فاذا کانت الاشیاء مخلوقة للانسان فما هی الغایة من وراء خلق الکثیر من الموجودات التی خلقت و اندثرت قبل خلق الانسان بملایین السنیین؟ ثم نحن نعلم بان الانسان موجود فتی بالنسبة الى الأشیاء الأخرى فلماذا سبقته فی خلقها بملایین السنین بل ملیارات السنیین؟
السؤال الآخر الذی یطرح نفسه: هل تم خلق الأرض قبل خلق السماء؟ أو هل الأرض مخلوقة قبل السماء؟ فقد توجد کواکب سیارة أقدم من الأرض فی المجرات السماویة. و بناءً علی ذلک فاذا قارنّا خلق الأرض مع تلک الکواکب فإن الأرض أحدث من الکواکب و المجرات السماویة. کذلک لم یقل أحد من رواد الفضاء بأن السماء تتکوّن من سبع طبقات.
لا یعنی خلق الکون و المخلوقات لأجل الإنسان أن منافعها تنحصر فی الجانب المادی له، و إنما یمثل هذا بعداً من أبعاد القضیة و جانباً من جوانبها المتعددة. بل هناک جانب آخر أهم منه و هو التدبّر و التأمل فی عالم المخلوقات سواء کانت موجودة فعلاً أو انقرضت و زالت من صفحة الوجود، فان ذلک کله یقرب الانسان من الله تعالى و یشکّل رادعاً عن مخالفة الباری و مصعیته.
و نحن نعلم بأن خاصیة التفکر و التدبّر هی من الخواص التی تمیّز الإنسان و انفرد بها عن سائر المخلوقات.
ثم إن العلم الحدیث لا یجد تنافیاً فی القضیة فقد یکون الباری تعالى عندما خلق السماوات و الارض إعتنى بالارض عنایة خاصة فخلق نواتها أوّلا ثم خلق الکواکب و المجرات الأخرى، لکن شکل الارض النهائی و صورتها الأخیرة تم بعد اکمال خلق الکواکب و المجرات؛ و هذا ما یتبادر من خلال الرجوع الى الآیات القرآنیة. أضف الى ذلک أن علماء الفضاء و رواده لم یتمکنوا حتى الیوم الا من تجاوز بعض الکرات القریبة من الارض کالقمر، من هنا هم لا یمتلکون الصلاحیة العلمیة فعلاً للحکم بدقة بان السماء تتکون من سبعة طبقات أو لا.
ینحل السؤال المطروح الی ثلاثة أقسام:
1- هل أن جمیع المخلوقات بما فیها الدیناصورات المنقرضة قد خلقت لأجل الإنسان؟
2- هل یؤکد القرآن أن خلق الارض سابق على خلق سائر المجرات و الکواکب؟ وعلى فرض ذلک هل یتنافی ذلک مع العلم الحدیث؟
3- هل السماء تتکوّن من سبع طبقات؟
نحاول الاجابة عن هذه التساؤلات وفقاً للترتیب المذکور:
1- للجواب عن القسم الأول یجب القول بأن هکذا إبهام لا یحتاج الى کثیر عناء و رجوع الى الماضی السحیق و التحقق منه، بل یوجد فی الوقت الحاضر موجودات نستطیع أن نحکم علیها حسب النظرة الأولیة بأنها عدیمة الفائدة أو مضرة للإنسان کالصراصر و الفئران و سائر الآفات.
بناءً علی ذلک یجب أن لا نتصوّر أن خلق الاشیاء لأجل الإنسان یعنی وجود منافع مادیة فعلیة و أن الانسان یمکنه الاستفادة من جمیعها استفادة مادیة فعلیة مشهودة فی مجال الاکل و الشرب و السکن و الحمل و النقل و ، لان هذه الفائدة غیر ممکن فی الموجودات المنقرضة أولا، و ثانیا نحن نشاهد فعلاً وجود مخلوقات عدیمة الفائدة للانسان بالمعنى المذکور، لکن هذا لا یعنی بحال من الاحوال أنها عدیمة الفائدة بالمرة لان ذلک تفکیر مادی و مخالف لما ورد فی القرآن الکریم.[1]
و عند التأمل فی ما قلناه لا بد من البحث عن الهدف الأساسی الذی تروم الآیة المبارکة بیانه. و لاریب أن الأئمة (ع) هم أفضل المفسّرین فی هذا المجال. و من حسن الحظ أن هناک روایة یقع فی سندها تسعة من الائمة المعصومین و تنتهی الى الإمام أمیر المؤمنین (ع) فسر فیها الآیة المذکورة بالنحو التالی: "و الذی خلق لکم ما فی الأرض جمیعا لتعتبروا به، و لتتوصلوا به إلى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نیرانه".[2]
اضافة الى الآیات القرآنیة الأخرى التی تؤیّد ذلک، منها قوله سبحانه و تعالی "و کأیّن من آیة فی السموات و الأرض یمرون علیها و هم عنها معرضون"[3]
و قد حث القرآن الکریم الانسان على التدبر و التأمل فی تاریخ الاقوام السابقة و الشعوب المنقرضة لنفس هذه الغایة من الاعتبار و الاستفادة من تجاربهم و الاتعاظ بما حل بهم.[4]
و علی هذا لا یمکن القول بأن وجود الکائنات المنقرضة دلیل علی عدم صحة هذه الآیة الشریفة. لأن الناس یستطیعون من خلال التدبّر و التفکّر فی هذه الکائنات الحیة أن یدرکوا مدی عظمة و قدرة الله سبحانه و تعالی فیتقربوا الیه سبحانه و هذا کاف لقوله تعالی "خلق لکم ما فی الأرض جمیعاً".
اضف الی ذلک أن الانسان یمتلک عقلاً مفکراً و ذهناً فعّالاً تفرد به و استطاع من خلالة ان یسخر جمیع الحیوانات له بما فی ذلک وضعها فی اماکن خاصة للنزه و العمل التجاری بل استطاع الانسان ان یجمع عظام الدایناصورات و یعید تشکیلها لیعرض امام انظار الناس وقد کلفه ذلک مبالغ طائلة.
فهل یستطیع کائن حی آخر أن یفعل ما یفعله الإنسان؟ أ لا نستطیع القول بأن الحیوانات التی انقرضت هی الاخری خضعت بشکل و آخر لخدمة الإنسان لتلفت نظرة الی عالم الخلقة و تکون مورد اهتمامه و تأخذ منه حیزاً من التفکیر العلمی و لیتسع البحث و التدقیق فیها؟
و علی هذا الأساس نحن نعتقد بما قال تعالی من اختیار خلق الانسان و تفضیلة وتسخیر السماوات و الارض له.[5] الا ان أصحاب المدارس المادیة یحصرون الأمر فی المنافع العابرة و الزائلة، بل قد یضیفون الیها بعض المنافع فی مجال التحقیقات العلمیة.
و أما الذین یؤمنون بالله و بالیوم الآخر فانهم بالاضافة الی المنافع المذکورة فانهم یرون تلک الاشیاء علامات و آیات لله تعالى و عاملاً مؤثراً فی إیمانهم و یقینهم و معتقدهم، کما قال تعالی "و فی الأرض آیات للموقنین و فی أنفسکم أفلا تبصرون"[6].
2- أما بالنسبة الى کیفیة وجود السماوات و الأرض هناک نظریات مختلفة قد طرحت، لکن هل یصح القول بأن الذی جاء فی القرآن الکریم مخالف لما طرح نظریاً فی عالمنا الیوم؟
لاشک ان الامر لیس کذلک فلم یعرض القرآن الکریم موضوعاً ثبت خلافه.[7]
و من جهة اخری یجب أن نعلم بأن القرآن کتاب هدایة، فلم یدخل فی جزئیات الامور بل یکتفی بعرض الکیات و ترک امر التحقیق فی الجزئیات الى الانسان نفسه هو الذی یبحث و یحقق عن الجزئیات و ان الذی ذکر فی القرآن الکریم عن خلقة السماوات و الأرض لا یکون دلیلاً.علی انه لم تخلق قبل الارض کواکب و مجرّات سماویة و ان الله سبحانه و تعالی خلق الأرض اولا ثم خلق الکواکب الاخری بعدها.
قد یکون سؤالکم منطلقا من قراءة الآیة و العطف بحرف "ثم" فتصورتم ان الامر یدل على الترتیب الزمانی؛ الا أن هذا الفهم للآیة غیر صحیح قطعاً. و ذلک لعدة أمور:
أولاً: صحیح ان العطف بـ "ثم" یدل فی الغلب على الترتیب الزمانی بین المعطوف و المعطوف علیه، لکنه لیس دائماً فقد یکون یصح العکس تأمل فی هذه الآیة الشریفة حیث یقول فیها سبحانه و تعالی "ألم تر الی ربک مدَّ الظل و لو شاء لجعله ساکناً ثم جعلنا الشمس علیه دلیلا".[8]
فی هذه الآیة الشریفة لو قلنا أن معنی "ثم" دالّة علی التأخیر فی الزمان فیجب القول و بحسب منطوق الآیة أنّ الظل قد وجد ثم وجدت بعده الشمس! و من البدیهی إذا لم توجد الشمس فلا وجود للظل. و بناء علی هذا فإن مفردة "ثم" فی الآیة التی ذکرتموها لا تدل علی التأخیر و الترتیب الزمانی فلا تکون دلیلاً علی أن خلق الأرض سابق علی خلق السماوات و کونها مخالفة للعلم الحدیث.
ثانیاً: هناک آیة أخری فی القرآن الکریم صرّحت بأن خلق الأرض و اکمالها کما هی علیه الیوم تم بعد خلق السموات "ءأنتم أشدّ خلقاً أم السماء بنیها ..... و الأرض بعد ذلک دحیها".[9]
نعم، قد ذهب البعض الى أن هذه الآیات متناقضة مع الآیة الأخیرة حیث أن بعضها یشیر الى تقدم خلق الارض و الآخر یشیر الى تأخره؛ لکن هذا التوهم یزول بمجرد الإمعان و التدقیق فی الآیات المبارکات.[10]
من هنا و استناداً الى المطلبین الاول و الثانی لایمکن القطع و الجزم بان القرآن الکریم اعتبر السماوات مخلوقة بعد الأرض.
ثم على فرض أن حرف العطف "ثم" یدل على الترتیب الزمانی و أن خلق السماوات متأخر عن خلق الارض؛ أ لیس من الممکن القول: أن الباری تعالى عندما خلق السماوات و الأرض إعتنى بالارض عنایة خاصة فخلق نواتها أوّلا ثم خلق الکواکب و المجرات الأخرى، لکن شکل الارض النهائی و صورتها الأخیرة تم بعد اکمال خلق الکواکب و المجرات؛ و هذا الاسلوب من الخلق لا یتنافى مع النظریة المسلمة بان المادة و الطاقة یستحیل فناءها معاً بل یبدل بعضها ببعض؟!
3- و أما بالنسبة لسؤالکم الأخیر فیجب القول: مع أن الفلکیین قد اکتشفوا مجرات سماویة تبلغ فواصلها ملیارات السنین الضوئیة، الا انهم لم یتمکنوا أن یصلوا فعلاً الی نهایة الکون و لم یقطعوا بعدم وجود طبقات سماویة أخری وراء ذلک.
کذلک رواد الفضاء استطاعوا أن یصلوا الی القمر الذی لا یبعد عن الأرض أکثر من ثانیة ضوئیة. فأین هذا من ملیارات السنین الضوئیة التی کُشفت و لعلّه هناک فواصل بأضعاف الملیارات غیر مکتشفة لحد الآن؟
بناءً علی هذا مثل هؤلاء لا یملکون الکفاءة العلمیة للحکم فی مثل هکذا قضایا، بل هم لم یدعوا لانفسهم هذه الصلاحیة! أما مفسروا القرآن الکریم فلدیهم نظریات مختلفة من جملتها:
و قد تحدّثنا عن السماوات السبع قبل هذا کثیرا، و إذا کان القصد من العدد «سبعة» الکثرة، فیکون معنى الآیة أنّنا خلقنا فوقکم عوالم کثیرة من النجوم و الکواکب و السیارات، و عبارة الطبقة لا تعنی نظریة «بطلمیوس» الذی صوّرها و کأنّها قشرة بصل الواحدة فوق الأخرى. فإنّ القرآن لم یقصد هذا المعنى أبدا، بل یقصد بالطرائق و الطبقات العوالم التی تحیط بالأرض بفواصل محدّدة، و هی بالنسبة لنا الواحدة فوق الاخرى، بعضها قریب و البعض الآخر بعید عنّا. و إذا کان العدد «سبعة» قد استخدم فی الآیة للتعداد، فتعنی الآیة أنّنا خلقنا ستّة عوالم فوقکم إضافة إلى عالمکم الذی ترونه (مجموعة الثوابت و السیارات و المجرّات)[11].
[1] سورة ص، الآیة 27 "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بینهما باطلاً. ذلک ظن الذین کفروا فویل للذین کفروا من النار".
[2] الشیخ الصدوق، عیون أخبار الرضا(ع)، ج2، ح12، ص29، منشورات جهان، طهران، 1378. وانظر: البرهان فی تفسیر القرآن، ج1، ص: 162.
[3] سورة یوسف، الآیة 105، "و کأین من آیة فی السماوات و الأرض یمرون علیها و هم عنها معرضون".
[4] سورة یوسف، الآیة 9؛ سورة الحج، الآیة 46؛ سورة الروم، الآیة 9؛ سورة فاطر، الآیة 44؛ سورة غافر، الآیة 21و82؛ سورة محمد، الآیة 10 و ...
[5] سؤال 751 یتکلّم بصدد أن الإنسان أشرف المخلوقات. یمکن مطالعته للإستفادة أکثر.
[6] سورة الذاریات، الآیة من 20 الی 21.
[7] یمکن مراجعة الأسئلة أدناه فی مجال کیفیة خلق السماوات و الأرض؛ سؤال رقم 5460 (سایت 5832)، سؤال رقم 3591 (سایت 4203)؛ سؤال رقم 5722 (سایت 6411)؛ سؤال رقم 1052 (سایت 1268)؛ سؤال رقم 2455 (سایت 1653).
[8] سورة الفرقان، الآیة 45.
[9] سورة النازعات، الآیات 27 الی 30.
[10] بمطالعة السؤال رقم 5794 (الموقع: 6465) فی هذا الصدد سوف تحصلون علی معلومات أکثر.
[11] ناصر مکارم الشیرازی، الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج10، ص435،الناشر:مدرسة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام
تاریخ الطبع:1421 هـ، الطبعة الأولى، قم المقدسة.