و على أساس هذه الآیة حرم تزویج المشرکین فی المدینة، فکیف یمکن أن تکون الروایة المتقدمة دلیلاً على إیمان أبی طالب و نحن نعلم أن وفاته کانت فی العهد المکی؟
الحدیث الذی أشرتم إلیه حدیثٌ مرفوع، و لا اعتبار له من حیث السند، و لکن لا بد من الالتفات إلى أننا لسنا بحاجة الى هذا الحدیث لإثبات إیمان أبی طالب، لأن الأدلة على إیمان الرجل کثیرة تغنینا عن الرجوع إلى هذه الروایة، و من جملة الأدلة على إیمانه أقواله و أفعاله، و هذا ما لا یرد علیه إشکال، و کذلک أقوال الآخرین و شهاداتهم على إیمانه، إضافة إلى المدح و الثناء الذی صدر عن النبی (ص) و الأئمة المعصومین بحق أبی طالب، و سعیه و نضاله فی طریق الدفاع عن النبی و حمایته و الدفاع عن مقدسات الإسلام.
إننا نعتقد أن کل من ینبذ التعصب جانباً و یقرأ سطور التاریخ بحیادیة و إنصاف لا یتردد فی أن یضم صوته إلى صوت ابن أبی الحدید المعتزلی حیث یقول:
و لولا أبو طالب و ابنه
لما مثل الدین شخصاً و قاما
فذاک بمکة آوى و حامى
و هذا بیثرب جس الحِمَاما
یمکن التعرف على عقیدة أی شخص و متبنیاته و أفکاره من خلال عدة طرق من جملتها:
1ـ دراسة آثاره العلمیة و الأدبیة التی یترکها من بعده و قد اخترنا نماذج من تراث أبی طالب المتمثل بالقصائد الطوال و المقطوعات الشعریة الکثیرة کدلیل على إیمانه و منها:
لیعلم خیار الناس أن محمداً
وزیر لموسى و المسیح بن مریم
أتانا بهدی مثل ما أتیا به
فکل بأمر الله یهدی و یعصم
و إنکم تتلونه فی کتابکم
بصدق حدیث لا حدیث المبرجم[1]
و یقول فی قسم آخر من أشعاره:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً
نبیاً کموسى خُطَّ فی أول الکُتْبِ
وأنّ علیه فی العباد محبةً
ولا خیر ممّنْ خَصَّه الله بالحبِّ [2]
و یخاطب النبی (ص) قائلاً:
و الله لن یصلوا إِلیک بجمعهم
حتى أوسد فی التراب دفینا
فاصدع بأمرک ما علیک غضاضة
و ابشر بذاک وقر منک عیونا
و دعوتنی و علمت أنک ناصحی
و لقد دعوت و کنت ثمّ أمیناً
و لقد علمت بأنّ دین محمّد
من خیر أدیان البریة دینا[3].
إن دلالة هذه الأشعار على إیمان أبی طالب واضحة و لا یمکن إنکارها.
2ـ سلوکه و عمله فی المجتمع:
کان أبو طالب حریصاً على مراعاة النبی، و لم یرضَ أن یصاب النبی بأی أذىً و لو للحظة واحدة، حتى على مستوى المشاعر و الاذى النفسی، و کان یسعى مع قلة الإمکانات و ما یواجه من صعوبات إلى اصطحاب ابن أخیه و حمله معه إلى بلاد الشام.
کان اعتقاده بابن أخیه راسخاً حتى أنه أخرجه للاستسقاء و التوسل إلى الله أیام الجدب فی مکة.
کما أنه لم یغفل لحظةً واحدة فی الحفاظ على النبی(ص) و الدفاع عنه و قد تحمل کثیراً فی هذا الطریق حتى أنه رجح الإبعاد و الحصار فی شعب مکة على الرئاسة و رغد العیش فی مکة، و قد کلفه هذا الحصار الشدید الذی دام ثلاث سنوات الکثیر، حتى أصیب بالمرض، و لم یمضِ إلا القلیل على خروجه من الشعب حتى فارق الحیاة.
کان إیمانه بالنبی قویاً و صادقاً إلى درجة أنه کان یرضى بقتل جمیع أبنائه الکرام من أجل بقاء محمد (ص) ، و عند ما نزلت الآیة: «وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الأَقْرَبِینَ» جمع النبی جمیع أعمامه و أقاربه ثم عرفهم على أهداف الإسلام فقام أبو طالب و قال: «اخرج ابن أبی، فإنک الرفیع کعبا، و المنیع حزبا، و الأعلى أبا، و الله لا یسلقک لسان إلا سلقته ألسن حداد، و اجتذبته سیوف حداد، و الله لتذلن لک العرب ذل البهم لحاضنها»[4].
3ـ رأی الأقارب و الأصدقاء المحایدین بحقه:
أ ـ عندما نقل علی(ع) خبر وفاة أبی طالب إلى النبی(ص) بکى بشدة و أمر علیاً(ع) بأن یغسله و یکفنه و یدفنه، کما أنه دعا الله له و طلب المغفرة[5]. و المعلوم أن الواجب هو تغسیل و تکفین و دفن المسلم، و لیس للکافر غسل و کفن و دفن[6]. ولا یحق للمسلم أن یطلب المغفرة من الله للکافر[7].
ب ـ یقول الإمام الباقر (ع): «لو وضع إیمان أبی طالب فی کفة میزان و إیمان هذا الخلق فی الکفة الأخرى لرجح إیمانه»[8].
ج ـ یقول الإمام الصادق(ع): «إن مثل أبی طالب مثل أصحاب الکهف أسروا الإیمان و أظهروا الشرک، فآتاهم الله أجرهم مرتین»[9].
و هذه الروایة تدل على أن أبا طالب(ع) کان یکتم إیمانه فی بعض الفترات حفاظاً على الإسلام و صیانة للنبی(ص) و هذا الکتمان لم یکن غیر مؤثر على إیمانه و حسب، و إنما یشکل دلیلاً على علو درجته و ارتفاع شأنه و مضاعفة أجره عند الله.
د: إن علماء الإمامیة و الزیدیة متفقون جمیعاً ـ تبعاً لأهل البیت ـ أن أبا طالب من أفاضل المسلمین و یوم عرجت روحه کان قلبه ملیئاً بالإیمان و الإخلاص و حب المسلمین، و قد کتبوا العدید من الکتب و الرسائل فی هذه المسألة.[10]
هـ : لقد أدلى الکثیر من علماء السنة و الشیعة بشهاداتهم و صرحوا بإیمان أبی طالب منهم العلامة البرزنجی و الشیخ إبراهیم الحنبلی و ابن الجوزی و ... و من علماء الشیعة مثلاً: أمین الإسلام الطبری، محمد باقر المجلسی، العلامة الشیخ أبو جعفر الفتال النیشابوری، السید عبد الله شبر، المحقق الراوندی، الشیخ الصدوق، العلامة الکراجکی، السید ابن طاووس و السید المرتضى.[11]
أما بالنسبة إلى الآیتین المشار إلیهما فی نص السؤال، و قد ذکر أن الآیتین متعلقتان بروایة الإمام السجاد (ع)، فلا بد من أن یقال: أنه لیس من المعلوم ارتباط الآیتین بهذه الروایة، لأن الإمام(ع) یقول: « واعجباً کل العجب أ یظنون على أبی طالب أو على رسول الله (ص) و قد نهاه الله تعالى أن یقر مؤمنة مع کافر فی غیر آیة من القرآن و لا یشک أحدٌ أن فاطمة بنت أسد رضی الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فإنها لم تزل تحت أبی طالب حتى مات أبو طالب»[12]. و على فرض أن هذه الروایة مرتبطة بالآیات المدنیة[13]، فإن دلالتها على إیمان أبی طالب أمرٌ مشکل، و لکن لا بد من الالتفات إلى أن هذا الحدیث مرفوع و لیس له اعتبار من جهة السند، و هذا یحل الإشکال، إضافةً إلى أن إثبات إیمان أبی طالب لا یحتاج إلى هذا الحدیث بشکلٍ خاص.
دراسة الحدیث من حیث السند:
هذا الحدیث ضعیف من عدة جهات
1ـ لم ینقل الحدیث فی أی مصدر معتبر من مصادر الشیعة کالکافی أو الکتب الأربعة و غیرها، و إنما نقل فی کتاب «إیمان أبی طالب» فقط[14].
2ـ راوی الحدیث أبو علی الموضح، و لیس للرجل ذکر فی کتب الحدیث و الرجال. و إنما ذکره السید الأمین فی أعیان الشیعة، و قال: «فی الریاض اسمه عمر بن الحسین بن عبد الله بن محمد الصوفی بن یحیى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن أمیر المؤمنین علی (ع) العمری العلوی الکوفی المعروف بالموضح»[15].
3ـ و کما لاحظنا أنه یروی على أمیر المؤمنین بسبع وسائط کما أنه یروی عن محمد بن عمر بن أمیر المؤمنین ـ و هو ابن عم الإمام السجاد و من طبقته ـ بخمس وسائط، فکیف یمکن أن یروی عن الإمام السجاد(ع) بشکلٍ مباشر.
و استناداً إلى الدلالة المتقدمة فإننا یمکن أن نتردد و نشک فی أی شیء إلا فی حقیقة واحدة و هی کون أبی طالب من حماة الإسلام و المدافعین عن رسوله و من الطراز الأول، کما أنه من غیر الممکن أن یفسر موقعه هذا على أساس المیول القبلیة و علاقات القربى و التعصب.
و لعل النموذج الأبرز موقفه فی شعب أبی طالب و قد کتب جمیع المؤرخون و أهل السیر أن قریشاً فرضت حصاراً شدیداً على النبی و أتباعه من المسلمین، و کان حصاراً على جمیع المستویات الاقتصادیة و الاجتماعیة و السیاسیة، و قطعوا جمیع الارتباطات معهم، و کان أبو طالب هو المدافع الوحید عن النبی حیث نفض یده من کل عمل و کل موقع و اختار البقاء فی الشعب لمدة ثلاث سنوات مع بنی هاشم.
و قد بلغت تضحیاته حداً أنه إضافة إلى بناء مراصد خاصة لمنع هجوم قریش، کان ینقل النبی(ص) من مکان لآخر داخل الشعب مع تهیئة المکان الملائم لراحته و نومه، و کان یضع ولده علیاً(ع) مکان النبی[16].
إننا نعتقد أن کل من ینبذ التعصب جانباً و یقرأ التاریخ بشکلٍ حیادی فیما یخص أبی طالب. لا بد و أن یردد مع ابن أبی الحدید المعتزلی، شارح نهج البلاغة:
و لولا أبو طالب و ابنه
لما مثل الدین شخصاً و قاما
فذاک بمکة آوى و حامى
و هذا بیثرب جس الحِمَاما [17].
و لأجل الاطلاع و التعرف على حقیقة إیمان أبی طالب الذی کان حامیاً لرسول الله فی جمیع أدوار حیاته و المنفذ لجمیع طلباته، إضافةً إلى الاطلاع على الروایات المتعلقة بإیمان أبی طالب یمکن مراجعة تفسیر المیزان ج 7، ص 57. و التفسیر الأمثل ج 4 ص 245ـ 247. و المجلد الثامن لکتاب الغدیر.
[1] السبحانی، جعفر، أشعة من تاریخ نبی الإسلام، ص 163، منشورات مشعر، 1378، نقلاً عن دیوان أبی طالب ص 32، و سیرة ابن هشام، ج 1، ص 373.
[2]المصدر نفسه.
[3]المصدر نفسه، نقل عن تاریخ ابن کثیر، ج 2 ص 42؛ التفسیر الأمثل، ج 5، ص 195.
[4]المصدر نفسه، نقل السید ابن طاووس، الطرائف، ص 85.
[5]المصدر نفسه.
[6]المکی العاملی، محمد بن جمال الدین، اللمعة الدمشقیة، ص20، مؤسسة دار الفکر، 1374؛ الإمام الخمینی (ره)، تحریر الوسیلة، ج 1 ص 65، دار العلم، 1374؛ توضیح المسائل المرجع الثالث عشر، ج 1 ص 313، مسألة 542، مکتب الإعلانات الإسلامیة التابع لجماعة المدرسین فی حوزة قم العلمیة، 1383.
[7] التوبة، 113.
[8]ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 14، ص 76.
[9]السبحانی، جعفر، النور الخالد، ج 1 ص 377، مرکز مطبوعات مکتب الإعلانات الإسلامیة، 1377، نقلاً عن أصول الکافی، ص 244.
[10]المردانی، خیر الله (اسم کتاب ذکر نشد)، ص 136، منشورات طریق القرآن، 1384، نقلاً عن وسائل الشیعة، ج 11، ص 480.
[11]المؤلف: الطباطبائی، محمد حسین، المترجم: الموسوی الهمدانی، محمد باقر، تفسیر المیزان، ج 2 ص 205، مکتب المنشورات الإسلامیة؛ مکارم الشیرازی، ناصر، التفسیر الأمثل، ج 18 ص 253، دار الکتب الإسلامیة، 1371.
[12]کتاب الحجة، الدرجات الرفیعة، نقلا عن الغدیر المجلد 8، نقلا عن التفسیر الأمثل ج 4، ص 250، إیمان أبی طالب للفخار ص 123.
[13] یرى العلامة أن هذه الآیة قد نزلت فی المدینة. انظر: ترجمة المیزان، ج 2، ص 205.
[14]فخار بن معد الموسوی، إیمان أبی طالب، مجلد واحد، منشورات سید الشهداء (ع) قم، 1410 هـ ق.
[15]الأمین، السید محسن، أعیان الشیعة، ج 2، ص 387، فی المجلد 11.
[16]الغدیر المجلد 8، التفسیر الأمثل، ج 4، ص 250.
[17]شرحنهج..(ابنأبیالحدید)، ج 14، ص 84.