عملیة الاجتهاد فی الاسلام ضرورة ملحة استطاعت ان تحفظ الدین خلال القرون الماضیة.
و اما بالنسبة الى اختلاف الفقهاء فی بعض الجزئیات و الاحکام الفرعیة فهذا أمر طبیعی، لتوافقهم و وحدة کلمتهم فی اصول الاعتقاد و کلیات فروع الدین فهناک تطابق تام بین الفقهاء و توافق لا یشذ فیه مجتهد من المجتهدین. علما أن الاختلاف فی الجزئیات و بعض الاحکام یرجع الى المبانی و الاسس التی یعتمدها الفقیه و طریقة فهمة للآیات و الاحادیث التی تعرضت للمسألة.
للاجابة عن السؤال لابد من توضیح أمرین، هما:
الأمر الاول: سبب الاختلاف فی الفتوى و تعدد آراء المراجع.
یعود اختلاف المراجع فی النظر و الفتوى لاسباب مختلفة، و من هنا نقول:
أولا: الاجتهاد فی اللغة بمعنى تحمل المشقة و الجهد (من مادة جَهَدَ بفتح الجیم)،[1] و کذلک بمعنى القدرة و التمکن (من مادة جُهدَ بضم الجیم).[2] و فی اصطلاح الفقهاء بمعنى بذل الحد الأقصى من الجهد العلمی فی استنباط و تحصیل الحکم الشرعی الفرعی من مصادره و أدلته.
ثانیا: صحیح إن الاجتهاد عند الشیعة یعتمد على أدلته المعروفة من (القرآن، السنة، العقل، الإجماع) و لکن لابد من التحصیل فی علوم أخرى تساعد المجتهد فی استنباط الحکم من أدلته المذکورة کالإلمام باللغة العربیة و آدابها و معرفة طبیعة المحاورات التی کانت سائدة فی المجتمع زمن المعصوم (ع) و التعرف على بعض العلوم کالمنطق و أصول الفقه و اتقانها، و کذلک علم الرجال، بالاضافة الى الإطلاع الکافی على القرآن و علومه و کذلک علوم الحدیث و الروایة[3] و ... و إضافة إلى اطلاع الفقیه و معرفته فی هذه العلوم لابد له من اختیار مبنىً معین حتى یتمکن من الاستفادة من هذه العلوم فی عملیة استنباط الحکم الشرعی من أدلته الاجتهادیة.
فمثلاً فی باب الاستفادة من الروایات و الأحادیث من الممکن أن یعتمد المجتهد على مبنى معین فی علم الرجال یجعله یرفض بعض الروایات من جهة السند و لا یرى الاعتماد علیها و قبولها فی عملیة استنباط مسألة ما، و قد لا توجد روایات أخرى فی هذه المسألة، و علیه فلا یستطیع أن یصدر فتوى بخصوص المسألة فی حین یرى فقیهً أو فقهاء آخرون صحة سند الروایة بحسب المبنى الذی یعتمدونه فیستندون إلى الروایة نفسها لإصدار الفتوى، و من الطبیعی أن إمکانیات الفقهاء لیست على مستوى واحد من جهة ترکیب القضایا و تحلیلها و معالجتها، و لذلک یمکن أن یکون لکل واحد منهم استنتاجه الخاص من الآیات و الروایات، کما أنه من الممکن أن یعتبر أحد المجتهدین شیئاً معیناً مصداقاً و موضوعاً لحکم ما فیما لا یرى مجتهد آخر ذلک.[4]
من هنا یتضح أن الاختلاف بین الفقهاء فی الفتوى أمر طبیعی جداً.
الامر الثانی: اختلاف المراجع فی الفتاوى لا یتنافى مع وحدة التشریع الاسلامی،و ذلک للاسباب التالیة:
الف: وضع الاسلام مجموعة من القوانین و سن طائفة من التشریعات لتأمین حیاة الانسان الفردیة و الاجتماعیة و على المستویین المادی و المعنوی معا. و قد احصیت تلک القوانین فی عدد من المصنفات الفقهیة و المجامعی الروائیة. و علم الفقه فی الحقیقة یمثل الاسلوب الذی ینظم الطریق الصحیح للعبادة و العلاقات الانسانیة و الاجتماعیة و یؤمن أفضل نظام حیاتی تتوفر فیه جمیع المعالجات و یشمل جمیع الابعاد، و بحسب تعبیر الامام الخمینی (ره): "الفقه نظریة واقعیة و متکاملة ذات ابعاد انسانیة و اجتماعیة، تسایر حیاة الانسان من المهد الى اللحد".[5]
و للاهمیة الکبرى التی یحظى بها الفقه الاسلامی نرى أئمة الدین و اعلام الهدى و الرشاد (ع) قد حثوا اتباعهم و السائرین على نهجم على الخوض فی هذا العلم و معرفة الاحکام و عدم التساهل فی معرفة الشریعة الاسلامیة، الى درجة یقول فیها الامام الباقر (ع): " لَوْ أُتِیتُ بِشَابٍّ مِنْ شَبَابِ الشِّیعَةِ لَا یَتَفَقَّهُ لَأَدَّبْتُهُ".[6]
و تتوفر الشریعة الاسلامیة على مجموعة من الواجبات و المحرمات التی شرعها البارئ الحکیم لتأمین سعادة الانسان الدنیویة و الاخرویة. فاذا تمرّد الانسان علیها فانه یعیش العذاب و الشقاء فی الدارین معا.
و من الواضح أن السبیل لمعرفة الاحکام الشرعیة یکمن فی الاطلاع التام على الکثیر من العلوم و المعارف کالقرآن الکریم و الاحادیث الشریفة لتمییز الصحیح منها عن السقیم و کیفیة الجمع و الربط بین الآیات و الاحادیث، و غیر ذلک الکثیر من التشقیقات و التفریعات و القواعد و الاصول التی لابد من توفرها فی عملیة الاستنباط.
و أمام هذه القضیة المعقدة یرى المکلف نفسه أمام ثلاثة خیارات:
الخیار الاول: ان یخوض بنفسه غمار البحث و الاجتهاد لیصل الى الاحکام الشریعة من مصادرها الاصلیة.
الخیار الثانی: أن یعمل بالاحتیاط فی کل مسألة یواجهها بحیث یتیقن من اصابة الحکم الشرعی و افراغ ذمته من المسؤولیة.
الخیار الثالث: أن یرجع الى العلماء المختصین بهذا العلم فیأخذ منهم الاحکام الشریعة، و هذا ما یصطلح علیه فی الرسائل العلمیة بالتقلید.
و مما لاشک فیه أن افضل الخیارات هو الخیار الاول حیث یکون المکلف مجتهدا یستنبط الاحکام من مصادرها الاصلیة حسب متبنیاته الفکریة و العلمیة و القواعد الاصولیة و الرجالیة التی یؤمن بها، و لکن هذا یحتاج الى مقدمات و دراسة تتجازة العشر سنین على اقل التقادیر.
و یأتی الاحیتاط فی المرتبة الثانیة، لکن و بسبب کثرة المسائل من جهة و عدم امکانیة الاحتیاط فی بعض المسائل من جهة أخرى قد یؤدی الاحتیاط الى الاخلال بحیاة الانسان الفردیة و الاجتماعیة. من هنا یضطر لاختیار الطریق الثالث الذی یناسب عامة الناس و المکلفین. و لا یختص هذا الامر بالفقه الاسلامی بل یعم شتّى التخصصات فالناس فی غالب العلوم و المعارف مقلدون لغیرهم فی الطب و الهندسة و الصناعات و الحرف و... ففی کل تلک العلوم یرجع غیر المختص الى العالم و المتخصص فیها.
فالمهندس المریض مثلا لا یمکنه ان یکون مختصا فی علم الطب لان ذلک یسغرق وقتا طویلا و بهذا یکون المرض قد عاجلة و قضى علیه، و کذلک لا یمکنه ان یختار طریق الاحیتاط لما فیه من المشاق أضافة الى اعاقته له فی التخصص فی المجال الهندسی و الارتقاء فیه. من هنا لا یبقى أمامه طریق الا طریق الرجوع الى الطبیب المختص و الأخذ بارشاداته و توصیاته. و بهذا ینقذ نفسه و یرفع عنها الملامة أمام الناس و الاصدقاء. و هکذا الانسان الذی یرجع الى المجتهد و الفقیه المختص فانه یؤمن لنفسه الفوز فی الدنیا و الآخرة.[7] خاصة مع الاطمئنان بان نسبة الخطأ قلیلة جدا لا یعتد بها العقلاء.
اتضح أن المراد من التقلید رجوع غیر المختص الى المختص فی العلم المختص به. و لعل أفضل دلیل على وجوب التقلید فی المسائل الدینیة، هذه النکتة العقلائیة التی تؤکد رجوع غیر المختص الى المختص. أضافة الى الآیات و الروایات التی تشیر الى هذا المعنى کقوله تعالى "ْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُون".[8] و کذلک الروایات فقد ورد فی بعضها: "وَ أَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِیهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِیثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِی عَلَیْکُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ".[9] و [10]
و بهذا ظهر أن عملیة الاجتهاد فی الاسلام ضرورة ملحة استطاعت ان تحفظ الدین خلال القرون الماضیة.
ب: اختلاف المراجع فی بعض الجزئیات و الاحکام الفرعیة فقط، و أما الاصول الاعتقادیة و کلیات الاحکام الفرعیة کاصل الصلاة و الصوم و الحج و... فهم متفقون علیها و کلمتهم واحدة فیها، بل هناک تطابق و توافق فی کثیر من الفرعیات و الجزئیات أیضا. و من هنا ینحصر اختلافهم فی بعض الجزئیات و الفتاوى الفرعیة فقط.
و بهذا یکون الاجتهاد أحد الاسالیب التی اعتمدها الاسلام لحفظ الشریعة و بعث الحیاة فی روح الفقه الاسلامی. و مع هذه الاهمیة الکبرى التی یتم من خلالها حفظ الدین و استمراریة الشریعة لا یضر الاختلاف الیسیر فی بعض الفتاوى بین الفقهاء.
[1] النهایة، ج 1، ص 319.
[2]المصدر نفسه.
[3]انظر: هادوی الطهرانی، مبانی کلامی اجتهاد "المبانی الکلامیة للاجتهاد"، ص 19 و 20.
[4] مقتبس من السؤال رقم524 (الموقع: 571) مبانی و اسس الافتاء.
[5] صحیفه النور، ج 21، ص 98.
[6] بحار الانوار، ج1، ص214.
[7] انظر: رساله ی دانشجوییحسینی، سید مجتبی، ص46- 45، الطبعة الخامسة.
[8] النحل، 43.
[9] وسائلالشیعة ج 27 ص 140.
[10] مقتبس من السؤال رقم975 (الموقع: 1078) مببرات التقلید.