعنى کون الشیء فی مرتبة الذات فاقدا لاقتضاء الوجود و محتاج الى العلة لا انه لم یوجد ثم وجد.[5]
2- کل ما کان جسما أو جسمانیا لایمکن ان یکون واجبا و مبدأ للممکنات[6]؛ یعنی ان حدوث و امکانه لیس ذاتیا و لو کان قدیما زمانیا. فالجسمیة تلازم المحدودیة و الحاجة کحاجة الجسم الى اجزائه و... و الحال ان الواجب غیر متناه لیس له حد و لیس محدودا و انه بسیط غیر مرکب من اجزاء خارجیة و لا ذهنیة. فالحد و القید و المحدودیة تعنی المقهوریة و المعلولیة و الحال ان واجب الوجود وجود مطلق غیر متناه.[7]
تحصل انه یمکن من خلال برهان استحالة التسلسل اثبات واجب الوجود و الذی یعنی الموجود المستقل القائم بذاته الغنی عن العلة و هو العلة لسائر الاشیاء فانها محتاجة و فقیرة الیه، و من الواضح ان هذه الخصوصیات لایمکن ان تصدق على الموجود المادی الجسم و الجسمانی کالکرة الارضیة؛ لان الکرة الارضیة جسم و الجسم من صنف الممکنات، و الممکن مستند فی وجوده على الواجب.
و فی الختام نشیر الى ان براهین اثبات وجود الله تعالى غیر منحصرة بهذا البرهان بل هناک براهین و ادلة عقلیة أخرى یمکن مراجعتها من خلال مطالعة الاسئلة التالیة:
1. السؤال رقم 1055 (الموقع: 1218)، عنوان: معرفة الله تعالی.
2. السؤال رقم 1286 (الموقع: )، عنوان: ادلة وجود و کیفیة خلقة الله.
3. السؤال رقم 1041 (الموقع: )، عنوان: الفطرة و معرفة الله.
[1] مصباح الیزدی، محمد تقی، المنهج الجدید فی تعلیم الفلسفة،ج 2، ص 88، الطبعة الثانی، مؤسسة النشر الاسلامی، 1409 هـ.
[2] الأسفارالأربعة، ج 2، ص 166.
[3] مصباح الیزدی، محمد تقی، المنهج الجدید فی تعلیم الفلسفة،ج 2، ص 88. و الفرق بین البرهانین هو أن البرهان الاول یجری فی مطلق العلل الحقیقیة( تلک العلل التی لابد ان تکون موجودة مع المعلول) بینما البرهان الثانی یختص بالعلل المفیضة للوجود، و یشمل العلل التامة ایضا، لانها تشتمل على العلل المانحة للوجود.
[4] الحدوث الزمانی یعنی مسبوقیة الشیء بالعدم الزمانی، فی مقابل الحدوث الذاتی بمعنى کون الشیء له علة. الطباطبائی، السید محمد حسین، نهایة الحکمة، ص 231-233، مؤسسة النشر الاسلامی، قم.
[5] الطباطبائی، سیدمحمد حسین/ المطهری، مرتضی،اصول الفلسفة، ج 5، ص 150.
[6] ( کل متعلق الوجود بالجسم المحسوس یجب به لا بذاته) الجسم المحسوس هو الأجسام النوعیة و متعلق الوجود به ینقسم إلى ما یتعلق وجوده به فقط و هو معلولاته أعنی کمالاته الثانیة و إلى ما یتعلق وجوده به و بغیره و هو سائر الأعراض الجسمانیة و الأول یجب بالجسم المحسوس فقط و الثانی یجب به و بغیره لکن یصدق علیه أن یقال یجب به لأنه لا ینافی قولنا و یجب أیضا بغیره والمقصود أن الأعراض الجسمانیة کلها ممکنة بذاتها واجبة بغیرها ( قوله و کل جسم محسوس فهو متکثر بالقسمة الکمیة و بالقسمة المعنویة إلى هیولى و صورة) و المقصود بیان أن کل جسم ممکن و کبرى القیاس قوله فواجب الوجود لا ینقسم فی المعنى و لا فی الکم مما سبق ( قوله و أیضا کل جسم محسوس فتجد جسما آخر من نوعه أو من غیر نوعه إلا باعتبار جسمیته) و هذا برهان آخر على أن کل جسم ممکن انظر: الشیخ الرئیس ابوعلی سینا/ نصیر الدین محمد بن حسن طوسی، شرحالإشارات، ج 3، ص 60- 61، الطبعة الثانیة، دفتر نشر الکتاب، 1403 ه ق.
[7] انظر: نهایةالحکمة، الفصل الرابع فی أن الواجب تعالى بسیط غیر مرکب من أجزاء خارجیة و لا ذهنیة ، صص 278- 276.