ان اقدم وثیقة تتعلق بولایة الفقیه هی کتاب المقنعة للشیخ المفید. فهو یذکر فی باب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر عدة مهام تقع على عاتق الفقیه هی:
أ. الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر فی مستویاتهما العلیا.
ب. إقامة الحدود.
ج. تطبیق الأحکام و تنفیذها.
د. الجهاد ضد الکفار و محاربتهم.
هـ. إقامة الصلوات مثل صلاة الجمعة، صلاة العیدین، صلاة الاستسقاء وصلاة الوحشة.
و. الحکم و القضاء.
ثم یذکر فی موضوع الأنفال ان التصرف بالأنفال لا یجوز إلا بترخیص من الإمام العادل.
إن أقدم وثیقة تتعلق بمسألة ولایة الفقیة هی کتاب المقنعة للشیخ المفید. و یعد المرحوم الشیخ المفید (333 أو 338-414 هـ) من أکبر فقهاء الشیعة فی التاریخ و قد عاش فی القرنین الرابع و الخامس. و نلاحظ فی کتاب المقنعة فی باب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر بعد بیان مراتب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، انه حین یتطرق الی المستوی الأعلى للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر أی القتل و الجرح، یقول:
و لیس له القتل و الجراح إلا بإذن سلطان الزمان المنصوب لتدبیر الانام. و فی السیاق ذاته یضیف الشیخ المفید:
فأما إقامة الحدود فهو الی سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالی، و هم ائمة الهدی من آل محمد علیهم السلام، و من نصبوه لذلک من الامراء و الحکام، و قد فوضوا النظر فیه الی فقهاء شیعتهم مع الامکان[1].
نلاحظ فی هذه العبارات التی یتضح فیها مدی الخوف من الحاکم الظالم، ان الشیخ المفید یذکر اولاً ان السلطان المعین من قبل الله هو المسؤول عن اتخاذ القرارات فی الجرح أو القتل عند الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، ثم ینتقل الی مسألة «اقامة الحدود» بوصفها مصداقاً بارزاً فی الامر بالمعروف و النهی عن المنکر[2] و یؤکد على ان هذه الأمور من مهام الحاکم الاسلامی المعین من قبل الله تعالی، و یشیر الیه محدداً مواصفاته کما یلی:
1- الأئمة المعصومین (علیهم السلام) و هم المتولون لإدارة امور المجتمع و إجراء الحدود الالهیة بتنصیب من الله سبحانه و تعالی.
2- الحکام و الأمراء الذین عینهم الائمة المعصومون(علیهم السلام) لادارة امور المجتمع واجراء الحدود الالهیة بتنصیب من الله سبحانه و تعالی.
3- الفقهاء الشیعة الذین عینهم الائمة المعصومون (علیهم السلام) فی المهمة ذاتها و تولی إقامة الحدود الالهیة.
و علاوة على ذکر الشیخ المفید لمسألة تولی الأئمة المعصومین (علیهم السلام) للحکم و القیادة بوصفها مسألة بدیهیة فی الثقافة الشیعیة، یشیر الی النواب الخاصین للأئمة (علیهم السلام) الذین جری تعیین کل منم بشکل محدد و بوصفه شخصاً محدداً فی مسؤولیة سیاسیة، مثل مالک الاشتر فی عهد إمامة أمر المؤمنین علی (علیه السلام) أو النواب الأربعة فی عصر غیبة الإمام صاحب العصر (عج) الصغری، و یشیر کذلک الی النیابة العامة حیث یجری فیها تعیین النائب وفق عنوان عام لتولی تلک الأمور، و هو ما یتمثل بالفقهاء الشیعة.
إلا ان الشیخ رحمه الله یعلم ان التصدی لهذا الأمر لیس متیسراً دائماًبل هو کثیراً ما یتعذر علیهم. و لذلک فهو یقید جملته بقید (لو أمکن ذلک)، ثم یأخذ فی الحدیث حول المواطن التی تزداد فیها فرصة تحقق هذا الفرض قائلاً:
فمن تمکن من إقامتها على ولده و عبده، و لم یخف من سلطان الجور إضرارا به على ذلک، فلیقمها[3].
ان هذه الکلمات التی تستدر المدامع، تعبر عما تعرض له الفکر الشیعی الرصین من ظلم سلطان الجور فی العدید من فترات التاریخ الإسلامی، و تدل أیضاًعلى وضوح مسألة «ولایة الفقیه» فی الفکر و الثقافة اللذین تکونا حول مذهب أهل البیت (علیهم السلام).
ثم یذکر الشیخ المفید شکلاً آخر لإمکان إقامة الحدود الالهیة، یقول:
و کذلک إن استطاع إقامة الحدود على من یلیه من قومه، و أمن بوائق الظالمین فی ذلک، فقد لزمه إقامة الحدود علیهم، و هذا فرض متعین على من نصبه المتغلب لذلک على ظاهر خلافته له أو الامارة من قبله على قوم من رعیته، فیلزمه إقامة الحدود، و تنفیذ الاحکام، و الأمر بالمعروف، و النهی عن المنکر، و جهاد الکفار و من یستحق ذلک من الفجار[4].
أی إذا ما قام سلاطین الجور بتعیین فقیه فی منصب معین یستطیع من خلاله اجراء الحدود الالهیة من دون ان یصیبه إذی منهم، فیتوجب علیه القیام بهذه المهمة. و یشیر الشیخ المفید فی هذا النص الی أربع مسائل:
1- إقامة الحدود الالهیة أی تنفیذ العقوبات الاسلامیة و هو من صلاحیات الحاکم الاسلامی.
2- اجراء الاحکام و تنفیذها و هو ما یشمل جمیع الاحکام الالهیة، و یشمل بإطلاقه شتی المسؤولیات الشرعیة، و على أساس ذلک فإن الفقیه ملزم بالعمل على تحقیق سیادة الاسلام فی جمیع مجالات المجالات الاجتماعیة.
3- الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، حیث یکون تنفیذ مستویاتهما العلیا من صلاحیات الحاکم الاسلامی،و قد اشار الشیخ المفید لذلک کما مر.
4- الجهاد ضد الکفار و هو ما یشمل الدفاع بل و حتی الهجوم علیهم[5].
ثم یعود الشیخ المفید للحدیث حول ذلک مرة اخری، ربما من أجل ان لا یبقی أی مجال لتفسیرات و تبریرات غیر معقولة، یقول:
و للفقهاء من شیعة الائمة (علیهم السلام) أن یجمعوا بإخوانهم فی الصلوات الخمس، و صلوات الاعیاد،و الاستسقاء و الکسوف و الخسوف، إذا تمکنوا من ذلک، و أمنوا فیه من معرة أهل الفساد. و لهم أن یقضوا بینهم بالحق، و یصلحوا بین المختلفین فی الدعاوی عند عدم البینات، و یفعلوا جمیع ما جعل الی القضاة فی الاسلام، لان الائمة علیهم السلام قد فوضوا الیهم ذلک عند تمکنهم منه بما ثبت عنهم فیه من الاخبار،وصح به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار[6].
یشیر الشیخ المفید هنا الی مسألتین مهمتین:
1- اقامة الصلاة مثل صلاة الجمعة، عید الفطر، عید الأضحی، الاستسقاء و الوحشة.
2- الحکم و القضاء.
و یعتبرهما من مهام الفقهاء المناطة بهم من قبل الأئمة (علیهم السلام) و یستدل على ذلک بالروایات الواردة عنهم. وسوف نشیر فی البحوث القادمة التی تتناول الأحادیث الواردة بشأن ولایة الفقیه، الی هذه الأخبار بالتفصیل. أما هنا فنکتفی بذکر ان الأحادیث الصحیحة ذکرت بالتصریح[7] اشتراط وجود «الامام العادل» لاقامة صلاة العیدین، و کذلک أشارت بالتلمیح[8] الی اشتراطه فی صلاة الجمعة. لذا فإن بعض الفقهاء فسروا الامام العادل بالامام المعصوم (علیه السلام) فلم یروا وجوب هذه الصلوات فی عصر الغیبة. إلا ان عد الشیخ المفید لهذه الصلواة من مهام فقهاء الشیعة، یعنی اعتبار الفقهاء مصداقاً بارزاً من مصادیق (الامام العادل) و هذا ما یتناسب مع رأیه الأول الذی ذکر فیه أن جهاد الکفار من مسؤولیات الفقهاء. لأن کلامه یشمل الجهاد الابتدائی – فی ضوء إطلاقه على الأقل – و الجهاد کما ورد فی الأخبار یشترط فیه وجود الامام الواجب الطاعة [9].
و یرى بعض الفقهاء ان الامام المعصوم (علیه السلام) هو المصداق الوحید للامام الواجب الطاعة فلم یجوزوا الجهاد الابتدائی بفتوی من الفقیه. إلا ان الشیخ المفید یرى أن الفقیه الشیعی الذی نصبه الأئمة المعصومون (علیهم السلام) فی عصر الغیبة من أجل قیادة المجتمع، هو مصداق «للامام الواجب الطاعة» فهو قادر على اعلان الجهاد الابتدائی على الکفار.
و أما فی بحث «الانفال» فإن الشیخ المفید یبین انها للرسول ( صلی الله علیه و آله) و خلفائه من الأئمة (علیهم السلام) ثم یقول:
و لیس لاحد أن یعمل، فی شتی مما عددناه من الانفعال،إلا بإذن الامام العادل[10].
و فی ضوء هذا النص و مع ملاحظة بدایته و ما جاء فی بحث الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،یمکن ان نستنتج أن الشیخ المفید کسائر علماء الشیعة، کان یأخذ فکرة (الامام العادل) بنظر الاعتبار و یرى ان الحاکم الذی نصبه الله تعالی بصورة مباشرة أو نصبه من نصبهم الله، هو مصداق لهذا الإمام العادل.
و فی مقابل هذا نجد فی الثقافة الشیعیة مصطلحات من قبیل «إمام الجور» أو «سلطان الجور» أو «إلامام الظالم» و غیرها، و هی تعنی الحاکم الذی لم تستند سلطته الی مشروعیة إلهیة و لم یصادق علیها الشارع المقدس. فلا یجوز شرعاً طاعة حاکم کهذا. و على هذا الأساس فلیس المقصود بالسلطان العادل أو ما شابه ذلک من تعابیر، کل من حکم بالعدل، کما أن سلطان الجور لا یشمل فقط من اشتهر بظلمه على الناس، بل المقصود بالأول من کان حکمه مقبولاً من الشارع[11] و المراد بالثانی من لم تقبل حکومته من الشارع المقدس.
لمزید من الاطلاع لاحظ:
1. هادوی طهرانی، ولایت و دیانت "الولایة و الدیانة"، مؤسسه فرهنگی خانه خرد " مؤسسة دار العقل الثقافیة"، قم، ط 2، 1380.
[1]- لاحظ: الشیخ المفید، المقنعة، ص 810.
[2]- یعتقد البعض ان احراء الحدود الاسلامیة یقع ضمن نطاق القضاء و یرتبط بالشأن القضائی للفقیه.
فی حال ان القضاء فی المصطلح الفقهی یعنی الحکم بین الناس و معالجة الخصومات فی ما بینهم .
بینما اجراء الحدود الاسلامیة بحق المجرمین من شؤون ولایةالفقیه التی تعنی ادارة أمور المجتمع و قیادته.
[3]- لاحظ: الشیخ المفید (ره)، المقنعة، ص 810.
[4]- لاحظ: نفس المصدر.
[5]- تدل هذه العبارة علی جواز الجهاد الابتدائی من قبل الفقیه، و لابد من تناول البحث فی هذه المسألة فی مجال آخر.
[6]- الشیخ المفید، المقنعة، ص 811.
[7]- الشیخ الحر العاملی، وسائل الشیعة، ج 5،ص 95-91 (کتاب الصلوة، أبواب صلاة العید، باب 2، حدیث 1).
[8]- نفس المصدر، ص 12-13 (کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة و آدابها، باب 5).
[9]- لاحظ: الحر العاملی،وسائل الشیعة، ج 11، ص 32-35 (کتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 12).
[10]- الشیخ المفید، المقنعة، ص 279.
[11]- و بالطبع فإن العدالة هی شرط من شروط هذه الحکومة.