لیس عرفان أمیر المؤمنین و الأئمة الأطهار (ع) أمراً مستقلاً عن الإسلام و القرآن، بل هو حقیقة الإسلام و باطن الشریعة. فبهذه الرؤیة یشمل العرفان الحقیقی کل أبعاد حیاة الإنسان الظاهریة و الباطنیة و الفردیة و الاجتماعیة. و لهذا من الصعب جداً أن نفصّل کلام أمیر المؤمنین فی نهج البلاغة و غیره إلى مباحث عرفانیة و غیر عرفانیة. مع أننا نجده یؤکد (ع) على المسائل العرفانیة فی جمیع الحالات؛ إذ أن جمیع المصائب الظاهریة و الباطنیة للبشر تنشأ من فقدان المعرفة، و لم یکن طریق نجاة سوى العرفان الحقیقی و معرفة الله بمعناها الصحیح.
و قد کانت لشخصیة أمیر المؤمنین (ع) بصفته أمام العرفاء التأثیر الأوفر فی تبلور العرفان الإسلامی على مرّ التاریخ، حیث إنّ أکبر العرفاء یعتبرونه قطب العرفاء جمیعاً، و کان هذا التأثیر موجوداً قبل أن یؤلّف نهج البلاغة.
مع هذا إن نهج البلاغة باعتباره منبعاً فوّاراً و عیناً منهمرة بالأبحاث العرفانیة فی بعدیها النظری و العملی، قد لفت أنظار الکثیر من المحققین و بما أن نهج البلاغة مملوء بالمواعظ التی تقلع جذور حب الدنیا، و من هنا توقظ مطالعته الإنسان و تلهمه الزهد و الورع و ترک معصیة الله التی تعتبر مقدمة واجبة للخوض فی العرفان.
لقد حاولنا فی الجواب عن هذا السؤال أن نتناول مختلف جوانبه بشکل منطقی منتظم، فنقدّمه ضمن هذه الأقسام الثلاثة:
1ـ عرفان الأئمة (ع)
إن عرفان الأئمة فی کلمة واحدة، هو باطن شریعة الإسلام و یقوم على أساس شخصیة أئمة أهل البیت (ع)، و الإمامة فی ذاتها، هی مقام الإنسان الکامل الذی هو مظهر أسماء الله و صفاته. إن عرفان الأئمة أفضل مدرسة إلهیة، حیث یغطی جمیع أبعاد الحیاة، و الصراط المستقیم فی سیر و سلوک الإنسان هو الوصول إلى کمال خلافة الله.
إذا أردنا أن نمیز بین عرفان الأئمة و غیره من المدارس العرفانیة المزیفة أو الناقصة، حسبنا أن نعلم ما هی الأمور التی لیست من عرفان الأئمة (ع)؟ إن عرفان أهل البیت قائم على أساس المعرفة و العشق. و مع أنه قد ظهرت على ید هذه المدرسة الکثیر من الکرامات و الأمور الخارقة للعادة إلا أنها لم تجعل هذه الأمور هدفاً لها قط و لم تستغل تلک المکانة استغلالاً سیئاً. و لهذا لم یعر أئمتنا أی اهتمام لمدارس الدجالین بل و اجهوها بکل حزم و قوّة.
المَعْلَم الآخر الذی هو أصل أساسی فی عرفان أهل البیت، هو إتحاد الشریعة و الطریقة و الحقیقة؛ یعنی یعتبر هذا العرفان باطن هذه الشریعة و کمالها. فتظهر فی هذا العرفان حقیقة الأحکام و العبادات و تزداد غنى و عمقاً؛ لا أن توضع الشریعة على جانب بلا أی قیمة عملیة، و یباح کل حرام و یحلل کل فسق بذریعة العرفان.
و کذلک عرفان أهل البیت هو عرفان مسؤولیة و جهاد و یحمل رسالة أکبر بکثیر للمجتمع. و أوج هذا العرفان هو مقام الشهادة، و العارف الذی استلهم عرفانه من أنوار الأئمة (ع) هو فی الحقیقة شهید حی.
أما من الناحیة الإثباتیة، فلا یمکن البحث عن العرفان الأصیل المتفرع من عرفان أهل البیت (ع) فی هذا المجال، و إنما یمکن إعطاء طریق لبدایة صحیحة فی الوصول إلى العرفان، و هناک الکثیر من العرفاء الکبار قد تناولوا هذه الأبحاث. و أما فی البعد العملی فالحاجة ماسة الى التلمذ على ید عارف کامل استطاع طی مراحل العرفان بنجاح إنطالاقاً من مدرسة أهل البیت، و یعد هذا الشرط أصلاً اساسیاً فی هذا المیدان.
2. العرفاء و أمیر المؤمنین (ع)
مع أن نهج البلاغة بحر غزیر بالعرفان، لکن تأثیر أمیر المؤمنین (ع) فی العرفان، کان سببه شخصیته و روحه العرفانیة. و هناک الکثیر من کلمات أمیر المؤمنین (ع) العرفانیة لم تنقل فی نهج البلاغة.
فعلى سبیل المثال لم نر فی نهج البلاغة جواب أمیر المؤمنین (ع) لسؤال کمیل حینما سأله عن الحقیقة، ذلک الکلام المدهش فی الأبحاث العرفانیة. ولم ینقل بسبب کونه لیس من خطب الأمیر فی نهج البلاغة. و کذلک دعاء کمیل و غیره من المناجاة و الأدعیة التی هی عیون منهمرة وفیّاضة بالعرفان الإسلامی.
إذن لابد من الالتفات الى حقیقة مهمة و هی أن نهج البلاغة لایمثل کل تراث الامام (ع) ولم یضم فی طیاته الا قسماً من خطب أمیر المؤمنین (ع) و أکثرها تصب فی إنذار و توعیة قومٍ لم یتحملوا عدالته! فضلاً من أن ینجذبوا إلى شخصیته العرفانیة. مع هذا قد کشف الإمام عن بعض مقاماته العرفانیة إتماماً للحجة على الجمیع. لکن على مرّ التاریخ لم تألف و تجمع الأبحاث العرفانیة إلا قلیلا و ذلک بسبب المعارضة الشدیدة لهذه الأبحاث أو التقیة، و من هنا نرى أولئک العرفاء و المحدثین الذین جمعوا هذه الأبحاث العرفانیة الراقیة حول أمیر المؤمنین (ع) قد اتهموا بالغلو و غیره من التهم. إذن لابد من الالتفات إلى هذا المسار التأریخی کمقدمة للتحقیق فی عرفان أمیر المؤمنین (ع).
لقد جرت سنّة جمیع الأئمة (ع) على أن یکون لکل واحد منهم صاحب سر یسرّوا لهم بعض المعارف الخاصة، الأمر الذی کان له تأثیر عملی کبیر فی ظهور العرفان الإسلامی، حیث إن الأکثریة الساحقة من الفرق العرفانیة تنتسب فی نهایة المطاف إلى أحد هؤلاء.[1]
إذن مع أن نهج البلاغة معدن عظیم من العرفان و المعرفة، و قد لفت أنظار الکثیر على مر التأریخ، إلا أن تأثر العرفاء بأمیر المؤمنین (ع) یعود الى ما قبل تألیف نهج البلاغة، و کذلک بعد تألیفه لم یقتصر هذا التأثر على نهج البلاغة. لقد کان ابن العربی متأثراً بمقامات أمیر المؤمنین (ع) الباطنیة و کان یعتبره سرّ الأنبیاء.[2] کما أن الإمام نفسه قد تحدث عن ذلک فی روایة معروفة خاطب بها سلمان و قال: "إنه لا یستکمل أحد الایمان حتى یعرفنی کنه معرفتی بالنورانیة فاذا عرفنی بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للایمان و شرح صدره للاسلام و صار عارفاً مستبصراً، و من قصر عن معرفة ذلک فهو شاک و مرتاب .... معرفتی بالنورانیة معرفة الله عزوجل و معرفة الله عزوجل معرفتی بالنورانیة و هو الدین الخالص"[3] و تعتبر من الروایات المفصلة فی مجال العرفان الإسلامی.
العارف المشهور، جلال الدین الرومی کان یعتقد أن "شمس تبریزی" هو تجل لأمیر المؤمنین (ع) و بإشارته (ع) لاقى المولوی. و یشیر إلى هذا المعنى فی عدید من أبیاته:
یا سلطان ملوک خلق الله مولانا علی
یا قرة عین عاشقی الله مولانا علی
أقدم علینا یا شمس تبریزٍ ولا تجر علینا و لا تجفنا[4]
و قد اشتهرت هذه الأبیات عنه حیث قال:
لم یکن هذا من الکفر و قول الکفر غیره
ما زال وما دام وجود الکون، کان علیا
سرّ العالمین من الظاهر والباطن
شمس تبریز الحق التی ظهرت کانت علیاً[5]
و کذا العطار النیشابوری نقل خطبة أمیر المؤمنین (ع) عن ابن العباس و فیه مضامین مشابهة فی حق الإمام (ع):
وقد روى البعض لنا حکایة
عن ابن عباس و ما الروایة
بأن هذا القائد اللیث البطل
رأیته یخطب فی حرب الجمل
یکلم الکفار عن صفاته
یذیب قلبهم بمکرماته
فقال إنی ملک العالمین
و کهف کل الناس فی الخافقین
إنی ظهور الأول و الآخر
إنی شعاع للإله القادر
أنا السلطان فی ذا الکائنات
و فی طوعی جمیع الممکنات[6]
إن عطار النیسابوری فی أکثر کتبه و خاصة فی کتاب "مظهر العجائب" الذی یدعی أنه صنفه بإشارة من أمیر المؤمنین (ع) ذکر أبحاثاً عمیقة فی تبیین العرفان الإسلامی و تعتبر أبحاثاً باطنبة فی الإمامة.
إن رؤیة العرفاء لأمیر المؤمنین (ع) و تأثرهم بشخصیته أمر أوسع من النقل و الکتاب و التحقیق و نحن اکتفینا بذکر مسائل عن هؤلاء العرفاء الثلاثة العظام یعنی ابن العربی و العطار و المولوی. و إلا فلا یحصى عدد العرفاء الذین أشاروا إلى هذه الحقیقة بالتصریح أو بالتلویح.
نحن نعلم أن أمیر المؤمنین (ع) لم یجد مجالا لیظهر هذه المعارف و لم یشعر الناس فی ذلک العصر بحاجة لهذه المعارف، بل حتى لم یطیقوا عدالته الظاهریة، لکن هذه الروح العظیمة الإلهیة کانت حاضرة فی کل عصر لم تنفک عن إشعاع نورها، و کل العرفاء سواء عن طریق النقل و العلم الحصولی أم عن الطریق الروحی و الباطنی أم عن طریق السلوک و الطریقة ینتسبون إلى تعالیم هذا الإنسان العظیم.
3ـ نهج البلاغة و العرفان
لقد نقلت أحادیث کثیرة عن أمیر المؤمنین (ع) فی الأبحاث العرفانیة و قد ذکرت بعضها فی نهج البلاغة. طبعا لابد من التنبیه على هذه النکتة و هی أن التفکیک بین الأبحاث العرفانیة و غیرها من الأبحاث الدینیة أمر لا أصل له فی مدرسة أهل البیت؛ لأن هذا العرفان یشمل کل أبعاد الدین من الظاهر و الباطن و الشریعة و الطریقة و الحقیقة. مع هذا رعایة لرؤیة المخاطب، یمکن أن نرى کلمات المعصومین ذات مراتب و درجات متعددة، و بهذه الرؤیة، سوف تکون کلماتهم و أبحاثهم فی موضوع معرفة الله و طریقة الوصول إلیه أی الأبحاث العرفانیة ذات قدر و إمتیاز خاص.
إن نهج البلاغة من أوله إلى آخره مملوء بالمواعظ التی تقلع جذور حب الدنیا و تلهم الزهد و الورع و ترک معصیة الله، و تعتبر مقدمة واجبة للعرفان، و بالإضافة إلى ذلک هناک الکثیر من الأبحاث العرفانیة الدقیقة فی باب التوحید و معرفة الله و المعاد و القیامة و غیرها فی نهج البلاغة. و منها الخطبة الأولى من نهج البلاغة التی هی أروع بیان عرفانی فی باب التوحید و تعتبر فصل الخطاب فی الأبحاث التوحید العرفانی.
للتعرف على نماذج من کلمات أمیر المؤمنین فی نهج البلاغة فی باب العرفان النظری و العملی، یمکنک أن تراجع فی هذا الموقع سؤال 6709 (الموقع: 6913) تحت عنوان العرفان النظری و العملی فی نهج البلاغة.
[1] المطهری، مرتضی، آشنایی با علوم اسلامی، بخش عرفان.
[2] قال: سر الانبیاء و امام العالم، شرح فصوص الحکم، محمد داوود قیصری رومی، ص54، انتشارات علمی فرهنگی، الأولى، 1375هـ ش
[3] بحار الانوار، ج26، ص1
[4] کلیات شمس تبریزی، ص1188، مطبعة سپهر ، طهران
[5] قمشه اى، محمد رضا، رساله اى درباره ولایت، ذیل فص شیثى.
[6] عطار نیشابوری، سی فصل، ص 22، الطبعة القدیمة.