ورد الکلام فی کثیر من الآیات القرآنیة عن الختم على قلوب و أبصار و أسماع الکافرین و المنافقین و إضلال أصحاب المعاصی و الذنوب و الخاسرین.
(الختم) و (الطبع) بمعنى الانتهاء، والختام و نهایة الأشیاء ختامها وتشکیل الاشیاء بشکل خاص.
(القلب): تارة یراد بهذا اللفظ (القلب الجسمانی) و تارة یراد به القلب الروحانی المعنوی الذی یمثل الروح و النفس و...
(القلب الروحانی والمعنوی)
الختم و الطبع الإلهی على القلوب (الروحانیة الباطنیة) لبعض الناس بمعنى عدم قبولها الهدایة و انغلاقها عن الفهم و إدراک المعارف الإلهیة و عدم الرجوع إلى الخیر و الصلاح.
و طبع الله على قلوب و أسماع و أبصار عدد من الناس هو نتیجة لأعمالهم الاختیاریة و بعد التحذیرات الإلهیة المتکررة، و عدم اعتنائهم بهذه التحذیرات و الإنذارات، و على الرغم من الختم و الطبع على قلوب و أسماع و أبصار هؤلاء، و لکن هذا الختم و الطبع و إغلاق القلوب و تبدیل خصوصیاتها له درجات و مراتب مختلفة، فإذا استوعبت ظلمة الذنوب و المعاصی و العناد و... تمام القلب و أحاطت به، فلا یمکن أن یثوب إلى الهدایة و یرجع إلى الخیر و الصلاح، وهذا لایعنی أن الرجوع إلى الهدایة و الاستنارة اصبح أمراً محالاً و غیر ممکن، بل بإلامکان التحول و التغیر الى وقت الإشراف على الموت، أی أن هؤلاء لا یکونون مسلوبی الإرادة و الاختیار، فبإمکانهم أن یستمروا فی طریقتهم و سیرتهم التی هم علیها، و بإمکانهم و من خلال الإرادة و العزم ـ و إن کان من الصعوبة بمکان ـ أن یغیروا طریقهم و یبدلوا سلوکهم، و یلزموا طریق الهدایة، و ینتفعوا بالتعالیم الإلهیة لیبلغوا السعادة و الفلاح فی نهایة الأمر.
و بعبارة أخرى: فإن قلب الإنسان ینال من الختم و الطبع و التبدل بقدر تلوثه بالذنوب و المعاصی و بمیزان ما یحیط به من رین و صدأ، و بالقدر نفسه یطاله الحرمان من فهم الآیات الإلهیة و الاستفادة من الهدایة و النور الإلهی.
کما أن الطبع على القلوب و إغلاقها لا یختص بالکفار و المنافقین فقط.
قبل الإجابة عن السؤال نستفید من متابعة معانی و مفاهیم آیتین من آیات القرآن الکریم.
1ـ {إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا یُؤْمِنُونَ}.[1]
2ـ {وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا یَعْلَمُونَ}.[2]
معنى (الختم) و (الطبع) و (القلب).
(الختم): یقابل (الفتح) و الفتح یعنی توسعة الشیء و نشره، و الختم یأتی بمعنى نهایة الشیء و بلوغه منتهاه، و السر فی قولهم (ختمت الرسالة) بمعنى أنها بلغت نهایتها فأغلقت و لا یمکن أن یضاف إلیها شیء آخر.[3]
(الطبع): معناه مقارب لمعنى الختم (ویعنی نقش الأشیاء و طبعها بشکل خاص و معین) کسکّ النقود و الدراهم.[4]
(القلب): ورد القلب فی القرآن الکریم بعدة معانٍ مختلفة، مثل الروح و النفس، و العقل و العلم و ...[5]، ولکنه من الممکن أن یقال بأن الإنسان یمتلک نوعین من القلوب: قلب جسمانی، و قلب روحانی (معنوی)[6]، فالقلب الجسمانی هو العضو المعروف فی علم الفسلجة و کذلک المخاطبات العرفیة، وهو العضو اللحمی الصنوبری الشکل الذی یؤدی وظیفته فی الجسم المتمثلة بتصفیة الدم و ضخه إلى کافة أنحاء الجسم، و یقع عند أغلب أبناء البشر فی الجانب الأیسر من القفص الصدری.
أما القلب الروحانی فالمراد به روح الإنسان و نفسه.[7] وما ورد فی الخطاب القرآنی و لسان الروایات و مصطلح الأخلاقیین و أهل العرفان من لفظ القلب فإن المراد به هو المعنى الثانی، حیث یعتبر من القنوات الهامة فی تلقی الإلهام و الوحی الإلهیین و کسب المعارف و شهود تجلیات الحق تعالى، کما أنه منبع العواطف و الأحاسیس و المشاعر، و تنبثق منه النوایا الحسنة و الإرادة الطاهرة و الهمم العالیة بالنسبة للإنسان.
وقد ذکر وجه الاشتراک بین الاستعمالین على النحو الآتی: فالقلب فی اللغة یعنی التغیر و التقلب و التحول، وحیث أن عمل القلب العضوی هو دفع الدم و تحویله و قلبه و دورانه لذلک سموه (قلباً) و کذلک القلب بالمعنى الآخر (المعنوی) و ذلک أن عواطف الإنسان و نوایاه و مشاعره و طلباته هی فی حال تبدل و تحول وتقلب دائم لذلک سمی منبعها و محلها قلباً.[8]
الختم و الطبع الإلهی على القلوب:
وردت عدة تعابیر و صیغ فی القرآن الکریم بخصوص عدم قبول الهدایة و إغلاق القلوب و إقفالها بالنسبة إلى الکافرین و المنافقین و المعاندین، و من أمثلة تلک التعبیرات: الختم، الطبع، الصرف، القفل، المرض، الرین و....[9]
و من الطبیعی أن إقفال القلوب و إغلاقها و تغیرها لا یقتصر على الکافرین و المنافقین و إنما ینال قلب کل إنسان من الإقفال و الطبع و الختم بالقدر الذی یکتسبه من تلوثه بالذنوب و المعاصی و الصدأ و الرین، و بنفس المقدار و المیزان یکون محروماً من الهدایة و فهم الآیات الإلهیة.[10]
و على هذا الأساس فالمراد من الطبع و الختم على القلوب هو إقفال هذه القناة من قنوات تلقی الفهم و الإیمان و المعارف و الإلهام الإلهی، و یتضح هذا المعنى من خلال متابعة الروایة التالیة:
یروی زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال: « مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَ فِی قَلْبِهِ نُکْتَةٌ بَیْضَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِی النُّکْتَةِ نُکْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِکَ السَّوَادُ وَ إِنْ تَمَادَى فِی الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِکَ السَّوَادُ حَتَّى یُغَطِّیَ الْبَیَاضَ فَإِذَا غَطَّى الْبَیَاضَ لَمْ یَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَیْرٍ أَبَداً وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ : {کَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا کَانُوا یَکْسِبُونَ}»[11]، [12].فإن الله سبحانه یقول: لیس قولنا من قبیل الأساطیر و الأکاذیب حتى یعرضوا عنه، و إنما علة إعراضهم بسبب ما ران على قلوبهم مما کانوا یکسبونه، فسلب منهم القابلیة على الفهم و قبول الهدایة.
و قد أشارت الآیات القرآنیة الکریمة إلى العوامل التی تؤدی إلى صدأ القلوب و ازدیاد الرین علیها، و ذکرت عدة أمور تنتهی بالقلب إلى الطبع و الختم و الإقفال و من أهمها: الکفر[13]، الغفلة الدائمة و التغافل[14]، الفسق و نقض العهود[15]، الحماقة و تحریف کلام الله[16]، إتباع الهوى و مخالفة العلم[17]، قطع الرحم و الفساد فی الأرض.[18]
و على هذا الأساس فإن الموانع و الحجابات التی تضرب على القلب و السمع و البصر هی نتیجة لأعمال الإنسان الاختیاریة، و إن الختم و الطبع الإلهی هو جزاء و لیس أمراً ابتدائیاً، لأن العلاقة بین أعمال الإنسان و نوایاه و أفکاره و النتائج و الثمار المترتبة علیها علاقة ضروریة و حتمیة و لا یمکن التخلص منها و الإفلات من قبضتها.
و أما نسبتها إلى الله فذلک لأن علاقة العلیة و المعلولیة بین أفعال الإنسان و أفکاره و نوایاه و النتائج المترتبة علیها هی من قضاء الله و قدره الحتمی الذی لا یتغیر. إلا بتأثیر عامل آخر مثل: التوبة، أو التنبهات و الألطاف الإلهیة، أو البلایا و المصائب، أو تأثیر صاحب نفس إلهیة کأمثال أولیاء الله تترک أثرها فی النفس فتتحول بشکل تدریجی، و ینقشع عن قلبه الرین و الصدأ فیعود إلى طبیعته و قابلیته على تلقی الهدایة التی تفاض علیه.
وبعبارة أخرى: فإن قضاء الله و قدره لا یعنی وجود شیء وراء القوانین التی تحکم عالم الوجود وضرورة وجود المعلول إثر وجود علته التامة، و فی میدان أفعال الإنسان الاختیاریة، فإن إرادته و قصده و نیته تعتبر من أهم أجزاء العلل التامة بالنسبة إلى إیجاد أفعاله الإرادیة، و عندما یصدر فعل عن الإنسان فإنه لا بد و أن یترک آثاراً على روحه و نفسه و هذه الآثار و النتائج حتمیة ولا یمکن التخلص منها بأی حال من الأحوال، و من هنا فإذا مهد الإنسان الأرضیة لموجبات الطبع و الختم فإنه سوف یقع فی أسر النتائج و الآثار المترتبة علیها بحکم قوانین الوجود و الأنظمة التی تحکمه.
و بلحاظ ما تقدم، صار من المعلوم ما یلی:
1ـ إن الطبع و الختم على القلوب هو نتیجة لأعمال الإنسان الاختیاریة.
2ـ إن نسبة الختم و الطبع إلى الله تعالى مترتبة على أساس نظام القضاء و القدر الإلهی.
3ـ إن الإنسان الذی یمتلأ قلبه بالرین و الصدأ من الممکن بالنسبة له أن یکرر أعماله السابقة، فیزداد الصدأ و الرین على قلبه شیئاً فشیئاً، ولکن هذا الاستمرار و الدوام یکون باختیاره و إرادته.
4ـ أن العودة إلى الطریق الصحیح فی غایة الصعوبة بالنسبة إلى الشخص الذی یغلف قلبه الرین و الصدأ بسبب کثرة المعاصی و الذنوب و هو أمر مستبعد،[19] و لکنه لیس محالاً، و إن إمکانه موجود دائماً، فباستطاعته و من خلال اختیاره و إرادته و عزمه الراسخ أن یجد و یسعى من أجل إزالة صدأ القلب.[20]
بعبارة اخرى: ان قلب و نفس الکافر و المنافق و ... قد طبع علیه و ختم و غمرته الظلمة و السواد إلى حد لم یبق فیه نقطة بیاض یمکن أن یتلقى من خلالها بصیص نور الهدایة و الخیر فذلک ما عبر عنه القرآن الکریم بالمیئوس منه، فلا أمل و لا سبیل إلى هدایته.[21]و لکنه بسوء اختیاره انحرف عن مسیر الهدایة و طریق الصلاح و السبیل النیر، فأغلق باب التوبة بوجهه بسوء أعماله.
المصادر:
1ـ جوادی الآملی، عبد الله، مراحل اخلاق در قرآن" مراحل الأخلاق فی القرآن الکریم"، منشورات الإسراء، الطبعة 3، 1379 قم.
2ـ جوادی الآملی، عبد الله، مبادى اخلاق در قرآن" مبادئ الأخلاق فی القرآن الکریم"، منشورات الإسراء، الطبعة 3، 1379 قم.
3ـ الموسوی الخمینی، روح الله، شرح الأربعین حدیثا، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی قدس سره، الطبعة 12، 1376، طهران.
4ـ مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن" معارف القرآن"، فی طریق الحق، الطبعة 2، 1368 قم.
5ـ التفاسیر المختلفة للآیات التالیة: البقرة: 74 و 88، الأنعام: 25، الأعراف: 101، محمد: 24، الجاثیة: 23، المطففین: 14، الزمر: 12، المائدة: 3.
[1] البقرة، 7؛ انظر: الآیات، الأنعام، 46؛ الجاثیة، 23؛ الشورى، 24.
[2] التوبة، 93؛ انظر: الآیات، التوبة، 87؛ النساء، 155؛ النحل، 108؛ محمد، 16؛ الأعراف، 100؛ یونس، 74؛ و ...
[3] انظر: جوادی آملی، عبد الله، تفسیر تسنیم "تفسیر التسنیم"، ج2، ص223. و ما بعدها؛ مجمع البیان، ج1، ص129؛ تفسیر نمونه" التفسیر الأمثل"، ج1، ص53.
[4] انظر: الراغب الأصفهانی، معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة طبع و ختم؛ مجمع البیان، ج1، ص129.
[5] تفسیر نمونه "التفسیر الأمثل"، ج1، ص 54؛ معجم مفردات القرآن، مادة قلب؛ المیزان، ج2، ص223 و 224؛ مجمع البیان، ج1، ص130.
[6]انظر: جوادی الآملی، عبد الله، تفسیر تسنیم" تفسیر التسنیم"، ج2، ص227 و 228.
[7] الشهید المطهری، مرتضى، تفسیر سوره ی حمد "فسیر سورة الحمد"، ص79.
[8] انظر: مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق در قرآن "الأخلاق فی القرآن": ج1، ص 226 ـ 250.
[9] انظر: تفسیر تسنیم" تفسیر التسنیم"، ج2، ص 227.
[10] نفس المصدر، ص234.
[11] المطففین، 14.
[12] أصول الکافی،ج1، کتاب الإیمان و الکفر، باب الذنوب، ح13 و 20.
[13] البقرة، 88.
[14] الأعراف، 179.
[15] الأعراف، 102، المائدة: 13.
[16] البقرة، 67 ـ 74.
[17] الجاثیة، 23.
[18] محمد، 22.
[19] احتمال أن العبارة فی قول الإمام الباقر: (لم یرجع صاحبه إلى خیر أبدا) التی وردت فی الروایة المذکورة إشارة إلى صعوبة الأمر و شدته.
[20] انظر: جوادی الآملی، عبد الله، مبادئ الأخلاق فی القرآن، ص 83 ـ 103.
[21] انظر: آشنایى با قرآن" التعرف على القرآن"، تفسیر سورة محمد، ص 79.