يرى العرفاء بان العالم تجل للحق تعالى و تمثل حقيقة الانسان الكامل أسمى مراتب هذا التجلي و الاتحاد مع الاسم الاعظم. و أن الانسان يمثل تلك الحقيقة الاصلية التي سخرت لها السماوات و الارض، و مع ذلك كلّه قد ينحدر الانسان الى اسفل المراتب و أدناها، مما يبعده عن حالته الاصلية مما يلقي بمجموعة من الحجب بينه و بين حقيقة ذاته، و ان أخس تلك المراتب مرتبة النفس الأمارة التي لا ترى الا شهواتها و ميولها و التي ترى نفسها مستقلة استقلالا تاما عن الله تعالى، ثم تأتي من بعدها مرتبة العقل و الروح او القل و السرّ، حيث يرى الانسان نفسه في مقام السرّ عين الربط و الحاجة الى الله تعالى و يزيح عن نفسه توهم الاستقلالية عن الله تعالى، حتى يصل الى مرتبة الفناء الكامل و التحرر التام من الشعور بالاستقلالية.
يتضح من خلال ذلك بان الانسان يعيش اولا حالة الانبهار بالذات و الشعور بالاستقلالية و الانا و لكي يصل الى المراتب السامية و معرفة كنه الحقيقة التي هو عليها لابد من طي مراحل من السير و السلوك و الارتقاء في مراتب العبودية.
و هنا قد يطرح السؤال التالي: ما الحكمة الكامنة في كون الانسان يفتقد في هذه المرتبة – حالته الطبيعية و الاعتيادية- الى تلك المعرفة و أنه يجب عليه السعي في مراتبه الاخرى الى الكمال؟ و لماذا لم يزود الانسان بتلك الخاصية من أول الخلق فتكون المعرفة ملازمة له من بدايات خلقه فيرى نفسه فانيا في الله تعالى و مفتقراً اليه؟
حظي مبحث التجلي بأهمية خاصة في العرفان النظري، و هو المفسر لنظرية وحدة الوجود الشخصية.
يرى العرفاء بان العالم تجل للحق تعالى و تمثل حقيقة الانسان الكامل أسمى مراتب هذا التجلي و الاتحاد مع الاسم الاعظم.[1] من هنا تكون النسبة بين الانسان و بين العالم باعتبار التجلي الالهي من قبيل نسبة الولاية و الخلافة الإلهية على ما سوى الله؛ و ذلك ان الحقيقة الاساسية للانسان هي الروح الالهية التي اودعت في أقرب المخلوقات للخالق عز شأنه و التي تمثل مظهراً و تجلياً تامّاً و جامعا للصفات و الاسماء الحسنى الالهية.[2]
هذان البعدان من ابعاد مسألة التجلي – التجلي في العالم و الانسان= البعد الكوني و البعد المعرفي- يحكيان عن حقيقة واحدة و من هنا يمثل الانسان نسخة او خلاصة للكون كله، و يعد الانسان الكامل قطبَ عالم الامكان.
يتضح - إنطلاقا من هذه الصورة– الانسان تجليا و منزلة- أن الانسان يمثل تلك الحقيقة الاصلية التي سخرت لها السماوات و الارض، و مع ذلك كلّه قد ينحدر الانسان الى اسفل المراتب و أدناها " اسفل السافلين"، كما اشار الى تلك الحقيقة القرآن الكريم في الآيات المباركات" لقد خلقنا الانسان فی احسن تقویم* ثم رددناه اسفل سافلین".[3]
فاذا تسافل الانسان عن حقيقته الاصلية سيكون له و بمقتضى كل مرتبة من المراتب تصور خاص ينسجم مع المرتبة المتدنية التي هو فيها؛ من هنا ينصب إهتمام الانسان و نظره في المرتبة الاولى و في مقام النفس الأمارة، على ظاهر الحياة الدنيوية و لا تتعدى معرفته حدوده ميوله و شهواته؛ و أما مرتبة العقل فهي المرتبة التي ترتبط بدرك اللذائذ الباقية و الخروج عن مراتب الحيوانية؛ و المرتبة الثالثة المتمثلة بمرتبة الروح و هي التي يصل فيها القلب الى مرحلة النورانية و الاطمئنان بحضور الحق تعالى و رؤية جميع الاشياء في ساحة الحق تعالى؛ و المرتبة الأخرى (مقام السرّ) حيث يرى الانسان نفسه عين الربط و الحاجة الى الله تعالى و يزيح عن نفسه توهم الاستقلالية عن الله تعالى.[4] علماً أن جذور توهم الاستقلالية تبقى ملازمة للانسان حتى مع وصوله الى مرتبة السرّ، بل الى مرتبة الفناء، فلا يُتوهم ان الانسان في مراتبه الاولى يدرك عدم استقلاليته و فقره إدراكاً شهودياً، بل قد يرى نفسه مستقلا استقلالا تامّاً.
اتضح من خلال ما مرّ أن الانسان في حركته المعرفية يواجه – بنحو عام- أمرين أساسيين؛ الأنا الاعتباريه و المحدودة و الأنا الحقيقية الالهية. الأنا الاعتبارية لا تتجاوز ادراكات النفس الأمارة و التخيلات النابعة من حبّ الاستقلال الكافرة بحقيقة الوجود، و أما الأنا الحقيقية فانما تُدرك في طيات الباطن، حيث يرى نفسه عين الربط و الحاجة الى الله تعالى و تجلى الربّ في مرآة قلب المؤمن.[5]
انطلاقا من هذا لابد من الالتفات الى حقيقة مهمة و هي ان هذا المقام العرفاني الشامخ و النظر الى الكون نظرة الآيات الالهية و التجليات الربانية و ان الانسان تجل للاسم الاعظم، ليس من الامور التي تدرك في كل مرتبة من المراتب الانسانية من خلال التحليل الفكري حتى مع ايمان صاحبها من الناحية النظرية.
فالانسان المشرك لا يلتفت الى هذه الحقيقة الا في بعض الحالات و يزيح عن نفسه ستار النوم و الغفلة، و كذلك يدرك احيانا – بصورة فطرية- عدميته و يتذكر ميثاق فطرته.[6]
فالانسان عندما يرى - في حالاته الاعتياديه- نفسه مستقلا و مستغنيا عن الله تعالى إنما ذلك وليد المعرفة المتدنية بل الجهل بحقيقة ذاته، فالانسان هنا يفتقد للمعرفة السامية و انه اسير جهله لحقيقة العدم و الاستقلالية و مقام تجلي الله تعالى.
و هنا قد يطرح السؤال التالي: ما الحكمة الكامنة في كون الانسان يفتقد في هذه المرتبة – حالته الطبيعية و الاعتيادية- الى تلك المعرفة و أنه يجب عليه السعي في مراتبه الاخرى الى الكمال؟ و لماذا لم يزود الانسان بتلك الخاصية من أول الخلق فتكون المعرفة ملازمة له من بدايات خلقه فيرى نفسه فانيا في الله تعالى و مفتقراً اليه؟ أ ليس الله قادراً على تزويد الانسان بهذه الخاصية بلا مؤنة امتحان أو ابتلاء فيجعل الانسانَ تجلياً لاسماء و صفاته تعالى و يمنحه كمال الخلافة الالهية هبة و بلا عناء زائد و بلا حاجة الى التكامل السلوكي و المعرفي للوصول الى هذه المقام الرفيع؟!
هذا السؤال يتضمن محتوى الكثير من الاسئلة المشابه التي قد تصاغ بعبارات و جمل مختلفة، و التي اجيب عنها من قبل المدارس و الاتجاهات الفكرية المتعددة كل بحسب نظريته و مبانيه الفكرية.
فقد اجاب المتكلمون من العدلية بان خلق الارض و السماوات و كافة المخلوقات محكوم بقانون العدل و أن عالم الوجود في جميع مراتبه قائم على قانون الاسباب و المسببات و العلة و المعلول، و لا يوجد ما هو شاذ عن مقتضيات الحكمة، فلا مجال للقول بأن القدرة و الفاعلية الالهية خارجة عن قانون الحكمة و مقتضيات الاسباب و المسببات. و هكذا تكامل الانسان فهو الآخر غير شاذ عن هذه القاعدة العامة.
اما التقرير الفلسفي لهذه القضية فقد استند في تحليله لها على بحث "الامكان الاستعدادي". توضيح ذلك: إن الامكان الاستعدادي يمثل أحد الاركان الاصلية لتحقق الممكنات، و من المستحيل ان يتحقق شيء بدونه.
من هنا يكون فعل الفاعل مشروطاً بقبول و استعداد القابل، و أنه يستحيل تأثير و تأثر و فعل و انفعال الممتنع. و بعبارة أخرى: إن توفر الفاعل على خصوصية الفياضية التامة لا يكفي في خروج الشيء من العدم ما لم يكن ذلك الشيء قابلا لتلك الافاضة و العطاء، و ان ظهور كيفية و كمية الفاعل موقوف على ميزان و كم و كيف و قوة و استعداد و قابيلة القابل.[7]
و لكن يمكن الوقوف على عمق هذه المسألة من خلال الغوص في الابحاث العرفانية، و البحث عن الاجابة من خلال طريق "سرّ الاختيار"، بالتقرير التالي:
يرى العرفاء أن نهاية الكمال تكمن في الاتحاد مع نور الحقيقة و تجلي الصفات الالهية و التخلق باخلاق الله تعالى، هذا من جهة، و من جهة أخرى أنا نعلم بان المنهج العرفاني يرى بان الطريق للتلون بلون الحقيقة الربانية ينحصر في التأمل في ماهية العشق، وهذه الصبغة من الاتحاد و التجلي في الواقع ليست الا اتحاد العاشق و المعشوق و العشق، الباعث على التآلف التام في جميع مراتب التجلي و المظهرية.
و على هذا الأساس، اذا كان التجلي الالهي و حسب التعبير الفلسفي عين الربط بالله تعالى و تجاوز الوجود الاعتباري، هو الفناء في المعشوق، فلا معنى حينئذ – بداهة- لهذا الامر من دون الاخذ بنظر الاعتبار البعد الاختياري للانسان، و لا يمكن تصور حدوث الاتحاد في العشق بلا ابتلاء و لا طلب والاكتفاء بالعطاء الصرف و الفعل والتأثير من قبل الباري تعالى من دون توفر جهة الانفعال و التأثر من قبل المتلقي، فإن ذلك ينافي حقيق العشق في جمع المراتب، و ان الله تعالى أقدس من يجبر مخلوقاته على مقام العشق بلا اختيار منها، و هكذا الامر بالنسبة الى خصوصية الخلافة فانها لا تحصل الا عن طريق العشق و الاختيار.
و لكي تتضح الصورة بنحو اوضح لابد من الرجوع الى قصة آدم (ع) و سجود الملائكة له؛ لحمله للروح الالهية و توفره على مقام الخلافة الالهية بالقوة، الا الظهور الكامل لذلك المقام – مقام الخلافة- و ان تكامل المنزلة لم يحصل له الا بعد تعرضه لمجموعة من الاختبارات و الابتلاءات، الأمر الذي يصقل في اعماقه جوهرة العشق الالهية و يظهرها جلية واضحة.
و بعبارة أخرى، صحيح أن الله تعالى قد وهب لآدم مقام الخلافة الخلافة الربانية، إلا انه من المستحيل على الانسان معرفة قيمة و مكانة هذا المقام ما لم يتعرض للابتلاء و الاختبار، و الاطلاع على الجوهرة الالهية الكامنة فيه، و من هنا جاء التعبير القرآني " وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا"[8] و بعد ابتلائه بمنعه من الأكل من الشجرة و تحمل عناء الفراق بينه و بين الله تعالى، لكنه مع ذلك كله استطاع العودة الى ذاته و الرجوع الى مكانته و منزلته حيث استطاع تفعيلها كاملا، و في الختام حظي بالرضا الالهي و الفوز بجنة الخلد التي لا خروج منها بعد العرفان و المعرفة التامة أبداً. هذه هي قصة جميع البشر و الأمر الاساسي فيها يكمن في تلقي فيض الأمانة الالهية و المعرفة الكاملة بهذا المقام، لا انها مجرد قضية موهوبة من الله تعالى بلا عناء و كد؛ و ذلك لان الحكمة الالهية و التقدير الاكمل الرباني منزه عن النقص و العبثية، حيث شاءت الارادة الالهية حصول الانسان على هذه المنزلة باختياره و بعد تعرضه لمجموعة من الابتلاءات و الاختبارات الممحصة، ليعيش الخلافة و الأمانة عن وعي و بينة، و حينئذ تترسخ تلك الصفة في نفسه و لا تزول بحال من الاحوال خلافاً لما لو اعطيت له كهبة و منحة سهلة فانها تكون حينئذ عرضة للزوال و التفريط بها في أي وقت كان، شأنها شأن سائر التجارب الدنيوية الأخرى التي تمر على الانسان ثم تركن في زاوية النسيان و الاهمال. و على كل حال فان معرفة الذات و مكانتها الحقيقة لا تتأتى الا عن طريق اختيار العبد نفسه.
[1] یحیی کبیر، عرفان و معرفت قدسي = العرفان و المعرفة و القدسية، ص 158 ، قم، مطبوعات دیني، الطبعة الاولى، 1386شمسي.
[2] نفس المصدر، ص492.
[3] التين، 4-5.
[4] ذهب العرفاء الى اعتبار توهم الاستقلالية من اقبح الذنوب و الخطايا المعرفية.
[5] «العبودیة جوهرة کنهها الربوبیة».
[6] قال تعالى مشيرا الى هذه الحقيقة: " فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ".العنكبوت،65.
[7] همائي، جلال الدین، مولوي نامه، ج1، ص 547و 548، الطبعة التاسعة، 1376، موسسة نشر هما.
[8] الاحزاب، 72.