إن التعقیدات التی تکتنف شخصیة ابن عربی و منهجه فی التعامل مع المذاهب الإسلامیة و الشخصیات ذات العلاقة بهذه المذاهب أدى إلى اختلاف الآراء و تعدد المواقف فیما یخص المذهب الذی ینتمی إلیه، حتى قیل فیه عدة آراء فقیل أنه شیعی و قیل سنی، و قال البعض أنه إسماعیلی، و قال آخرون أنه مالکی، و ذهب آخرون إلى أنه خارج دائرة المذاهب.
و لکن آثاره و مؤلفاته تدل على أنه من أهل السنة و من أتباع المذهب الحنبلی فیما یخص الاتجاه الفقهی و فی بعض الأحیان نجد عنده میلاً لعقائد الشیعة و متبنیاتهم.
و من الجدیر بالذکر أن البعض یرى أنه شیعی کالشیخ البهائی. و علیه فإذا اعتبرناه من أتباع المذهب الشیعی، فلا بد من حمل بعض آرائه المناقضة للمذهب على التقیة أو التحریف من قبل البعض.
محمد بن علی بن أحمد بن عبد الله بن حاتم الطائی، المکنى بابی بکر و أبی عبد الله و ابن أفلاطون و ابن سراقة و ابن عربی و الملقب بمحیی الدین و الشیخ الأکبر، و هو من أحفاد عبد الله بن حاتم و عبد الله أخو الصحابی المعروف عدی بن حاتم، و جده الأعلى هو حاتم الطائی، و أبوه علی بن محمد من أئمة الفقه و الحدیث و یعد من الزهاد و المتصوفة و أمه من قبیلة خولان المنسوبة إلى الأنصار.
ولد فی عام 560 هـ. ق فی السابع من شهر رمضان فی مدینة مرسیة الواقعة فی بلاد الأندلس و توفی فی الثامن من ربیع الآخر من عام 638 هـ .ق فی مدینة دمشق، و قد دفن فی قریة شمال دمشق تسمى بالصالحیة على سفح جبل قاسیون و هو حنبلی المذهب و یعد من أکبر الشخصیات الإسلامیة فی عالم العرفان الإسلامی، إنه العارف الذی أثار ضجیجاً ودویاً من حوله حتى کثر مخالفوه و موافقوه فقد اجتذب الکثیر من المریدین، کما وقف ضده الکثیر من المخالفین[1].
و على الرغم من کثرة المصادر التی تتحدث عن شخصیة ابن عربی إلا أن الإفراط عند محبیه و مخالفیه أدى إلى صعوبة التعرف على شخصیته الحقیقیة و وضوح معالمها.
إنه إفراط و تفریط بلغ بالبعض إلى الارتقاء به إلى رتبة الأولیاء فی السیر و السلوک إلى الله، فی حین ذهب ألاخرون إلى رمیه بالخروج عن الدین و نسبوه إلى الابتداع و الضلال.
و الطریق الأسلم للتعرف على معالم شخصیته الظاهریة و سلوکه الیومی، و کذلک شخصیته المعنویة و سلوکه و مراحل عروجه العرفانی هو الرجوع إلى مؤلفاته و آثاره.
هل أن ابن عربی شیعی أم سنی؟
یوجد فی بعض مؤلفاته ما یجعل المرئ یمیل إلى أنه شیعی حتى أظهر البعض أنه شیعی اعتماداً على مثل هذه الأقوال و الآراء، کالنص الذی نجده فی الفتوحات المکیة التی تعد من أهم آثاره، حیث یقول بخصوص الإمام علی(ع): «و أقرب الناس إلیه علی بن أبی طالب و أسرار الأنبیاء أجمعین»[2]. أو ما یعتقده فی إمام الزمان(عج) حیث یقول أنه خلیفة الله فی الأرض و یقول أنه من نسل فاطمة الزهراء (ع) و اسمه اسم رسول الله (ص)، ما جعل بعض العلماء کالشیخ البهائی یظهر تعجبه منه و یؤکد على تشیعه، و کذلک یرى بعض علماء الشیعة الکبار أنه شیعی، و من جملتهم الشیخ البهائی، ابن فهد الحلی، المحدث السید الجزائری، و القاضی نور الله التستری و....[3].
و لکن لا بد من التوجه إلى أن العبارة التی ذکرها بحق الإمام علی(ع) حیث قال: « و أقرب الناس إلیه علی بن أبی طالب و أسرار الأنبیاء أجمعین» إنما تدل بنظره على أن الإمام فی مرتبة متقدمة بلحاظ الولایة التکوینیة.
ولیس فیه ما یدل على أنه یرى أن الإمام هو الخلیفة بعد رسول الله، لأن الکثیر من أهل السنة و المعتزلة یقولون بأفضلیة الإمام حتى قال ابن أبی الحدید المعتزلی شارح نهج البلاغة: «الحمد لله الذی قدم المفضول على الأفضل لمصلحة»[4].
ثانیاً: إن أهل السنة یؤیدون خلافة الإمام علی (ع) بعد الخلفاء الثلاثة، و لذلک فلا یمکن الحکم بتشیع أحد لمجرد مدحه و تفضیله للإمام علی (ع).
و إذا کان قد تکلم بأفضلیة علی (ع) فإنه یشیر إلى صحة خلافة أبی بکر فی کتابه الفتوحات المکیة[5]، کما یؤکد إمامة أبی بکر و أفضلیته فی موضعٍ آخر من الکتاب حیث یقول: «و عرف الناس حینئذ فضل أبی بکر على الجماعة فاستحق الإمامة و التقدیم»[6].
و کذلک ینقل فی نفس الکتاب[7] روایة الترمذی و یتبناها و فیها أن الأمة ترى أن أبا بکر هو الأفضل بعد النبی (ص). و یوجد إشعار فی الکتاب یتضمن المعنى التالی: لا توجد فاصلة بین النبی (ص) و ناصره یعنی أبا بکر،و الشعر هو:
فلیس بین أبی بکر و صاحبه إذا نظرت إلى ما قلته رجل
هذا الصحیح الذی دلت دلائله فی الکشف عند رجال الله إذ علموا[8].
کما توجد العدید من المطالب فی تراثه لا یتردد قارءها فی عدم انتمائه إلى المذهب الشیعی، إنه یذکر أسماء مثل المتوکل و معاویة و یعدهم من الأقطاب، و یقول فی هذا الباب: «و هو الغوث أیضاً، و هو من المقربین، و هو سید الجماعة فی زمانه، و منهم من یکون ظاهر الحکم و یحوز الخلافة الظاهرة، کما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام کأبی بکر و عمر و عثمان و علی و الحسن و معاویة و یزید و عمر بن عبد العزیز و المتوکل، و منهم من له الخلافة الباطنة خاصة، و لا حکم له فی الظاهر کأحمد بن هارون الرشید السبتی، و کأبی یزید البسطامی، و أکثر الأقطاب لا حکم لهم فی الظاهرة»[9] و بالتوجه إلى هذه العبارة یمکن أن نطرح بعض التساؤلات، هل یوجد أحدٌ من الشیعة یرتب الخلافة «الظاهریة و الباطنیة» کترتیب ابن عربی؟ ألیس کلامه مصداقاً لما قاله علی(ع): «أنزلنی الدهر حتى قیل علی و معاویة»[10].
هل أن الشیعة یؤیدون خلافة عمر بن عبد العزیز الظاهریة و الباطنیة؟
هل یمکن لمن یرفع المتوکل ـ الناصب العداوة لأهل البیت ـ إلى مقام الخلافة الباطنیة أن یکون من محبیهم و أتباعهم؟ یقول المرحوم الحاج المیرزا حسین النوری المحدث و الفقیه المتبحر و هو أستاذ الشیخ عباس القمی(ره): «و من علماء النواصب من أهل السنة ابن عربی و هو أکثرهم خصومة للشیعة لأنه یقول فی فتوحاته عندما یتحدث عن الأقطاب یعدهم و یقول: أبو بکر، عمر، عثمان، علی، و الإمام الحسن، عمر بن عبد العزیز، و حتى المتوکل یضعه فی هذه القائمة، و یقول هؤلاء الأقطاب هم من أصحاب الخلافة الظاهریة و الباطنیة، فی حین أن المتوکل هو الذی أمر بهدم قبر الحسین و اقتلاعه، لیمنع الناس من زیارة قبره الشریف»[11].
و یقول العلامة الطباطبائی (ره) صاحب تفسیر المیزان: «کیف یمکن أن یکون ابن عربی من أهل الطریق و السلوک و هو یعد المتوکل من أولیاء الله»[12].
و یقول الأستاذ الأشتیانی: «لیس لابن عربی بشکل کلی انسجام و توافق مع الشیعة، و کأنه لم یرَ آثار الأئمة مطلقاً، و قد ینقل بعض أحادیث الأئمة عن طریق العامة، و یظهر لهم الإجلال و الاحترام حتى یظن الإنسان أنه من الشیعة و من العارفین الموغلین فی التشیع»[13].
و علیه فإذا اعتبرناه من الشیعة فلا بد من حمل بعض أقواله على التقیة، و ذلک ما یذهب إلیه الشیخ البهائی حیث یقول: بما أنه یسکن فی محیط کان خاضعاً زمناً طویلاً لحکومة بنی أمیة فإنه مضطر إلى التقیة[14]. أو تحتمل تحریف کتبه، کما یقول البعض بوجود نسختین من کتاب الفتوحات توجد فی الأولى الکثیر من المطالب التی حذفت فی الثانیة کما أضیفت مطالب لم تکن موجودة فی النسخة الأولى، فالنسخة الموجودة بخط المؤلف هی النسخة الثانیة، و أما النسخة الأولى فهی بخط أحد أتباعه و قد کتبت فی زمان حیاة المؤلف و کثرة النسخ الخطیة مع کونها تقوی نسبة الکتاب إلى ابن عربی إلا أنها تقوی احتمال التحریف، و مع أن الشعرانی یقول أن کتاب الفتوحات صحیح، و لکننا نتعجب کم من مطالب هذا الکتاب المهم هی لابن عربی و کم منها لغیره، یقول الشعرانی[15]: «عندما عزمت على تلخیص الفتوحات وجدت بعض العبارات أظن أنها تخالف جمیع عقائد المسلمین، و بعد الشک و التردد حذفتها ثم عرضت التلخیص على الشیخ شمس الدین المتوفى (955 هـ .ق) الذی یمتلک نسخة من کتاب الفتوحات کتبها بیده و قابلها على نسخة المؤلف فی قونیة، و بعد القراءة و المقارنة وجدت أن جمیع العبارات التی شککت بها و حذفتها غیر موجودة فی النسخة التی بحوزة الشیخ شمس الدین».
و یقول الشعرانی أنه من المسلم عنده أن نسخة الفتوحات التی راجت فی زمانه فی مصر تشتمل على نصوص موضوعة و منحولة على المؤلف. و کذلک الأمر بالنسبة لکتاب الفصوص وکتبه الأخرى.
للاطلاع یراجع:
1ـ کتاب «محیی الدین بن عربی» تألیف محسن جهانگیری، منشورات جامعة طهران.
2ـ دراسة فی العرفان الإسلامی تألیف داوود الهامی، منشورات الإسلام.
3ـ الأحکام المتضادة بحق ابن عربی، تألیف داوود الهالی، منشورات مکتب الإسلام.
[1]الآشیتانی جلال الدین، مقدمة شرح الفصوص للقیصری، ص13، مطبعة شرکة المنشورات العلمیة و الثقافیة، الطبعة الأولى.
[2]ابن عربی، محیی الدین، الفتوحات المکیة ج1 ص120 طبعة بیروت، منشورات دار صادر. 4 أجزاء.
[3] فصلیة الفلسفة و الکلام التابعة لحزب الله، المقالة هل ابن عربی شیعی، السید محمد باقر الخرازی، ص64، السنة الخامسة، رقم 14، نقلاً عن کتاب المجالس، شرح أحوال ابن عربی.
[4]شرح ابن أبی الحدید، ج1، ص3.
[5]الفتوحات المکیة، ج4 ص79.
[6]المصدر نفسه ـ ج3 ـ ص372.
[7] المصدر نفسه ـ ج2 ـ ص125.
[8]المصدر نفسه ـ ج2 ـ ص260.
[9]ابن عربی، الفتوحات، ج2، ص6.
[10]المدرس وحید، أحمد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص237، الناشر المؤلف، الطبعة الأولى.
[11]النوری، حسین، مستدرک الوسائل، ج3، ص422، طبعة قدیمة.
[12]الطباطبائی، محمد حسین، الروح المجرد، ص436، الهامش.
[13]المصدر نفسه ـ ص46.
[14]دائرة المعارف الشیعیة، ص347، ج1، طبعة منظمة الإسلام (طاهر) الطبعة الأولى، بهمن 66، فی حاشیة موضوع ابن عربی.
[15]م م شریف، تاریخ الفلسفة فی الإسلام، ج1، ص564، منشورات الحکمة، الطبعة الأولى، نقلاً عن الشعرانی، عبد الوهاب، الیواقیت و الجواهر ص 2 ـ 13.