صحیح أن وحدة الوجود کانت مطروحة من قبل بعض العرفاء السابقین على ابن عربی، لکن ابن عربی امتاز بتفصل البحث و بسط الکلام فیها اکثر من غیره.
اما بالنسبة الى المراد من وحدة الوجود نقول: إن وحدة الوجود عند ابن عربی و العرفاء لیست وحدة مفهومیة، و انما مرادهم الوحدة الخارجیة التی أدرکها العرفاء من خلال الشهود و المکاشفة. فوفقاً لهذه النظریة الوجود الحقیقی لا یتعدى کونه واحداً فقط هو الوجود المتمثل فی الباری تعالى، و اما غیره فلا یخرج عن کونه تجلیات و تعینان و اعتبارات لذلک الوجود الواحد.
یعتقد ابن عربی أن حقیقة وحدة الوجود "طور فوق طور العقل" تبعث على تحیر العقول فیحتاج ادراکها الى نوع افضل و لا أمل فی تمکن العقل من إدراکها.
اما فی الحکمة المتعالیة فقد صرح الکثیر من العلماء و الباحثین فی هذا الشأن بان الملا صدرا قد تأثر کثیراً بابن عربی فی القول بوحدة الوجود.
لکن الفارق الاساسی بینهما یکمن فی أن ابن عربی کان یؤکد دائماً على أن قضیة وحدة الوجود هی "طور فوق طور العقل"، الا أن الملا صدرا ذهب الى العکس من ذلک حیث کان یرى أن القضیة قابلة للتفسیر الفلسفی، من هنا أقام نظامه الفلسفی على رکیزتی أصالة الوجود و وحدة الوجود.
الجدیر بالذکر أن العرفاء لم ینظروا الى قضیة وحدة الوجود کنظریة فلسفیة محضة بعیدة عن واقع الحیاة، بل یرونها مفتاحاً أساسیاً بل من أهم المفاتیح الکاشفة عن درجة إخلاصهم القصوى فی توحید الله تعالى و کاشفة عن الحیاة التی ملؤها العشق و العرفان الالهی و تجسم الحیاة على أساس وحدة الوجود واقعاً.
إن مذهب العشق فی العرفان الاسلامی إنطلق من قلب هذه النظریة؛ لان السالک لطریق العرفان اذا ما ادرک حقیقة أن کل الاشیاء بما فیها الانسان هی تجلیات للباری تعالى فلا ریب أنه یعشق تلک التجلیات و ظهور الله تعالى فیها، و فی نهایة المطاف سوف یذوب فی ذلک العشق لیصل الى الوجود الحقیقی.
تمثل نظریة وحدة الوجود الرسالة الاساسیة لعرفان ابن عربی حیث تجد الاشارة الیها فی جمیع آثاره و مصنفاته. صحیح هناک من سبق ابن عربی فی الاشارة الى تلک النظریة الا أنه هو اکثر الباحثین إهتماماً بهذه النظریة حیث فصل الکلام فیها بشکل واسع جداً.
اما بالنسبة الى المراد من وحدة الوجود نقول: إن وحدة الوجود عند ابن عربی و العرفاء لیست وحدة مفهومیة، و انما مرادهم الوحدة الخارجیة التی أدرکها العرفاء من خلال الشهود و المکاشفة لا من خلال البراهین و الادلة الفلسفیة.[1]
فوفقاً لهذه النظریة، الوجود الحقیقی لا یتعدى کونه واحداً فقط هو الوجود المتمثل فی الباری تعالى، و اما سائر الاشیاء فلا تخرج عن کونها تعینان و اعتبارات و تجلیات لذلک الوجود الواحد، فهی تجلیات صرفة للباری تعالى و من هنا اکتسبت إعتباریتها.
و قد تکرر هذا المعنى کثیراً فی کلمات ابن عربی، أن: " ما ظهر فی الوجود بالوجود الا الحق فالوجود الحق و هو واحد فلیس ثم شیء هو له مثل".[2] فالوجودات بذاتها فانیة و باطلة و لکنها لما کانت ظهورات للحق اکتسبت وجوداً بالغیر، و قد کان یردد کلمته المشهورة " سبحان من اظهر الاشیاء و هو عینها"[3].
بطبیعة الحال أن مراده هو عین ظهورها لا عین ذاتها، کما بین ذلک فی مکان آخر من کلامه حیث قال: " انه ما ثم شیء من الموجودات و لا عین خارج عنه بل کل صفة تظهر فی العالم لها عین فی جناب الحق و مرتبط به"[4].
یعتقد ابن عربی بأن حقیقة وحدة الوجود أمر عظیم و "طور فوق طور العقل"[5] حیرت العقلاء و یحتاج ادراکها الى معرفة خاصة و وعی أفضل و لا أمل فی أن العقل سیدرک ذلک؛ حیث قال: و لیس عندنا فی العلم الإلهی مسألة أغمض من هذه المسألة فإن الممکنات على مذهب الجماعة ما استفادت من الحق إلا الوجود و ما یدری أحد ما معنى قولهم ما استفادت إلا الوجود إلا من کشف الله عن بصیرته، و أصحاب هذا الإطلاق لا یعرفون معناه على ما هو الأمر علیه فی نفسه، فإنه ما ثم موجود إلا الله تعالى و الممکنات فی حال العدم، فهذا الوجود المستفاد إما أن یکون موجودا و ما هو الله و لا أعیان الممکنات، و إما أن یکون عبارة عن وجود الحق، فإن کان أمرا زائدا ما هو الحق و لا عین الممکنات فلا یخلو أن یکون هذا الوجود موجودا فیکون موصوفا بنفسه و ذلک هو الحق، لأنه قد قام الدلیل على أنه ما ثم وجود أزلا إلا وجود الحق فهو واجب الوجود لنفسه فثبت أنه ما ثم موجود لنفسه غیر الله فقبلت أعیان الممکنات بحقائقها وجود الحق لأنه ما ثم وجود إلا هو.
الی أن قال: فتحریر هذه المسألة عسیر جدا فإن العبارة تقصر عنها و التصور لا یضبطها لسرعة تفلتها و تناقض أحکامها فإنها مثل قوله "وَ ما رَمَیْتَ" فنفى "إِذْ رَمَیْتَ" فأثبت "وَ لکِنَّ الله رَمى" فنفى کون محمد و أثبت نفسه عین محمد و جعل له اسم الله فهذا حکم هذه المسألة بل هو عینها لمن تحقق[6].
ما مر من کلام هو بیان لکلام ابن عربی فی وحدة الوجود التی تعد محوراً للعرفان النظری.
اما النظریة فی الحکمة المتعالیة للملا صدرا فقد إدعى أنه استطاع أن یبرهن علیها و یثبتها فلسفیاً.
و یعتقد الکثیر من کبار العرفاء أن الملا صدرا تاثر کثیراً بابن عربی فی هذه النظریة. و یظهر ذلک جلیا لمن تتبع کلمات الملا صدرا الفلسفیة حیث یراه انه قد انتهى فی قمة حرکته الفلسفیة الى عین ما انتهى الیه العرفاء فی القول بوحدة الوجود، إذ قال: " و برهان هذا الأصل من جملة ما آتانیه ربی من الحکمة بحسب العنایة الأزلیة و جعله قسطی من العلم بفیض فضله و جوده، فکما وفقنی الله تعالى بفضله و رحمته الاطلاع على الهلاک السرمدی و البطلان الأزلی للماهیات الإمکانیة و الأعیان الجوازیة فکذلک هدانی ربی بالبرهان النیر العرشی إلى صراط مستقیم من کون الموجود و الوجود منحصرا فی حقیقة واحدة شخصیة لا شریک له فی الموجودیة الحقیقیة- و لا ثانی له فی العین و لیس فی دار الوجود غیره دیار، و کلما یتراءى فی عالم الوجود أنه غیر الواجب المعبود فإنما هو من ظهورات ذاته و تجلیات صفاته التی هی فی الحقیقة عین ذاته کما صرح به لسان بعض العرفاء.[7]
الا أن الفارق الاساسی بین ابن عربی و الملا صدرا یکمن فی أن ابن عربی إعتبر القول بوحدة الوجود من الامور التی هی فوق العقل و لذلک أکد دائماً على أنها " طور فوق طور العقل"، الا أن الملا صدرا ذهب الى العکس من ذلک و إعتبر القضیة قابلة للبرهنة العقلیة و الاثبات الفلسفی بناء على مبناه الکلی القائم على أساس وحدة " العرفان و القرآن و البرهان".
ثم انه ینبغی الالتفات الى قضیة ضروریة و هی أن الملا صدرا طرح النظریة ببیانین أولی و نهائی. اما البیان الاولی فهو المعروف بـ "الوحدة التشکیکیة للوجود"، و اما البیان النهائی فقد طرحه تحت عنوان "الوحدة الشخصیة للوجود" و قد صرح أن بیانه الاولی یحمل جنبه تعلیمیة و انه مجرد اعداد للذهن لتلقی الرأی النهائی و النظریة الاصلیة حیث قال: و مما یجب أن یعلم أن إثباتنا لمراتب الوجودات المتکثرة و مواضعتنا فی مراتب البحث و التعلیم على تعددها و تکثرها لا ینافی ما نحن بصدده من ذی قبل إن شاء الله من إثبات وحدة الوجود و الموجود ذاتا و حقیقة کما هو مذهب الأولیاء و العرفاء من عظماء أهل الکشف و الیقین و سنقیم البرهان القطعی على أن الوجودات و إن تکثرت و تمایزت إلا أنها من مراتب تعینات الحق الأول و ظهورات نوره و شئونات ذاته لا أنها أمور مستقلة و ذوات منفصل[8].
ثم إن الوحدة التشکیکیة للوجود تعنی: أن الوجود حقیقة واحدة ذات مراتب من الشدة و الضعف، و أن جمیع الموجودات إبتداءً من واجب الوجود و انتهاء بالهیولا (المادة) تتصف بتلک الحقیقة حسب مرتبتها؛ بمعنى أنها جمیعاً مشترکة فی سنخ الوجود لکنها تتمایز فی المرتبة.
توضیح ذلک؛ ان المراتب الضعیفة هی الأخرى تشتمل على حقیقة الوجود، لکن بمرتبة متدنیة.
لکن العرفاء یرفضون تلک النظریة و یعتقدون بوحدة الوجود الشخصیة و أن الوجود الحقیقی ینحصر فی الله تعالى و اما سائر الموجودات فهی مظاهر و تجلیات لذلک الوجود، فهی باطلة فی ذاتها و فانیة لا وجود لها من نفسها.
و من الواضح أن المجال لایسع هنا للتعرض لکیفیة الاستدلال و البحوث المطروحة هنا من قبل الفریقین، و کیف استطاع الملا صدرا التوفیق بینهما فی الحکمة المتعالیة؛ من هنا نحیل القارئ الى مراجعة المصنفات المطولة فی هذا المجال[9].
وعلى کل تقدیر، فقد التقى الملا صدرا فی نهایة المطاف مع ما ذهب الیه ابن عربی و أنه استطاع العبور فی أوج فلسفته، من الوحدة التشکیکیة الى الوحدة الشخصیة التی یقول بها العرفاء.
اتضح مما مر أن وحدة الوجود تمثل اساسیات الفکر العرفانی کما أکدت الحکمة المتعالیة مطابقتها مع کل من القرآن و العرفان و البرهان.
بقی الکلام فی الشق الثانی من السؤال و بیان مدى تأثیر هذه النظریة فی الحیاة و الدور الذی تلعبه فی تحدید العلاقة بین الانسان و بین الباری تعالى و تقریبه منه.
و هنا یجب القول: أن العرفاء طرحوا النظریة باعتبارها المرتبة القصوى من مراتب "التوحید" فعبروا عنها بالتوحید الوجودی؛ و ذلک لان هذه النظریة لا تنفی وجود أی إله غیر الله تعالى فحسب، بل تنفی کل الوجودات الا وجوده سبحانه؛ و هذه قمة التوحید الذی لا یجعل لله شریکا مطلقا حتى على مستوى الوجود.
هنا تتجلى ذروة الاخلاص فی التوحید حیث تکون سائر الموجودات وجودات اعتباریة بما فیها منیت الانسان التی یعتبرها العارف حجابا الحقیقة، حیث یرى العارف وجوده فانیاً فی ظل وجود الله تعالى.
ثم ان العرفاء لم یتعاملوا مع نظریة وحدة الوجود کنظریة فلسفیة محضة بعیدة عن حقیقة الحیاة، بل هم یرونها ممزوجة فی حیاتهم کلها و أن حیاتهم الملیئة بالعش و الوله الالهی هی ثمرة القول بوحدة الوجود و أن مذهب العشق العرفانی منطلق من تلک النظریة؛ و ذلک لان السالک لطریق العرفان عندما یصل الى حقیقة أن العالم بما فیه الانسان و خاصة الانسان الکامل کلها تجلیات لله تعالى، فحینئذ یعشق الظهور الالهی فی الکون فیفنى شاء أم أبى فی ذلک العشق لیصل الى مقام التوحید الشامخ. و بما أن الانسان مظهر السر الالهی فلا بد فی العرفان من البحث عن الله فی سر وجوده، و کما یقول ابن عربی:نحن الصفات و بهذه الصفات نصف الله تعالى و ما وجودنا الا علامات و اشارات على الله تعالى، ان وجود الله ضروری لکی یتحقق لنا وجود و نخرج من العدم، و أن وجودنا ضروری لکی یتجلی الوجود الالهی و یتمظهر[10].
[1] لمزید الاطلاع انظر السؤال رقم 1031( الرقم فی الموقع:1088).
[2] ابن عربی ، الفتوحات المکیة، ج ۲، ص ۵۱۷، دار صادر، بیروت، بلا تاریخ.
[3] الفتوحات المکیة، ج ۲، ص 604، نقلا عن، خواجوی، محمد، خرد نامه صدرا، ص 54، العدد 19، ربیع 1379هـ ش.
[4] الفتوحات المکیة، ج ۲، ص ۴۸۴.
[5] المصدر، ج1، ص289.
[6] المصدر، ج2، ص216.
[7] صدر الدین، محمد الشیرازی (ملاصدرا)، الحکمة المتعالیة فی الاسفار الاربعة، ج ۲، ص ۲۹۲، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، ۱۴۱۰هـ.
[8] الحکمة المتعالیة فی الاسفار الاربعة، ج ۱، ص ۷۱.
[9] لمزید الاطلاع انظر السؤال رقم134 (الرقم فی الموقع:1090).
[10] آنه ماری شیمل، ابعاد عرفانی اسلام"ابعاد العرفان الاسلامی"، ترجمة، عبد الرحیم، گواهی، ص ۴۳۷، نشر فرهنگ اسلامی، طهران، الطبعة الخامسة، ۱۳۷۷هجری شمسی.