فهل تتنافى هذه الایات مع معطیات العلم الحدیث خاصة فی علم الانواء الجویة و الطبیة کمعرفة الجنین عن طریق السونار؟
ان توصل الانسان الى بعض العلوم لایتنافى مع علم الباری تعالى، لان علم الله تعالى یتعلق بتمام الجزئیات و من دون لحاظ البعد الزمانی و ان علم الله تعالى نابع من ذاته و من دون ای واسطة أو آلة؛ اما العلم البشری فیتعلق ببعض الامور التی توصل و سیتوصل الیها العلم من خلال استعمال اجهزة الکشف المتطورة، و بطبیعة الحال ان هذا التطور العلمی یعد امرا ممدوحا لانه یؤدی الى تکامل الانسان و تطوره؛ الا ان ذلک لا یعنی ان نغتر بمعطیات العلم و نسوی بین علم الله المطلق و بین علم الانسان المحدود. فالآیة التی اشارت الى مراحل خلق الانسان لا تتنافی مع معطیات العلم الحدیث، بل ان الاخبار القرآنی عن مراحل خلق الجنین من النطفة الى العلقة مرورا بالمضغة فالعظام و بعدها مرحلة اکساء العظام لحما تعد من الاعجازات العلمیة فی القرآن الکریم.
یظهر من خلال التأمل فی متن السؤال ان هناک الکثیر من الامور غیر واضحة للسائل، فلابد من تسلیط الاضواء علیها:
1- هل توصل الانسان الى بعض العلوم و التقنیات الحدیثة و التی ما کانت متیسرة فی عصر الرسالة یؤدی الى تزلزل المعارف الدینیة و القرآنیة؟
2- هل وصل الانسان الى درجة من العلم بحیث یقارن بین علمه و علم الله تعالى؟
3- هل ان ما جاء فی سورة المؤمنون حول تطور مراحل الجنین یتنافى مع معطیات العلم الحدیث؟
اما النسبة الى القسم القسم الاول فلابد من التنبیة الى نقطة مهمة و هی انه اذا ورد فی القرآن الکریم او الروایات اشارة الى علم الله تعالى ببعض الاشیاء فهذا لایستلزم استحالة ان یعلم الانسان بذلک المعلوم الالهی؛ من هنا فان تسخیر الباری تعالى السماوات و الارض للانسان یکشف عن ان الله تعالى قد وهب الانسان ما یمکنه من اکتشاف اسرارها و الاستفادة منها فی جمیع المهن و الحرف کالزراعة و الصناعة و... فللانسان ان یستفید من المواهب الالهیة التی منحت له للانتفاع الافضل منها؛ تامل فی فی الایة التالیة:
" اللَّهُ الَّذی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ وَ سَخَّرَ لَکُمُ الْفُلْکَ لِتَجْرِیَ فِی الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ الْأَنْهارَ"[1]
فلو اعتمدنا نفس المنطق الذی جاء فی متن السؤال لخرجنا بنتیجة مؤداها: ان الله تعالى بالاضافة الى نسبة خلق السماوات و الارض لنفسه و کذلک انزال الغیث و...ان هذا یعنی انکار قدرة الانسان على الزراعة و هندسة الارواء و صناعة السفن التی کانت موجودة قبل الاسلام بألاف السنین!! هل یعقل ذلک لمجرد کون الله تعالى قال ان اعلم بها؟!
نحن نعتقد ان توصل الانسان الى بعض العلوم و المعارف القلیلة- وبواسطة الاستعانه بالقدرة الالهیة والا فهذا القلیل غیر ممکن ایضا- لاتنافى مع العلم الالهی اللامتناهی، فان الله علیم بکل شیء سواء علم به البشر ام لا.
فاذا قال تعالى "ما یَکُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَ ما کانُوا"[2] او "وَ یَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُون"[3] فهل هذا یعنی هذا ان الافراد المتناجین لایعلمون ما یتناجون به او لایعلم الانسان بما یدور فی خلده؟!
فعلى هذا الاساس، اذا قال الله تعالى انه یعلم بتمام الامور، من الممکن للبشر ان یحیط علما ببعضها لیستفید منها فی حیاته، و بالطبع ان ذلک لایتم الا بارادة الله تعالى.
الامر الاخر الذی ینبغی الاشارة الیه هو بالرغم من التسلیم بالتطورالعلمی للبشر و الاکتشافات العلمیة، الا انها تبقى محدودة جدا بالنسبة الى العلم الالهی؛ بل حتى فی هذه الامور المکتشفة هناک تفاوت اساسی بین العلمین و لایمکن المقارنة بینهما، فعلى سبیل المثال یمکن الاشارة الى بعض تلک الفروق على نحو کلی:
الف: العمومیة و الکلیة
یمکن لعالم ما ان یتوصل الى بعض الاکتشافات فی المنظومة الشمسیة او بعض المجرات و الکواکب؛ لکن الذی یحیط بها جمیعا هو الله تعالى الذی خلقها و ابدعها.
بعبارة اخرى: یمکن ان نطلع على سقوط ورقة ما من الشجرة و نحدد مکان سقوطها، لکن الذی یحیط بکل ورقة تسقط و یعلم به هو الله تعالى " ما تسقط من ورقة الا یعلمها "[4] و قد یتمکن طبیب ما ان یعالج المریض معالجة دقیقة لکنه لایستطیع الاطلاع على مشاکل المرضى الاخرین فی آن واحد؛ الا ان الله تعالى وحده الذی" لا یشغله شیء عن شیء و لا سمع عن سمع و... "[5]
ب: الدقة و الصحة
ان مجرد توصل الانسان الى بعض العلوم والمعارف و تمکنه من تحدید نوع الجنین فی الرحم- بالرغم من عدم اصابته الواقع فی بعض الاحیان- لایعد مبررا للمقارنة بینه و بین علم الباری تعالى الذی غیر المحدود و اللامتناهی.
فاذا قال الباری تعالى " یَعْلَمُ ما فِی الْأَرْحام" لایعنی ذلک انه یعلم جنس الجنین فقط حتى یقارن ذلک بما توصل الیه العلم البشری عن طریق السونار! بل المراد منه کما قال امیر المؤمنین " فَیَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِی الْأَرْحَامِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِیحٍ أَوْ جَمِیلٍ وَ سَخِیٍّ أَوْ بَخِیلٍ وَ شَقِیٍّ أَوْ سَعِیدٍ وَ مَنْ یَکُونُ فِی النَّارِ حَطَباً أَوْ فِی الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً..."[6] ثم ان الله تعالى یعلم ابتداء و بدقة لایشوبها ادنى احتمال للخلاف مدة بقاء الجنین فی رحم امه، و هل یتم التسعة اشهر ام لا و هل یسقط ام یبقى فی رحم امه؟ و هل یخرج کاملا ام لا؟ و کما قال تعالى " الله یعلم ما تحمل کل انثی و ما تغیض الارحام و ما تزداد و کل شیء عنده بمقدار "[7]
فهل یوجد طبیب متخصص فی علم الاجنة یدعی هذا الادعاء؟ و هل یمکن للبشر التوصل الى مثل هکذا امور خارجة عن حدود ذلک العلم؟
فمن الممکن للبشر ان یعرف الى حد حالة الطقس، او التوصل الى تقنیة صناعة الغیوم و التحکم بها؛ لکن هل یتمکن من منع تصادم کوکبین مثلا او التحکم بعدم انحراف الکرة الارضیة عن مسارها؟!
و على ذلک، لابد من الاذعان مع کل تطور علمی و اکتشاف من الاکشافات بان هناک الکثیر من الامور التی یجهلها البشر و ان الوصول الیها یحتاج الى بذل جهود قصوى؛ و هذا سبب عدم توقف حرکة الاکتشاف و العلم على مر التاریخ؛ و ان اکتشاف ای قضیة یدعونا للتامل کثیرا فی القدرة التی ابتدعتها، لا انها تولد حالة الغرور عندنا بحیث نقارن بین علومنا و علم الباری تعالى.
اما بالنسبة الى الشق الثانی من السؤال: بما انه لم یذکر فی متن السؤال ای دلیل على وجود التنافی بین ما توصل الیه العلم الحدیث فی مجال الانواء الجویة و بین محتوى الآیة المبارکة؛ لکن هناک اشکالات اثیرت فی هذا المجال، من هنا نرى من المناسب الاشارة الى بعض النکات الضروریة:
صحیح انه لم یکن علم تقنیة اکتشاف الجنین السونار موجودا فی عصر النبی (ص) لکی یتم من خلاله تشخیص مراحل الجنین فی الرحم، لکن التاریخ یثبت ان الناس فی ذلک العصر کانوا یعرفون المراحل الظاهریة للجنین و ذلک من ملاحظتهم لحالات الاجهاض و سقوط الجنین التی تحدث بصورة متکررة، و لقد کان الاطباء فی ذلک العصر یدرکون ذلک و لذلک کانوا یحددون مراحل الحمل و التغیرات التی تحدث فی بطن المرأة الحامل؛ فلو کان ما ذکره القرآن مخالفا لما یعرفونه لانکروا ذلک اشد انکار.
لکن قد اثیرت الشبهة لدى البعض من کون الآیة لاتنسجم مع معطیات العلوم الحدیث هو وجود حرف العطف "ثم" التی تدل على الترتیب الزمانی الدقیق و لذلک یقولون ان خلق العظام اولا ثم اکسائها باللحم لا ینسجم مع الاکتشافات العلمیة الحدیثة.
لکن التامل الدقیق فی قواعد الادب العربی و الایات القرآنیة سوف یوصلنا الى نتیجة ان کلمة "ثم" لاتدل على الترتب الزمانی مطلقا حتى یرد الاشکال؛ فلو تاملنا فی الایة المبارکة " و اما نرینک بعض الذی نعدهم او نتوفینک فالینا مرجعهم ثم الله شهید علی ما یفعلون"[8] فهل ترى مسلما یعتقد -استنادا الى هذه الایة- و وجود کلمة "ثم" فیها، أن الله تعالى لایعلم الیوم بما نعمل لانه قال " فالینا مرجعهم ثم الله شهید علی ما یفعلون"؟!
لاشک انه لا یوجد من یعتقد ذلک، بل ان کلمة "ثم" قد تستعمل فی الاشیاء التی تقع فی زمان واحد و فی عرض واحد، و الواقع ان نمو اعضاء الجنین تحدث بصورة متقارنة، و لایمکن القول بانها اولا حدثت مرحلة من مراحل الرشد ثم یاتی دور المرحلة التی تلیها.
من هنا نرى فی القرآن الکریم الایة 14 من سورة المؤمنین " ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَکَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقین" حیث الایة تشیر الى طریقة التحول الظاهری للجنین و الذی یمکن ان یدرکه الکل، من هنا یکون ترتیب حیاة الانسان یبتدئ بالنطفة ثم العلقة فالمضغة و هی قطعة اللحم التی یمضغها الانسان فی فمه[9] ثم العظام ثم خلقه بشکل خاص من خلال اکساء اللحم؛ و من الواضح ان الله تعالى یرید ان یقول للناس ان القادر على ان یخلق الانسان و هذه المراحل المعقدة هو الله تعالى وحده، و هذا لایتنافى مع العلوم الحدیثة حیث لم تذکر العلوم الحدیثة ما ینافی هذه الایة.
بالطبع هناک من الباحثین من یرى ان خلق العظام متقدم على خلق اللحم و یعتبر الایة من الایات التی تدل على الاعجاز العلمی للقرآن الکریم، و قالوا: ان تشکل العظام یاتی قبل نبات اللحم و هذه حقیقة اکتشفها علم الاجنة فی النصف الثانی من القرن العشرین من خلال الاستفادة من وسائل الکشف الاشعاعی و قبل ذلک کان الاعتقاد السائد ان نمو اللحم قبل مرحلة العظام.
و الذی یؤید ما وصل الیه العلم الحدیث هو التصاویر التی التقطت للجنین فی الاسبوع السابع من الحمل و قبل نمو اللحم، فهذه التصاویر التی اعتمدت فیها اشعة x و استفید فیها من تقنیات متطورة جدا، و هذا التصویر هو افضل دلیل على ان مرحلة العظام قبل مرحلة انبات اللحم وان یتم قبل الاسبوع السابع اما ان انبات اللحم فیتم بعد الاسبوع السابع و ذلک لان اللحم المجرد عن العظام لایمکن تصویره عن طریق اشعة اکس.[10]
[1] ابراهیم، 32.
[2] المجادلة،7.
[3] النمل، 25 و طه، 7 و ...
[4] الانعام، 59.
[5] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج 2، ص 293، دار الکتب الاسلامیة، طهران، 1365 ه ش.
[6] نهج البلاغة، الخطبة 128.
[7] الرعد، 8.
[8] یونس،46.
[9] ابن منظور، لسان العرب، ج 8، ص 451.
[10] قرآن و دانش:خلقت دانش، اعداد:الدکتور عدنان الشریف ، مجله بشارت، 1378، العدد 13.