ان معرفة الاسلام و المعارف الدینیة شأنها شأن الامور المشابهة لها و المترابطة مع بعضها لابد ان تدرس بصورة متوازیة و تبذل اقصى غایات الجهد على جمیع الاصعدة؛ من هنا لا یمکن القول بالتحدید من این نبدأ. نعم معرفة الباری تعالى یمکن ان تکون هی المنطلق و الخطوة الاولى لانها اهم مراحل التدین فلابد من بذل اقصى درجات الجهد و الدقة فی هذا المجال؛ ثم انه لابد من الالتفات الى انه من غیر الصحیح القول بصورة قاطعة و على نحو العموم ان ایمان الاشخاص الداخلین فی الاسلام حدیثا هو اعمق دائما من ایمان ابناء المسلمین، بل الواقع التاریخی یثبت العکس حیث نرى رجالا یتسنمون قمة العرفان الاسلامی و ان تجذر الدین الاسلامی فی نفوسهم اعمق بکثیر ممن اعتنقوا الاسلام حدیثا. اضف الى ذلک انه من غیر الصحیح ان نجعل ایماننا رهنا بالحالات المتغیرة لسائر المتدینین، بل على الانسان ان یسعى لتعمیق علاقته مع الله تعالى بعیدا عن المقارنة مع الاخرین، و ان یرى نفسه مسؤولا امام الله تعالى بصورة منفردة.
یمکن تقسیم السؤال المطروح الى عدة تساؤلات:
1- من أین نبدأ فی دراسة الدین؟
2- هل ان المعتنقین للدین حدیثا هم اکثر تدینا و رسوخا من سائر المسلمین ممن و لدوا على الاسلام؟
3- هل ان الاخطاء و الریاء الذی قد یقع فی الاخرین من المتدینین یمکن ان یکون ذریعة للانسان للتملص من الدین؟
اما بالنسبة الى السؤال الاول: لا بد من ان نعی ان المعتقدات الدینیة تمثل سلسلة مترابطة بعضها مع البعض الآخر، و من غیر المناسب ان نشیر الى نقطة هی المنطلق، و ان صح القول بان هناک احادیث تشیر الى ان من عرف نفسه فقد عرف ربه، کما انه من غیر المعقول ان من لم یؤمن بالله تعالى یؤمن برسوله و یطیع انبیاءه، و ان من لم یؤمن برسالة النبی الخاتم (ص) لایؤمن بخلفائه قطعا، و هکذا من لم یؤمن بالامامة لایمکن ان یتعبد بما وصل عنهم، و ان طلب ذلک من هؤلاء یعد أمرا عبثیا لا طائل من ورائه.
لکن یمکن النظر الى القضیة من زاویة اخرى، وهی ان دراسة کلام النبی الاکرم (ص) یعد المنطلق الاول فی تحصیل معرفة الله تعالى بصورة افضل؛ من هنا نرى الامام الصادق(ع) یعلم احد اصحابة کیف یناجی ربه فی زمان غیبة الامام فیقول:" اللَّهُمَّ عَرِّفْنِی نَفْسَکَ فَإِنَّکَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِی نَفْسَکَ لَمْ أَعْرِفْکَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِی نَبِیَّکَ فَإِنَّکَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِی نَبِیَّکَ لَمْ أَعْرِفْهُ قَطُّ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِی حُجَّتَکَ فَإِنَّکَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِی حُجَّتَکَ ضَلَلْتُ عَنْ دِینِی "[1]
و بعبارة اخرى، ان لازم اتباع الانبیاء المعرفة الاولیة بالله تعالى لکن المعرفة الاکمل بالله تعالى تتم عن طریق تعالیم الانبیاء و هذا لیس من قبیل الدور الفلسفی الباطل؛ بل المعرفة الاجمالیة بالله تعالى توجب الاذعان لانبیائه و رسله و معرفتهم و من خلال معرفتهم تتم معرفة الله تعالى بصورة مفصلة و دقیقة و هذا ترتیب معقول و منطقی. کذلک الامر فی سائر المعتقدات الدینیة فقد تواجهنا احیانا هذه المعضلة التی قد توقعنا فی الحیرة فی تحدید نقطة الانطلاق، من این نبدأ؟
و على کل حال و کما قال امیر المؤمنین(ع):" اول الدین معرفة الله".[2] و لابد من التیقن بانا لو بذلنا جهودنا بصدق و اخلاص من اجل تحصیل المعرفة الدینیة فان الله تعالى سیمد لنا ید العون کما وعد بذلک" و الذین جاهدوا فینا لنهدینّهم سبلنا".[3]
النتیجة ان دراسة الامور الدینیة لا تشبه المسابقات الریاضیة لها نطقة انطلاق معینة و لها حد تنتهی به، بل المعتقدات الدینیة یجب ان تدرس و ترسخ بصورة متوازیة و مترابطة، فعلى سبیل المثال لا یمکن ان نقول للشاب الذی یسعى لتحصیل العلم و انه یروم الزواج و مسؤول عن بر والدیه و اداء تکالیفه الدینیة بان ینطلق من تلک الامور بصورة مترتبة بان یبدأ بالاولى ثم الثانیة و ...، بل یجب علیه ان ینظم اموره بنحو یتمکن من ادارة الامور جمیعها فی عرض واحد حتى یحقق الجمیع.
هکذا الامر فی الامور الدینیة لابد من اعتماد نفس الاسلوب لابد من النظر الى الامور نظرة عرضیة فکل المعتقدات و التکالیف هی مهمة و ملزمة للانسان خاصة الانسان المولود فی بیئة اسلامیة، فمن غیر الصحیح ان یعطل الانسان العمل بالتکالیف تحت ذریعة انه لم یحتاج الى دراسة الامور، نعم علیه ان یعمل بعلمة الاجمالی الکلی فعلا، ثم یشرع فی ترسیخ ذلک العلم من خلال الدراسة المعمقة.
ثم کلما اتضح له امر و استبانت له قضیة من خلال الایات و الروایات و البرهان العقلی علیه ان یتمسک بها و یلتزم بها ثم یسعى للانتقال الى معرفة مسالة اخرى، فقد نقرا فی دعاء الافتتاح فی لیالی شهر رمضانِ" اللَّهُمَّ مَا عَرَّفْتَنَا مِنَ الْحَقِّ فَحَمِّلْنَاهُ وَ مَا قَصُرْنَا عَنْهُ فَبَلِّغْنَاه"[4] کذلک نجد القرآن الکریم یذم من اتضح لهم الحق و بقوا مصرین على المخالفة.[5] و فی هذه الحالة لا حجة له عند الله.
من هنا لو ان الانسان توصل الى معرفة شیء ما من الدین لابد من العمل وفق ما علم و لا ینبغی ترک العمل تحت ذریعة البحث عن الادلة عن جمیع شؤون الدین. فعلى سبیل المثال اذا ثبت لنا الاعجاز القرآنی و صحة نسبته الى الله تعالى لایصح التمرد على الدساتیر الواردة فیه و البحث عن امور من قبیل لماذا تجب الصلاة و الصوم و یحرم الربا و القمار؟
نعم البحث عن فلسفة و علل الاحکام و مقاصد الشریعة امور محبذة و تستحق الثناء و التقدیر؛ لکن مرادنا من الکلام هو انه لا یحق لنا الاعراض عن العمل بحجة البحث عن المقاصد اولاً و فلسفة الاحکام ثانیاً.
اما بالنسبة الى الادعاء الآخر الذی ذکر فی متن السؤال و هو ان جمیع المعتنقین للاسلام حدیثا هم اکثر ایمانا و اشد رسوخا من المسلمین الذین ولدوا فی الاوساط الاسلامیة. ان هذا الادعاء لا یمکن القبول به على اطلاقه، لکن یمکن القول ان هؤلاء المعتنقین للإسلام باعتبار انهم اعتنقوا الدین الاسلامی بعد مطالعة و دراسة یکون ایمانهم اقوى من ایمان من المسلمین الذین لم یبحثوا فی الفکر الاسلامی و انما هم مسلمون لانهم ولدوا فی بیئة اسلامیة و من اسر مسلمة؛ لکن من المقطوع به انه یوجد فی اوساط المسلمین من لم یکتفوا بایمان ابائهم و اجدادهم بل بحثوا و حققوا و درسوا الفکر الاسلامی دراسة واعیة بحیث ترسخ الایمان فی نفوسهم الى اعمق الدرجات، کما انهم بذلوا جهودا کبیرا فی تهذیب نفوسهم حتى نالوا درجات عالیة من القرب من الله تعالى.
طبعا هناک عوامل اخرى تساعد المعتنقین للدین الاسلامی للشعور بحلاوة العبادة و قیمة الشعائر الاسلامیة هی اهتمام المسلمین لهم و ترحیبهم بهم من جهة و من جهة ثانیة انتقالهم الى فضاء معنوی جدید. و هذا یشبه الى حد ما الفتیة الذین یؤدون الصوم المستحب لاول مرة و تظهر اثار الصیام فی وجودهم بصورة جلیة، لکن بالرغم من ان عمل هؤلاء له منزلة عند الله تعالى لکن لا یمکن القول بصورة قاطعة بانه افضل من عبادة العارفین الکبار الذین یؤدون اعمالهم انطلاقا من المعرفة التامة و الفهم الکامل.
اما بالنسبة الى الشق الاخیر من السؤال، نقول: صحیح ان المجتمع الدینی لا یخلوا من الاخطاء التی تحصل فی اوساط المسلمین و المتدینین؛ لکن هل یعنی ان هذه القضیة خاصة فی المتدینین فقط؟ کلا؛ بل ان جمیع المجتمعات تصاب بمثل هذه الظاهرة و ان جمیع افراد الانسان معرضة للخطا و الاشتباه، لکن خطأ الانسان المؤمن باعتبار وجاهته و شخصیته یکون اکثر انتقادا من غیره مما یوجب على المؤمنین التحذر بصورة اکثر من غیره.
لکن کل هذا لایعد ذریعة لبعض المتدینین او المحسوبین على العلم للهروب من الدین و التملص منه لمجرد عدم التزام بعض المتدینین بتعالمیه؛ و ذلک لان الدین عبارة عن المعاییر و القیم التی تسوق الانسان الى الطریق الصحیح و الى الهدایة الالهیة، و بعد الاطمئنان بصدورها من الله تعالى و انتفاء ای شبهة على صحة محتواها لا یمکن التذرع باخطاء الاخرین من اجل التخلص منها لان عدم التزام البعض بها لایدل على عدم مصداقیتها؛ فلو ان طبیبا ما تناول المواد المخدرة لایعنی ان عمله هذا یعد ذریعة للقول بان المواد المخدرة غیر مضرة، و هکذا لو خالف المهندس المعماری اصول و قواعد البناء و...
اذا لابد من الفصل و التمییز بین القیم و المعارف الدینیة و بین سلوکیات المتدینین و علینا ان نتبع قوله تعالى "یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُون"[6] و ان نستعین بالله تعالى الذی وعدنا بقوله عز من قائل"إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهاد".[7]