کان بنو قریظة، من القبائل الیهودیة التی توطّنت المدینة، و انعقدت بینهم و بین المسلمین اتفاقیة ضمّت بنود متعددة، تضمن لهم هذه الاتفاقیة التعایش السلمی مع المسلمین لکنهم نقضوا عهدهم فی غزوة الأحزاب مع المسلمین و أصبحوا طابوراً خامساً للعدو الذی طوّق المدینة، و لهذا السبب عاقب النبی الأکرم (ص)ـ بعد انتهاء معرکة الأحزاب ـ کل من نقض الاتفاقیة. و یتفق الشیعة و السنة فی معظم تفاصیل هذا الحادث. و أما سبب تسمیتهم بهذا الاسم فیمکن أن نقول بأن کثیرا من القبائل العربیة کانت تنسب إلى أجدادها و تسمی نفسها بأسمائهم، وعلیه، فأحد الاحتمالات هو أن "بنو قریظة" سمیت بهذا الاسم لانتسابها إلى شخص کان اسمه "قریظة".
لمّا اشتد إیذاء المسلمین و اضطهادهم و مضایقتهم ـ و لم تخفّف هجرة عدد من المسلمین إلى الحبشة من شدة المضایقات ـ و ازدیاد خطر اغتیال النبی (ص) فی مکة، و من جهة أخرى، ارتفع عدد المسلمین فی المدینة، قرّر النبی (ص) أن یهاجر المسلمون إلى المدینة إذ وجد مناخها مناسباً للدعوة إلى الدین، و هاجر هو (ص) سراً إلى تلک المدینة، أو بعبارة أخرى اضطرّ الى الهجرة[1]، و أصبحت المدینة بعد هذا الحدث المهم موطناً لثلاثة شرائح اجتماعیة رئیسیة:
1. الشریحة الأولى: هم الذین اعتنقوا الاسلام حدیثاً و قد توطّنوا المدینة من قبل هذا الحدث و کان أغلبهم من قبیلتی الأوس و الخزرج، و هما من القبائل الکبیرة، و تضمّ کلٍ منهما فی داخلها قبائل صغیرة، و قد سمی مسلمو هذه الشریحة "بالانصار"[2] لمساعدتهم و نصرتهم للمهاجرین و لما قدموه من خدمات و عون لهؤلاء المهاجرین[3].
2.الشریحة الثانیة: و هم السابقون للاسلام فقد اعتنقوا هذا الدین الالهی منذ انطلاقته من مکة، و لکن بسبب تزاید العنف ضدهم اضطروا الى الهجرة إلى المدینة، و قد سمیت هذه الشریحة بالمهاجرین[4].
3.و أمّا الشریحة الثالثة: فکانت تتکون من قبائل یهودیة متوزعة أطراف المدینة، هاجرت إلى المدینة و أطرافها لأنها کانت تعتقد ـ حسب ما جاء فی کتبهم ـ بأنه سوف یظهر فی هذه المنطقة نبیٌ و کانوا یتوقعون أن المنقذ الموعود سیُبعث من قبائل بنی اسرائیل، و لذلک بعد أن بعث النبی الأکرم (ص) من قبیلة عربیة و من ذریة اسماعیل کان من الصعب علی هذه القبائل الیهودیة أن تخضع لنبوته(ص)!.
مضافاً إلى القبائل الیهودیة التی کانت تسکن فی أطراف المدینة مثل خیبر و فدک و...کان هناک ثلاثة قبائل رئیسیة من الیهود وهی، "بنو قینقاع" و"بنو نضیر" و "بنو قریظة" قد استقرت داخل المدینة.
فإذن تبین مما ذکرناه، أن معظم سکان المدینة کانوا ممن أطاع النبی (ص) بقناعة و رغبة، و قد خُوّلت ادارة هذه المدینة إلى هؤلاء.
و من جانب آخر، ما کان النبی (ص) بصدد اجبار الجمیع على إتّباع دین الاسلام، و کان (ص) قلقاً من تشنج العلاقات بین مسلمی المدینة (الانصار) و مسلمی مکة (المهاجرین)، و لذلک أقدم (ص) على انعقاد اتفاقیة ثلاثیة تحکم علاقة الشرائح الاجتماعیة الثلاثة فی المدینة (المهاجرون، الانصار، و الیهود) و قد تعهّدت الیهود فی هذه الاتفاقیة بأن تحلّ أموالهم و دماؤهم للنبی (ص) إن انقضوا عهدهم[5].
و قد بقی طرف من أطراف هذه الاتفاقیة وهم (المهاجرون و الانصار) ملتزماً بالعهود رغم وقوع بعض التشنجات الجزئیة التی ارتفعت بعد تدخّل النبی (ص)؛ و لکن کل القبائل الیهودیة ـ و فی مواقف متعددة ـ نقضوا الاتفاقیة، و بطبیعة الحال تحمّلوا تداعیاتها ، و التی کانت تختلف ـ حسب نوع النقض و أسلوبه ـ شدة و ضعفاً.
و فیما یلی تفصیل نقضهم:
1.نقضت بنو قینقاع عهدهم مع النبی (ص) بعد أن عاد النبی (ص) منتصراً من غزوة بدر و لهذا السبب، عاقبهم النبی لنقضهم الاتفاقیة و نفاهم إلى الشام[6] و قد نزلت فی حقهم آیة من القرآن[7].
2.و أمّا بنو نضیر فقد خططت إلى نقض الاتفاقیة بعد أن تحمّل النبی و المسلمون الهزیمة الظاهریة فی غزوة أحد، فذهب کعب بن الأشرف (أحد أبرز شخصیاتهم) و معه أربعون رجلاً إلى مکة و التقى بأبی سفیان زعیم المشرکین و اتفقوا على جملة مؤامرات منها محاولة اغتیال النبی (ص) و لکنها فشلت.
فلما عرف النبی (ص) بنقضهم للاتفاقیة، طوّق مناطقهم السکنیة، و بعد أن أسّر الناقضین تنازل عن قتلهم و اکتفى ـ کالقبیلة السابقة ـ بطردهم عن المدینة و سمح لهم أن یأخذوا معهم جزءً من أموالهم[8] و نزلت أغلب آیات سورة الحشر فی شأن هذه القبیلة من الیهود.
3.و أما قبیلة بنو قریظة فقد التحمت عاقبتهم بغزوة الأحزاب أو الخندق[9]، التی انطلقت حینما اتّجهت قبائل متعددة من المشرکین و معهم آلاف الجنود نحو المدینة لیستأصلوا بزعمهم الاسلام. و بعد أن اطّلع النبی (ص) على حرکة العدو، و بعد مشاورة أحد أصحابه سلمان الفارسی حفر حفرة أو خندقاً حول المدینة، و بعد أن وصل جیش العدو إلى الخندق، توقف عن التقدّم و استقرّ خلفه ، و لمّا وجدوا المدینة حصناً لا یمکن الاستحواذ علیه، قرّروا أن یحرّضوا آخر قبیلة یهودیة متبقیة فی المدینة و هی بنو قریظة التی کانت ملتزمة إلى ذلک الیوم بعدها مع النبی (ص).
و قد نجحت خطة المشرکین و نقضت بنو قریظة الاتفاقیة و قاموا باعمال اخلت بامن المدینة و استقرارها من الداخل مما جعل ظروف المسلمین قاسیة و حرجة حیث کانوا یحاربون علی جبهتین، داخلیة و خارجیة، و بسبب هذه الظروف القاسیة ضعفت عقیدة بعض المسلمین و تزلزل موقفهم[10]، و لکن بفضل الله و لطفه و نصرته للمسلمین و تضحیة بعض الشخصیات کأمیر المؤمنین (ع) إضافة ال الامداد الغیبی، کإرسال الریح و الطوفان، رجحت کفة المیزان لصالح المسلمین[11]، و رجع المشرکون من أطراف المدینة إلى أوطانهم دون تحقیق أی هدف معیّن.
و بعد رجوع العدو، قرّر النبی (ص) أن یعاقب الیهود الذین نکثوا عهدهم و تحوّلوا إلى طابور خامس یعمل داخل المدینة لصالح العدو، و لذلک، هجم المسلمون بقیادة أمیر المؤمنین (ع) على دورهم و طوّقوها خمسة و عشرین یوما، حتى أرغموهم على التسلیم، ثم دار بین المعسکرین کلام حول کیفیة التعامل مع الیهود، و فی نهایة المطاف قرّرت الیهود أن یکون سعد بن معاذ حکماً، و هو أیضاً حکم بقتل بعضهم و اسارة بعضهم ، و قد أشار تعالى إلى هذا الموضوع فی القرآن الکریم[12].
کانت هذه إطلالة موجزة على ما مرّ بـ"بنو قریظة"، و لو طابقنا بین ما جاء فی کتب السنة و ما ذکرته کتب الشیعة حولهم نجد أن هناک اختلافاً قلیلاً بین النقلین عن هذه الحادثة، فلا یوجد بین الفریقین الاسلامیین اختلافاً شاسعاً حول اسلوب تعامل النبی مع بنی قریظة و زمان الواقعة، و أساساً لا یوجد داعی للاختلاف حول هذه القضیة.
و أما بالنسبة لمعنى کلمة "بنو قریظة"، فلا جدوى لمعرفة معانی الأعلام (الأشخاص، القبائل، المدن و...) و لکن مع ذلک، یمکن القول إجمالاً بأن کثیرا من القبائل العربیة، کانت تسمى باسم أجدادها و على هذا الأساس، فیمکن أن تکون بنو قریظة تعنی ذریة "قریظة"، و قریظة اسم شجرة لها أوراق أصغر من أوراق شجرة التفاح و تثمر حبات تشبه الجوز و تستعمل أحجاراً للمیزان، و خشب هذه الشجرة أیضاً یستعمل فی صناعة الدباغة[13]، و ربّما لا یوجد شخص باسم (قریظة) و إنما کثرة استعمال هذه الشجرة فی هذه القبیلة کان السبب فی تسمیتها و شهرتها بذلک.
[1]التوبة، 40، (... إذ أخرجه الذین کفروا ثانی اثنین ...).
[2]التوبة، 100.
[3]الحشر، 9.
[4]الحشر، 8.
[5]المجلسی، محمد باقر، بحار الانوار، ج 19، ص 111، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404هـ ق.
[6]المصدر السابق، ج 20، ص 1.
[7]الحشر، 15، "کمثل الذین من قبلهم قریبا ذاقوا وبال أمرهم...".
[8]المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 20، ص 160 ـ 158.
[9]بحار الأنوار، ج 20، من ص 186 إلى آخر الصفحة، تألیف العلامة المجلسی.
[10]الأحزاب، 12ـ 10، (إذ جاؤکم من فوقکم و من أسفل منکم و إذ زاغت الابصار و بلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا...).
[11] الأحزاب، 9.
[12]الاحزاب، 27ـ 26، (و أنزل الذین ظاهروهم من أهل الکتاب من صیاصیهم و...).
[13]ابن منظور، لسان العرب، ج 7، ص 454.