قال تعالى في كتابه الكريم: " إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" و في آية أخرى: " الَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزيزُ الْغَفُور". و مما لاريب فيه أن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري اختلافا جوهرياً؛ لان اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام و الجهل، خلافا للاختبار الإلهي فان القصد منه التربية و تكامل الانسان.
و قد تعددت سبل الابتلاء و التمحيص الالهيين فتارة تتم عن طريق المحن و المشاكل التي تواجه الانسان و أخرى تتم عن طريق الخير و الشر و ثالثة عن طريق وفرة النعم و الأولاد و...
مفهوم الامتحان الالهي
يواجه المطالع لآيات الذكر الحكيم مجموعة من المفردات من قبيل " الابتلاء، البلاء، الفتنة و التمحيص" كقوله تعالى: " إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"[1] و في آية أخرى: " الَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزيزُ الْغَفُور".[2] و مما لاريب فيه أن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري اختلافا جوهرياً؛ لان اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام و الجهل، خلافا للاختبار الإلهي فان القصد منه التربية و تكامل الانسان.؛[3] بمعنى أن الاختبار و الامحتان الالهي يوفر الارضية المناسبة للانسان للتربية و التكامل كما حصل للانبياء العظام و على رأسهم النبي إبراهيم (ع): " وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ".[4]
مصاديق الاختبار الالهي في القرآن
جاء في الآية الكريمة: " أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبين".[5]
و نحن نجد – أحياناً- أن القرآن الكريم يشير الى حتمية الإبتلاء والاختبار العامين ليكون ذلك سبباً في دعم ايمان البشرية و عودتها الى طريق الفلاح كما في قوله تعالى: " أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ".[6]
و احياناً أخرى يشير الى ابتلاءات فردية – على مستوى الافراد او الجماعات- وقعت على مرّ التأريخ يدرجها ضمن القصص القرآني كقصص الشعوب و الانبياء.
و الآيات العامّة اكثر من أن تدرج ضمن هذه الاجابة المختصرة، و من هنا نحاول الاشارة الى بعض تلك الاختبارات الواردة في مطاوي القرآن الكريم:
1. المحن و الشدائد
يختبر الباري تعالى عباده بالمحن و الشدائد؛ كما في قوله تعالى: " وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرين".[7]
إن المشاكل و المحن التي يتعرض لها الانسان تجعل منه كائناً صلباً راسخ القدم ثابتا على طريق الهداية، شأنها النار و اثرها في المواد المعدنية التي تنقيها من الكدر و الشوائب و تزيل عنها المواد العالقة و الاشياء الزائدة حين وضعها في مصانع الصهر ذات الحرارة الشديدة، و هكذا يفعل مختبر الحياة بالانسان حيث يجعل منه انساناً يمتلك القدرة على تجاوز جميع الشدائد و المحن التي تعترض حياته؛ و مما لاريب أن للابتلاء أثراً تربوياً على المستويين الفردي و الاجتماعي، حيث يوقظ فيه العزم و الارادة و يحرك لديه القوى الكامنة و الاستعدادات المتوفرة لدية و بنسبة طردية، فكلما ازدادت شدة الاختبار، اظهر الانسان استعداداته و قواه الكامنة فيه التي تجعل منه أنسانا لا تنال منه العواصف و لا تضعفه الكوارث. و بعبارة أخرى: تحدث فيه انقلاباً تربوياً كبيراً، فالاثر التربوي للبلايا و الشدائد، و الصعوبات يظهر في كونها مربية للفرد و موقظة للامم، فهي تعيد الوعي للنائمين و تحرك العزائم و الارادات.
فكما أن الصقل للحديد و الفولاذ يجعلهما حادين فكذلك الشدائد عندما تتصل بالنفس الانسانية فهي تجعلها اكثر تصميما و فعالية و حدة. فخاصة الحياة إذن هي المقاومة للشدائد لتصبح دوما على استعداد لمقابلتها في الشعور و اللاشعور. و للشدائد خاصة تبديل الماهيات فتغير أرواح الناس و انفسهم.[8]
2. الشرور و الخيرات
كذلك يشير القرآن الى كون الشرور و الخيرات من وسائل الاختبار و الابتلاء الالهيين، كما في قوله تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ".[9] فالآية الكريمة تقرر حقيقة مهمة و هي أن الخير يمكن أن يعد من وسائل الاختبار للانسان كالمال و الثروة او تسنّم المناصب و المسؤوليات الحكومية و الاجتماعية التي تعزز من الحيثية الاجتماعية للانسان، فاذا لم يستطع الانسان تحمل تلك النعم، او استعمالها في الموقع المناسب و في طرق الخير يكون قد إبتلي بلاء كبيراً حيث يصبح العوبة بيد الشيطان يسيره كيفما شاء و يستغل قواه و النعم الالهية بابشع صور الاستغلال.
3. وفرة النعم
الامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللّه عبده بوفور النعمة، كما حدث ذلك لنبي الله سليمان و الذي أشارت اليه الآية المباركة: "هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَريم".[10]
فهناك من يغرق في النعم الالهي و الرزق الوفير ليكون اختباره من خلال هذا الطريق و هل يمكنه تحمل تلك النعمة و شكرها من خلالها ربطها بالمصدر الحقيقي لها و اخراج الحقوق الشرعية منها؟ او يبقى ذلك الانسان يعيش نشوة النعمة و تبطر معيشته و يصاب بالغفلة عن الله تعالى مصدر النعمة و ينسى الفقراء و المحتاجين و...
4. الابناء
اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة الاختبارية في قوله تعالى: " وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ".[11]
5. الايمان و الكفر
يقول تعالى في خصوص خزنة النار و ان عددهم 19 ملكا ثم يضيف: " وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَر".[12]
6. زخارف الدنيا
قال تعالى مشيرا الى هذا الاسلوب من الاختبار: " إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً".[13]
[1] الكهف، 7.
[2] الملك، 2.
[3] مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص: 442، نشر مدرسة الامام علي بن ابي طالب(ع)، قم، الطبعة الاولى، 1421هـ.
[4] البقرة، 124.
[5] العنكبوت، 2-3.
[6] العنكبوت، 2.
[7] البقرة، 155.
[9] الانبياء، 35.
[10] النمل، 40؛ و انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص: 447.
[11] الانفال، 28.
[12] المدثر، 31.
[13] الكهف، 7.