کان الله عالما بمستوى تفکیر و عقیدة الناس بعد وفاة الرسول الأعظم، و لهذا أبلغ أن محمداً (ص) خاتم النبیین. هنا إذا آمن إنسان بمقتضى فهمه و استنباطه من القرآن الذی بین یدیه بوحدة الله سبحانه و نبوة الأنبیاء و الآیات الإلهیة و ملائکة السماء و المعاد و حاول أن یطبق ما جاء فی القرآن من الأمر بالصلاة و الزکاة و الخیرات و… و عاش حیاة الأخیار و الصلحاء و تاب إلى الله عما قد ارتکبه من ظلم و آثام و عوّض عنها بالعمل الصالح و اتخذ کلام الله فصل الخطاب فی حیاته، إلا أنه لم یبال بعقائد أصحاب الرسول بعد وفاته و ما وقع بینهم من حروب و صلح و شجار و کلام متناقض و نزاعات! فعلى أساس صریح آیات القرآن، هل هذا الإنسان قد أسلم لأمر الله أم لا؟ و هل یحسب فی عداد من أشیر إلیهم فی آیات 60 إلى 63 من سورة مریم و الآیات المشابهة لها أم لا؟
أرجوا أن تجیبونی بإجابة صریحة موجزة. إن کان جوابکم النفی بمعنى أن الله قد کلف هؤلاء المؤمنین بتکلیف آخر فاذکروا مصدره القرآنی.
بالنسبة إلى سؤالکم نقول: إن عمل أناس بما علموا و خطوا خطاهم فی سبیل معرفة الحق بما وسعهم، لکنهم لم یخرجوا بنتیجة عامة وقطعیة فی جمیع المسائل الخلافیة، فلا شک فی أنه سوف لا تهمل أعمالهم الصالحة بلا ثواب و سوف تشملهم رحمة الله الواسعة.
إن مطالعة جواب 7202 (الموقع: 5788) قد یزیح کثیرا من قلقکم فی هذا الشأن. لکن لابد من الإشارة إلى هذه القضیة و هی أن المسلم المسؤول لا یستطیع أن یتملص من أعباء التحقیق بذریعة أنی قد نصبت کتاب الله دلیلا لفعلی و لا دخل لی بسائر الأمور. لإن:
1ـ صحیح أن القرآن قد نزل من أجل فهم و هدایة کافة الناس، و للجمیع أن یستفیضوا من معارفه و علومه بحسب استیعابهم، لکن هناک مسائل و قضایا دقیقة تفسیریة تحتاج إلى مراجعة ذوی الاختصاص.[1]
2ـ لم تذکر کل الجزئیات و التفاصیل کعدد رکعات الصلاة فی القرآن حتى یتأتى الاستغناء عن باقی مصادر الإسلام و على رأسها أحادیث العترة و أهل بیت النبوة (ص) حیث أشار النبی إلیهم فی حدیث الثقلین کأحد المصادر المهمة لمعرفة تعالیم الإسلام.[2]
3ـ من تعالیم القرآن الکریم هو التحقیق و السؤال من الآخرین فی ما نجهله و لا نعلم به.[3]
إذن لا یمکن أن یکون الإنسان ملتزما بأحکام القرآن، و من جهة أخرى یمتنع عن التحقیق و التفکیر فی مجهولات یرتکز علیها دین المسلم و عقیدته.
4ـ من خلال الآیات 59 و ما بعدها من سورة مریم التی أشرت إلیها فی سؤالک،[4] نکتشف أن أصحاب أنبیاء بنی إسرائیل قد انقسموا إلى فئتین؛ واحدة أتباع الشهوات و الأخرى الصالحون. و واضح أن أیّ إنسان فی ذلک الزمان، إن یدع التحقیق و تطبیق مصادیق الخلاف على تعالیم الأنبیاء، قد یقع فی فخ الفئة الأولى بأسالیبها و تبریراتها المطلیة بظواهر الدین و بالتالی ینحرف عن الصراط المستقیم.
و لم یعدم هذا الاحتمال الآن و لا نستطیع أن نرسم صورة دقیقة عن معتقداتنا من دون دراسة الخلافات الموجودة.
5ـ لا یخفى أن أحد أولى الأسباب فی ظهور هذه الخلافات المؤسفة التی حدثت بعد حیاة الرسول (ص)، هو موقف بعض الصحابة فی منع النبی (ص) عن کتابة وصیته حیث قالوا: "حسبنا کتاب الله!"[5]
إن قبول هذا الاستدلال حرم المسلمین من الاستفادة الکاملة من سنة النبی (ص) و من سنة باقی الأئمة.
و لا ینبغی أن نکرر هذا الخطأ مرة أخرى!
و فی الختام نقول: ان عنوان المسلم یصدق على الانسان بمجرد نطقه بالشهادتین، و تجری علیه الاحکام الظاهریة للاسلام من قبیل الطهارة و احترام دمه و ماله و عرضه و.... و اما اهماله لقضیة النزاع فان کان مجرد الاهمال التاریخی للقضیة لایرید الخوض فی القضایا التاریخیة فهذا لایضر باسلامه و لا یضر بتشیعه ان کان قد اتخد من اهل البیت (ع) مرجعا له بعد الرسول (ص) و حجة على العباد و ذلک لانه لم یقل احد من الفقهاء او الائمة بوجود قراءة التاریخ و الخوض فی قضایا النزاع و الخصام بین الصحابة؛ و ان کان قد اهمل هذا الامر (مرجعیة اهل البیت) ایضا فیصدق علیه عنوان المسلم و لکن لایصدق علیه عنوان الشیعی.
[1] راجع فی هذا الخصوص سؤال 5144 (الموقع: 5370).
[2] "انی تارک فیکم الثقلین کتاب الله و عترتی..."، وهذه الروایة مما اتفق علیها جمیع الفرق الإسلامیة. راجع: سؤال 6921 (الموقع: 7359).
[3] نحل، 43؛ انبیاء، 7؛ حجرات، 6؛ نجم، 28 و ... .
[4] "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ یَلْقَوْنَ غَیًّا. إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ...".
[5] صحیح البخاری، ج 5، ص 138-137، دار الفکر، بیروت، 1401 هـ ق.