إن الحديث الشريف بصدد الكلام عن أساسية من أساسيات المعرفة الربوبية التي عبّر عنها الفلاسفة و العرفاء ببرهان الصديقين، معتبرين ذلك اقصر الطرق لاثبات الواجب تعالى.
فالحديث الشريف يؤكد حقيقة مهمة و هي: أن الطريق الامثل لمعرفته سبحانه يتم من خلال الانطلاق من نوره الازهر، لا التوسل بالصفات و المفاهيم الذهنية، و ذلك لان اعتماد الواسطة انما ينفع في معرفة الاشياء الغائبة و لاريب ان الله تعالى ليس بغائب قطعا ليتوسل بالاوهام و البراهين لمعرفته من خلال توسط الصفات الزائدة.
توضيح ذلك: ان المعرفة على نحوين:
الاولى: أن يكون المعروف حاضراً، وحينئذ ينطلق الانسان الى معرفة الصفات من خلال معرفة الذات.
الثانية: ان يكون المعروف غائبا؛ و في هذه الصورة يكون المعلوم أولا هو الصفات ثم العروج منها الى الذات.
و لما كان الباري تعالى حاضراً دائما، فحينئذ ينطلق الانسان لمعرفة صفاته من خلال معرفته الشهودية بالذات. و هذا يكشف عن أن اقرب الطرق الى الله تعالى هو نفس الذات الالهية بلا حاجة لمعرفته الى الوسائط الخارجية، بل افضل طريق لمعرفته الانطلاق من الذات الالهية.
يستحيل على الانسان معرفة كنه الذات الالهية و الاحاطة بحقيقة الباري تعالى؛ و ذلك لان الموجود المحدود لا يتمكن من الاحاطة الكاملة باللامتناهي.
و بعبارة أخرى: أنه لا طريق للفكر البشري نحو " الذات الغيبية" فاذا خاض في ذلك لا يعود الا بالخيبة و الحيرة و الانحراف.
فذات الحق تعالى، و جود صرف؛ لا حد لها مطلقا، من هنا لا طريق للذات الالهية؛ بمعنى انه لاسبيل للفكر اليها و لا مجال للعقل للدخول الى ساحتها المقدسة و كذا الوهم و كشف ارباب الشهود. كل هذه السبل المعرفية عاجزة تماما عن الخوض في هذا المضمار و الدخول لساحة القدس الالهية لغرض الاحاطة بها.
و قد أشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة في قوله تعالى: " يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً".[1]
و من هنا يمكن بيان المراد من كلام الامام الصادق (ع) بالنحو التالي:
ان الله تعالى يجلّ عن أن يدرك من خلال الحاسة و الوهم؛ و ذلك لانه سبحانه منزه عن المادة و الماديات و ليس بمحسوس حتى يكون للحس طريق اليه و يدرك من خلال هذه الآلة الناقصة، و كذلك لا سبيل للوهم للاحاطة به، بل هو موجود مجرد و ما وراء الطبيعة، و لا سبيل للحس و الوهم لما وراد الطبيعة.
فلا يمكن معرفة الله بالاسم دون المعنى. لان الاسم[2] هو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة على الشيء بحيث ينتقل السامع من اللفظ الى المعنى المراد عن سماع اللفظ.[3] و هذه الالفاظ حسب تعبير الإمام "محدثة" و المحدث عرضة للوجود و العدم معا، فهي ممكنة الوجود خلافا للذات الالهية المقدسة فانها أزلية و واجبة الوجود. نعم، يمكن معرفة الله تعالى من خلال بعض الصفات، لكنها معرفة ناقصة و غير كاملة، و أن الامام (ع) في هذه الفقرة بصدد تنزيه الله تعالى عن الاحاطة به من خلال الاسماء و الالفاظ.
أما الفقرة الأخرى التي يقول فيها الامام " و من زعم أنه يعبد الاسم و المعنى- فقد جعل مع الله شريكا"؛ و ذلك لان من قرن الذات الالهية - التي هي حقيقة و واقعية ما وراء الطبيعة- مع الاسم، فقد جعل لله شريكا. بمعنى أن من يعبد الاسم الحي و العالم، مع المعنى الوصفي فقد جعل منها شريكا لله تعالى.
علما، أنه يمكن اطلاق كلّ اسم يدل على الكمال أو نفي صفة سلبية، على الله تعالى و استعماله فيه؛ و ذلك لان الاسماء من قبيل العالم و القادر و الحي و إن كان اطلاقها على الانسان يعطي – الى حد ما- طابعا ماديا، و لكن يمكن اطلاقها على الله تعالى بعد تجريدها عن الخصائص المادية.
ثم يقول الإمام الصادق (ع): " و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك- فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة- فقد صغر بالكبير" بمعنى أنه لايمكن معرفة الله تعالى عن طريق الصفات، و ذلك لان من ذات الباري حاضرة و معرفة الذات مقدمة على معرفة الصفات، فكيف تعرف الصفات قبل معرفة الذات؟ بل لابد من معرفة الصفات عن طريق معرفة الذات، فمن سلك طريق الصفات لمعرفة الموصوف تعالى فقد صغر الله تعالى!!. و من سلك طريق الصفات - التي تصورها- لمعرفة الله تعالى يظن أنه عرف الذات و هو بعيد عنها.و الجدير بالذكر أن هذا لا يعني تعطيل العقول عن معرفته سبحانه، بل المراد أن تتم معرفته عن طريق السبل الموصلة الى تلك المعرفة. يقول أمير المؤمنين (ع) في هذا المجال: " وَ كَمَالُ الإِخلاصِ لهُ نفيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ".[4]
إذن، لما كانت الصفة غير الموصوف، فهذا يستلزم كون الصفة أمراً زائدا على الذات، و هو يتنافى مع توحيد الذات و أحدية الباري تعالى.
فلا سبيل لتوحيد الله تعالى و معرفته الى من خلال طريق العقل و القلب (الشهود).
و للمعرفة نوعان: المعرفة الحضورية و الأخرى المعرفة الحصولية.
و المراد من معرفة الله بالعلم الحضوري ان الانسان يشهد الباري تعالى و يعرفه معرفة قلبية بلا توسط صور و مفاهيم ذهنية قبلية.
و من البديهي أن من يشهد الله شهودا واعيا – كالذي ادعاه كبار العرفاء- يستغني حينئذ عن البراهين العقلية. علما أن الوصول الى هذا النوع من العلم و الشهود الحضوري ممكن لعامة الناس و لكن بعد تزكية النفس و طي مجموعة من مراحل السير و السلوك العرفاني.
و أما الشق الثاني من المعرفة (العلم الحصولي) فهو العلم الحاصل بتوسط المفاهيم الكلية من قبيل الخالق، و الغني و... و هو من سنخ المعرفة الذهنية، بمعنى ان معرفته بالله تنحصر في حدود الذهن و يبقى المعلوم (الله) غائبا عن العالِم، غاية ما في الامر أنه يحمل صورة ما عن خالق العالَم من دون ان يشهده شهودا قلبيا.
إذن، المراد من كلام الامام الصادق (ع)، أن الانسان في غنى عن سلوك طريق الصفات لمعرفة ما هو حاضر عنده، بل يكفي حضوره لتمام معرفته. و لما كانت الذات الالهية حاضرة عندنا و نعرفها – من الاعماق- معرفة شهودية، لم تبق حاجة للتوسل بالصفات لمرفته سبحانه.
و بعبارة أخرى، أن الحديث الشريف بصدد الكلام عن أساسية من أساسيات المعرفة الربوبية التي عبر عنها الفلاسفة و العرفاء ببرهان الصديقين، معتبرين ذلك اقصر الطرق لاثبات الواجب تعالى. و قد اشارت بعض آيات الذكر الحكيم لهذا البرهان، كما في قوله تعالى" هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِن"[5] و " هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُم"[6]، و قوله عزّ من قائل: " وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنِّي فَإِنِّي قَريبٌ".[7] و غيرها من الآيات التي تتحدث عن مراتب القرب الالهي:
* " وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ".[8]
* " نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد".[9]
*. " وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِه".[10] و هذا يعنى أن الله الصمد يتجلى في ذات الانسان و يحضر عندها.
و قد عبر القرآن الكريم بعبارات لطيفة أخرى من قبيل قوله تعالى: " أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيد أَلا إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحيطٌ"[11].
و قد فسّر العلامة الطبأطبائي الشهيد بالمشهود، قائلا: و المعنى أ و لم يكف في تبين الحق كون ربك مشهودا على كل شيء إذ ما من شيء إلا و هو فقير من جميع جهاته إليه متعلق به و هو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكل شيء و إن لم يعرفه بعض الأشياء.[12] فهو تلك الحقيقة المحطية بكل شيء إحاطة لا يمكن انكارها بحال من الاحوال، " أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْض".[13] و أنه سبحانه " نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْض".[14] و لاريب أن حقيقة النور ذلك الشيء الظاهر بنفسه و المظهر لغيره، و الى هذه الحقيقة يشير العلامة الطباطبائي في تفسيره للآية بقوله: النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور. فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض. و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله.[15] فهو الظاهر بذاته تعالى و لا مجال للشك و الريبة فيه سبحانه، فمن هنا يكون الطريق الامثل – كما في كلام الامام الصادق (ع)- لمعرفته الانطلاق من نوره الازهر لمعرفة ذاته، لا التوسل بالصفات و المفاهيم الذهنية، و ذلك لان اعتماد الواسطة انما ينفع في معرفة الاشياء الغائبة و لاريب ان الله تعالى ليس بغائب قطعا ليتوسل بالاوهام و البراهين لمعرفته من خلال توسط الصفات الزائدة.
توضيح ذلك: ان المعرفة على نحوين:
الاولى: أن يكون المعروف حاضراً، وحينئذ ينطلق الانسان الى معرفة الصفات من خلال معرفة الذات.
الثانية: ان يكون المعروف غائبا؛ و في هذه الصورة يكون المعلوم أولا هو الصفات ثم العروج منها الى الذات.
و لما كان الباري تعالى حاضراً دائما، فحينئذ ينطلق الانسان لمعرفة صفاته من خلال معرفته الشهودية بالذات. و هذا يكشف عن أن اقرب الطرق الى الله تعالى هو نفس الذات الالهية بلا حاجة لمعرفته الى الوسائط الخارجية، بل افضل طريق لمعرفته الانطلاق من الذات الالهية.
هذه إطلالة إجمالية على الحديث الصادقي الشريف.
[1] طه، 110.
[2] الاسم اصطلاحا: لفظ يدل على ذات بلا ملاحظة صفة من الصفات، أو يدل على الصفة بلا ملاحظة الذات. من هنا تدل كلمة الرجل و المرأة على الذات دون الصفة و العلم و القدرة تدلان على الصفة دون الذات. فهذه كلها اسماء. (انظر: عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد، ص 171، الطبعة الحجرية، طهران ).
[3] علي ( عليه السلام ) مظهر اسماي الاهي= علي مظهر الاسماء الالهية ، ص 17 ، مستل من مصنفات سماحة آية الله جوادي آملي ، مركز نشر اسراء ، الطبعة الثانیة ، 1385 هجري شمسي.
[4] نهج البلاغة، السيد الرضي ( رحمه الله) ، الخطبة الاولی، ص 40.
[5] الحديد، 3.
[6] الحديد، 4.
[7] البقرة، 186.
[8] الواقعة، 85.
[9] ق، 16.
[10] الانفال، 24.
[11] فصلت، 53 و 54.
[12] الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص: 405، نشر جماعة المدسين، قم، الطبعة الخامسة، 1417هـ.
[13] إبراهيم، 10.
[14] النور، 35.
[15] الميزان في تفسير القرآن، ج15، ص: 122.