التصوف مشتق من الصوف، و هو مکتب فکری أسسه مدّعو التطهیر و التزکیة المعنویة و الابتعاد عن لوث الظواهر الدنیویة، و الذی نمت شجرته على مر التاریخ على ید الفرق و الاتجاهات الصوفیة الکثیرة فاصبحت ذات فروع و اغصان کثیرة. فلا یمکن التسلیم بجمیع تعالیم الصوفیة أو ردها کذلک؛ لانها مزیج من السلوکیات الصحیحة التی تستند الى الدین و من البدع الذوقیة التی لا أساس لها من الصحة. هذا الترکیب و المزیج غیر الصحیح صار ذریعة – لشدید الاسف- بید القشریین و السطحیین لاتهام المؤمنین الصالحین الذین یسعون للتزکیة و التطهیر المعنوی القائم على التعالیم الدینیة، بتهمة الصوفیة و الدروشة، و من هؤلاء الذین توجهت لهم سهام الاتهام الامام الخمینی (ره). لکن المتابع لکلماته وسلوکیاته (ره) یکتشف أن الامام فی الوقت الذی کان یؤکد فیه على التطهیر و التزکیة المعنویة کان ینتقد السلوکیات الظاهریة للمتصوفة و بدعهم. من هنا لا یمکن بحال من الاحوال عد هذا العارف الکبیر من ضمن مشایخ الصوفیة أو رجالاتها.
فی البدء یجب أن نعلم بان الدین الاسلامی یسعى لتحقیق سعادة الانسان الدنیویة و الأخرویة معاً، فیمکن للانسان الاستفادة من تعالیم الدین الحنیف و مفاهیمه لتأمین متطلباته المادیة و المعنویة.
فمن یطالع القرآن الکریم یظهر له بوضوح تام أنه فی الوقت الذی یدعو فیه أتباعه للابتعاد عن التعلق بزخارف الدنیا و مغریاتها و یسوقهم نحو المعنویات و السعی للفوز بعالم الآخرة[1]، تراه یحثهم على أن لا یکون ذلک ذریعة لنسیان الدنیا و الانزواء و الرهبانیة و تعطیل الطاقات و إیقاف النشاطات المادیة، بل لابد من استغلال النعم الالهیة و البرکات الالهیة و السعی لتوفیر المتطلبات المادیة فی دائرة الموازین الشرعیة، مع عدم الغفلة عن ذکر الله تعالى[2].
إنطلاق من ذلک یکون المسلم الحقیقی هو ذلک الشخص الذی تحرر من إسار حب الدنیا و شراکها و فی الوقت ذاته لم یحرم نفسه من نعمها المادیة، بل یعتبرها المزرعة التی ینطلق منها الى عالم الآخرة فینال سعادة الدارین معاً[3].
لکن هناک من سلک طریق الافراط أو التفریط فاتخذ جانبا من التعالیم الدینیة غافلاً عن منظومة المفاهیم الدینیة عامة.
فمن الناس من اختار البعد المادی من الدین کاقرار النظام العام، تشکیل الحکومة، النشاطات الزراعیة و التجاریة، التطور العلمی و... و غفل -لا شعوریاً- أن هذه الامور یمکن أن تکون مقدمة لحیاة سعیدة خالدة بل تکون وسیلة لجلب رضا الرب تعالى فتتحول بصورة تلقائیة الى قیمة معنویة.
الا أن هناک طائفة أخرى ذهبت الى الاتجاه المعاکس من الاتجاه الاول حیث تعلقت بالبعد المعنوی و الهروب من الدنیا، و بترکهم النشاطات الضروریة للحیاة الاجتماعیة تراهم یصبحون جنوداً لغیرهم، بل الاعجب من ذلک أن بعض الناس یتخذ التظاهر بالمعنویات و الهروب من المادیة وسیلة لتحصیلها و تأمین میولهم المادیة الدنیویة!
إنطلاقاً مما قلنا نعرج الکلام للاجابة عن السؤال المطروح من خلال البحث فی محورین:
1- باعتبار أن الصوف یعتبر من أزهد انواع اللباس فی القرون الاولى من عمر الرسالة الاسلامیة و ارخصها حیث ترى فی الغالب الطبقات الفقیرة ترتدی ذلک اللباس. فلا محذور اذا کان ارتداؤه لاجل محاربة النفس و التقلیل من شأن الدنیا. من هنا نرى الصحاب الجلیل أبا ذر الغفاری یقول: " جَزَى اللَّهُ الدُّنْیَا عَنِّی مَذَمَّةً بَعْدَ رَغِیفَیْنِ مِنَ الشَّعِیرِ أَتَغَدَّى بِأَحَدِهِمَا وَ أَتَعَشَّى بِالآخَرِ وَ بَعْدَ شَمْلَتَیِ الصُّوفِ أَتَّزِرُ بِإِحْدَاهُمَا وَ أَرْتَدِی بِالأُخْرَى"[4]
یرید أن یقول رضوان الله علیه بانه من الممکن للانسان الاکتفاء بالحد الادنى من النعم فلایبیع دینه بدنیاه، و هذا لا یعنی بحال من الاحوال أنه یحرم الاستفادة من النعم الالهیة؛ لاننا نعلم أنه (ره) حتى فی الایام التی کان فیها مبعدا فی الربذة کان یمتلک غنیمات یسد به رمقه و یتقوت بها هو و عیاله[5].
لکن ظهر فی العصور اللاحقة طائفة أفرطت فی موضوع الزهد و الهروب من الدنیا حیث اعتبروا لبس الصوف علامة على الاسلام، بل وجهوا سهام نقدهم لائمة الدین لانهم لم یسیروا على نفس المنهج الذی اختاروه لانفسهم[6]. بعبارة أخرى: حوّلوا الزهد الحقیقی الذی أوصى به الاسلام الى دکان للمتاجرة و کسب المریدین و الاتباع، فوقعوا فی فخ الدنیا و ما هربوا منه ظاهراً من حیث یشعرون أو لا یشعرون.
لما کان مصطلح "التصوف" مشتق من "الصوف" من هنا- رویداً رویداً- أخذ مصطلح الصوفیة أو المتصوفة یطلق على هذه الطائفة من الناس التی اتخذت من الصوف رداءً لها و الاتجاه الفکری الذی تمتاز به بمکتب "التصوف" و قد اطلقت علیهم فی القرون الأخیرة بعض الاسماء الاخرى من قبیل الدراویش و الخراباتیة و...کما أن هناک مصطلحات أخرى لازمتهم من قبیل الخانقاه الشیخ، الفتوة و...
کذلک ینبغی الالتفات الى أن تعالیم الصوفیة لا تنحصر فی لبس الصوف، بل تطورت الحالة الفکریة عندهم على مر العصور فظهرت فی أوساطهم قوانیین و معاییر سلوکیة خاصة ذکرها مشایخهم و بینوها لاتباعهم و مریدیهم، البعض منها لا یستند الى أی رکیزة دینیة "بدعة"، کذلک هناک سلوکیات یمکن تقییمها على أساس من القرآن و السنة الشریفة، و لکن قد یساء التصرف فی بعض الاعمال ذات المستند الشرعی بحیث تتحول الى بدعة کالتوصیة بالاخلاص أربعین یوماً التی اشارت الیها الروایات الکثیرة[7] و التی کان لها الاثر الکبیر فی حیاة الانسان، لکن الصوفیة حولت هذا المفهوم المهم الى سلوکیة خاصة ذات طقوس معینة قد ینسجم بعضها مع الشریعة أطلق علیها "الاربعینیة". من هنا یکون التصوف خلیطاً مرکباً من سلوکیات شرعیة صحیحة و أمور ذوقیة مبتدعة[8]. الأمر الذی أدى الى أن توسم طائفة من المؤمنین الساعین للعمل وفقاً لاسس الشریعة و تزکیة النفس و تطهیرها من خلال الالتزام بالوصایا الواردة عن الله تعالى و المعصومین (ع)، من قبل بعض القشریین و المنحرفین و تتهم بالتصوف و الدروشة.
انطلاقا من ذلک، نقول: صحیح أن بعض تعالیم الصوفیة و السلوکیات الظاهریة لا تستند الى أساس من الشریعة، لکن هذا لا یعنی رفض تعالیمهم کلها أو القبول بها کذلک؛ بل ینبغی التعامل معها و دراستها بصورة مستقلة لنرى مدى مطابقتها مع الشرع أو عدم مطابقتها، هذا من جهة، و من جهة أخرى لیس من الانصاف أن نوسم کل مسلم یهتم بالبعد المعنوی فی حیاته و یسعى لتهذیب سلوکیاته و تطهیر نفسه بسمة الصوفیة.
2- من المعروف أن الامام الخمینی (ره) کان و منذ صباه مهتماً إهتماماً کبیراً بالجانب المعنوی و تطهیر النفس و قد واصل الطریق على هذا المنهج حتى نهایة عمره الشریف، من هنا نرى فی بعض کلماته و اشعاره ما یشابه عقائد و اصطلاحات الصوفیة، و یشهد بذلک دیوانه الشعری حیث تجد فیه مصطلحات من قبیل: الشیخ، الفتوة، الخانقاه، الصوفی، العشق.[9] فوجود مثل هکذا اشعار و تعبیرات و ان کان یکشف عن المیل الى التصوف ظاهراً؛ لکن من غیر الصحیح التسرع فی الحکم، بل ذلک مجرد اشتراک فی استعمال المصطلح للاشارة الى الواقعیات التی یرید بیانها، من هنا نرى الامام الخمینی (ره) لم یشابه المتصوفة فی سلوکیاته فلم یضع الخرقة على ظهره و لم یسکن الخانقاه و... کذلک ینبغی الالتفات الى کلمات الامام الخمینی (ره) الأخرى و شعره الذی یکشف عن مخالفته لمنهج التصوف[10].
لذلک ینبغی دراسة تلک الاشعار التی یظهر من بعضها الانسجام مع التصوف و من البعض الآخر ذمه لنرى، ما هو موقف الامام (ره) الحقیقی منهم؟
جوابه: کما مر فی القسم الاول ان الامام الخمینی (ره) یؤید تلک الطائفة من التعالیم الصوفیة التی تحث الانسان على تزکیة النفس و تطهیرها و الاهتمام بالجانب المعنوی المنطلقة من مفاهیم الدین الحنیف، و قد کان (ره) یوصی بها:
" لابد ان نؤمن بالمناجاة الالهیة و لا ینبغی انکارها، لا نقل انها طقوس دراویش! ان هذه الامور لها جذور قرآنیة بشکل لطیف و قد ذکرت فی کتب الادعیة المعتبرة الواردة عن ائمة الهدی، فان کل ذلک موجود بنحو لطیف لکن لیس بلطافة ما ورد فی القرآن؛ و أن کل من استفاد من هذه المصطلحات لاحقاً قد اعتمد القرآن و الحدیث من حیث یشعر أو لا یشعر"[11].
فلا یرى الامام مبرراً للهروب من تزکیة النفس و تطهیرها تحت ضغط الخشیة من الاتهام بالتصوف و الصوفیة؛ لکن هذا لا یعنی بحال من الاحوال أنه (ره) یؤید جمیع سلوکیات الصوفیة.
فقد کتب (ره) فی عنفوان شبابه و قبل انتصار الثورة الاسلامیة بعقود من السنین: " لا تسر بلکمات ارباب الصوفیة و العرفان الرسمی؛ و لا تمشی فی طریق ضجیج دعاوى و طامات اصحاب الخرقة".[12] و بقی ملازما لمنهج الاهتمام بالبعد المعنوی الى أخریات سنی حیاته الشریفة حیث ذکر فی وصیته لابنه حجة الاسلام و المسلمین السید أحمد قبل وفاته بسنین قلائل یحثه على التزکیة و التطهیر مضیفا: " ما قلته لا یعنی الابتعاد عن خدمة المجتمع و الانزواء جانباً بحیث تکون کلّا على الناس، إن هذه صفات الجاهلین المتنسکین و الدراویش الذی فتحوا دکاناً للاکتساب من خلالها"[13].
و یقول فی وصیته لزوجة ابنه السید أحمد: انا لا اعنی تطهیر المدعین "فربما تؤدی الخرقة الى النار"[14]، و انما أرید أن لا تنکری أصل المعنى و المعنویات، تلک المعنویات المنطلقة من القرآن الکریم و السنة الشریفة، و مخالفوها إما أنهم قد أهملوها أو خضعوا لتوجیه العوام[15].
فالامام (ره) وقف موقف الناقد لکل من النظریتین الافراطیة و التفریطیة، فجعل المعیار فی القبول أو الرد النوایا و الدواعی الباطنیة لا السلوکیات و الشکل و الشمائل الظاهریة، فعلى سبیل المثال تراه یخاطب ولده أحمد: ولدی! لا انزواء الصوفیة دلیل الحقانیة، و لا الانخراط فی أوساط المجتمع و تشکیل الحکومة یدل على الابتعاد و التخلی عن الحق. المیزان فی العمل الدوافع التی تقف وراءها. فرب عابد زاهد واقع فی شراک ابلیس[16].
فاذا ما شاهدنا فی کلامه ما یستشم منه رائحة التصوف و الدروشة فلا ینبغی اعتبار ذلک مؤشراً على تأییده و دعمه للصوفیة، بل لابد من وضعه فی دائرة الأوامر و النواهی القرآنیة و الحدیثیة و دراسته فی ضمن هذه الدائرة.
[1] انظر: الانعام، 32؛ یونس، 24؛ العنکبوت، 64؛ محمد، 36؛ الحدید، 20 و مئات الایات الاخری
[2] الاعراف، 32؛ البقرة، 168و 172؛ المائدة، 88؛ الانعام، 141؛ الملک، 15 و...
[3] البقرة، 201، "ربنا آتنا فی الدنیا حسنة و فی الآخرة حسنة و قنا عذاب النار".
[4] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج 2، ص 134، ح 17، دار الکتب الإسلامیة، طهران،
365 ش.
[5] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 22، ص 429، ح 37، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ق.
[6] الکافی، ج 5، ص 65، ح 1.
[7] المصدر، ج2، ص16، ح 6.
[8] لمزید الاطلاع على کیفیة ظهور الصوفیة یمکن الرجوع الى کتاب "جستجو در تصوف ایران"
راسة حول التصوف فی ایران، تألیف الدکتور عبدالحسین زرین کوب.
[9] صحیفة الامام، ج 18، ص 444، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی، طهران، 1386 ش، الطبعة الرابعة.
[10] باده عشق، ص 29، ص33، وص55.
[11] صحیفة الامام، ج 17، ص 458.
[12] صحیفة الامام، ج 1، ص 18.
[13] صحیفه الامام، ج 18، ص 511."
[14] هذا مصراع بیت للشاعر الایرانی المعروف حافظ.
[15] صحیفه الامام، ج 18، ص 453.
[16] صحیفه امام، ج 18، ص 512.