إن الوصول الى المقامات العرفانیة الرفیعة لا یتسبّب فی جواز ترک العبادات الظاهریة، و من دراسة حیاة الأنبیاء و الأئمة(ع) الذین لا یمکن لأحد أن یدّعی أفضلیته علیهم، نری أنهم کانوا ملتزمین بهذه العبادات علی اکمل وجه و کانوا یوصون بها ویؤکدون علیها حتی فی المجالات المستحبة.
یمکننا ان نضیف اکمالاً لما ذکرتموه: انه کما یدّعی البعض صحة الصلاة من دون وضوء، فإن أشخاصاً آخرین یدّعون انه بعد الوصول الی المرتبة العرفانیة العالیة (الحقیقة) فلا حاجة للصلاة أصلاً سواء کانت مقترنة بالطهارة أم لا!!
و فی مقام البدء بالاجابة نطرح أولاً سؤالین:
الأول: هل ان الأنبیاء و الأئمة(ع) کانوا قد وصلوا الی المقام الذی سمیّتموه أنتم بمقام الطاهر[1] أم لم یصلوا؟
الثانی: هل عثرتم بشکل مستند علی ان هؤلاء العظام کانوا فی فترة من حیاتهم قد ترکوا العبادات الظاهریة و منها الوضوء و الغسل؟
فعلی فرض ان یکون المجیب مسلماً مؤمناً بالقرآن و الروایات، فان جوابه المنصف عن السؤال الأول سیکون بالایجاب، و عن الثانی بالسلب، و ان کل مسلم یدّعی خلاف ذلک فانه یجب علیه ان یذکر لذلک مستنداً قابلاً للدفاع من المصادر الإسلامیة المعتبرة.
و لتوضیح هذا الموضوع نقول: بالرغم من انه من الواضع لدی المسلمین ان النبی(ص) قد نال أعلی المقامات و لکن سؤالنا هو: هل یمکن لشخص لم یصل الی هذا المقام و فی نفس الوقت یجعله الله أفضل قدوة[2] و یکلف المؤمنین باطاعة أوامره و نواهیه من دون أی قید و شرط.[3]
و من جانب آخر فإننا نعلم بأن من یطرحون مثل هذه الإدعاءات لا یعتبرون أنفسهم أفضل من الأنبیاء الأئمة- و ذلک لأسباب قد یکون منها الخوف من ردود الفعل لدی أتباعهم- بل هم یدّعون فقط انهم حصلوا علی نکات و ظرائف عجز الآخرون عن الحصول علیها!
و من الضروری أیضاً ذکر هذه الملاحظة و هی أننا لاننکر أن یهب الله لبعض الأشخاص بسبب العبادة الخاصة قدرات خاصة، و لکن حیث إن الله وحده یعلم من هو الضالّ و من هو السائر فی الطریق الصحیح[4]، فانه یجب عرض کلام الأشخاص علی الکتاب و السنة، فإذا حصل التنافی فانه یجب اعادة النظر فی قبول مثل هذا الکلام.
و فی هذا المجال ینبغی أن نعلم انه علی امتداد الزمان قد حصلت قراءات مغلوطة للدین و کان منشأ الکثیر منها هو الاستنباط الشخصی من المعارف الدینیة، حیث إن بعض الأشخاص و بعد طرحهم لآرائهم لا یکلّفون أنفسهم بمقارنتها مع المسلّمات المأخوذة من القرآن و السنة. و هذه الانحرافات تظهر أحیاناً فی المجالات العبادیّة (کما فی السؤال الذی طرحتموه) و أحیاناً فی المجالات الإقتصادیة أو باقی المجالات أیضاً.
و أما انه هل یسقط التکلیف بالوضوء و الغسل فی حالة الوصول الی مقام الطهارة فینبغی أن نقول ان المقطوع به هو وجوب هذین العملین استناداً الی مصادرنا الدینیة، و لیس فی الإدّعاء المذکور أیضاً انکار لوجوبهما الأوّلی. و الآن وجدنا شخصاً یطرح أمامنا هذه القضیة و هی انه یمکننا ترک الوضوء و الغسل فی ظروف خاصة منها الوصول الی مقام الطهارة!
ففی هذه الحالة یجب أن نطلب منه الأدلّة علی هذا الرأی، و نقوم بعرضها علی المتخصّصین فی العلوم الدینیة لنصل الی صحة و سقم ذلک. و انتم فی سؤالکم قد طرحتم إدعاء هؤلاء الأشخاص فقط و لکن لم تذکروا دلیلهم علی هذا الإدعاء؛ فلا بد من القاء نظرة مختصرة فی المصادر الإسلامیة لتحدید الموقف من هذاالموقف:
فمن جانب، یجب أن نعلم بأن الطهارة الظاهریة للشخص لها تأثیر مباشر علی الطهارة الباطنیة، حیث نقرأ فی الآیة 11 من سورة الأنفال التی نزلت بشأن معرکة بدر"...و ینزل علیکم من السماء ماء لیطهرکم به(الطهارة الظاهریة) و یذهب عنکم رجز الشیطان"(الطهارة الباطنیة).
و من جانب آخر أیضاً یجب القول انه طبقاً للآیات و الروایات فإن کل شخص مؤمن هو حاصل علی درجة من الطهارة المعنویة، و لم یشر فیها الی شیء اسمه (مقام الطاهر) الذی یوجب رفع التکالیف.
و بناء علی هذا فانه لیس هناک شخص مؤمن یکون نجساً لکی یکون الوضوء رافعاً لنجاسته الباطنیة. و کما یقول الإمام الباقر(ع)"انما الوضوء حدّ من حدود الله لیعلم الله من یطیعه و من یعصیه و ان المؤمن لا ینجّسه شیء، إنما یکفیه مثل الدهن"[5]. دقّقوا فی هذه الروایة! فان الإمام یقول انه لا یمکن لأی شیء أن ینجّس الشخص المؤمن، مع اننا نعلم انه فی کثیر من الموارد یتنجس بدن المؤمنین بالنجاسات الظاهریة، و علی هذا الأساس فإن مراد الإمام فی هذه الروایة هو النجاسة الباطنیة.
أی إن کل شخص مؤمن یکون بإیمانه قد وصل الی مقام من الطهارة المعنویة و علی هذا الأساس فإن ایجاب الوضوء لم یکن لأجل رفع النجاسة المعنویة، بل هو تکلیف مستقل من أجل اختبار الناس، و لیس لاستمرار وجوبه ارتباط بمقدار الطهارة المعنویة للناس و قد تکون هذه الشبهة هی السبب فی أن یکتب شخص اسمه حسن بن عبید رسالة الی الإمام الصادق(ع) یسأله: هل اغتسل امیر المؤمنین(ع) حین غسل رسول الله(ص) عند موته؟ فأجابه: النبی(ص) طاهر مطهّر و لکن فعل أمیر المؤمنین(ع) و جرت به السنة.[6]
فمع کون رسول الله(ص) و أمیر المؤمنین(ع) فی أعلی مقامات الطهارة، و لکن مولی المتقین(ع) و من أجل اطاعة أمر الله غسّل النبی(ص) و اغتسل هو أیضاً بعد ذلک و لم یدّعّ انه لا حاجة الی الغسل لأن کلّاً منهما قد وصل الی مقام رفیع! و قد وجدنا فی الکتب الروائیّة و التاریخیة للمسلمین من الشیعة و أهل السنة موارد کثیرة تتعرّض لوضوء و غسل و تیمم النبی(ص) و المعصومین(ع) و أصحابهم لا یمکن ذکر جمیعها فی هذا المختصر، و لم نجد مورداً واحداً یذکر فیه ان شخصاً منهم کان قد ترک مثل هذه الأعمال.
و بغضّ النظر عن هذه الموارد، هل فکرتم مع أنفسکم انه ما هی تلک الخصوصیة المخفیّة فی ذلک الذکر المدّعی(و الذی ربما لا یکون له مستند فی کلام المعصومین(ع) أیضاً) بحیث یمکن عن طریقه مخالفة الأوامر الصریحة لله و النبی(ص) فی القرآن و الروایات؟!
و علی هذا الأساس یمکن أن نستنتج ان العمل بالتعالیم الإسلامیة واجب علی الجمیع و لا یمکننا القبول بمثل هذه الإدّعاءات.
و مع ذلک، فإذا کان الشخص الذی طرح مثل هذا الإدعاء قد عرض علیکم دلیلاً خاصاً علی ذلک فیمکنکم التحقق منه بإرساله الی هذا الموقع أو مراجعة المتخصصّین فی العلوم الدینیّة.
و یمکنکم أیضاً- للإطلاع علی بعض خصائص العرفان الإسلامی- الرجوع الی الأسئلة: 2834 (الموقع: 3415) و 1184 (الموقع: 1779) فی نفس هذا الموقع.