لقد استعمل القرآن الکریم تعابیر متنوعة فی خلقة الإنسان و مبدأ تکوینه. إن بعض الآیات قد اعتبرت "الطین" المادة الأولیة للإنسان، و هناک مجموعة من الآیات تقول بأنه قد خلق من "ماء"، و هناک آیات أخرى قد اعتبرت منشأ خلقة الإنسان "النطفة" فقط، بید أن هناک آیات أخرى اعتبرت "التراب و النطفة" سویة المادة الأولى لخلقة الإنسان.
و فی المجموع، ما یستفاد بوضوح من هذه الآیات هی أن الإنسان فی بدایة الأمر کان ترابا،[i] ثم عجن بالماء و أصبح طینا،[ii] بعد ذلک صار طینا منتنا[iii]، ثم أصبح بشکل طین لازب،[iv] و بعد ذلک أصبح طینا یابسا بشکل صلصال کالفخار،[v] و فی نهایة الأمر نفخ فیه الروح.
و لکن بالنسبة إلى خلقة الکائنات الحیة بما تشمل النباتات و الحیوانات هناک فرضیتان بین علماء العلوم الطبیعیة: أـ فرضیة التطور و تبدل الأنواع ب ـ فرضیة ثبوت الأنواع
تقول نظریة التطور و تبدل الأنواع: لم تخلق جمیع الکائنات الحیة بطریقة مستقلة، بل قد تطورت بشکل تدریجی و تغیرت من نوع إلى نوع آخر. و إن أکمل حلقة هذا التطور هی الإنسان المعاصر. هذه، نظریة تطور الأنواع. أما نظریة ثبوت الأنواع فتقول بأن أنواع الحیوانات قد ظهرت منذ البدایة بنفس شکلها الحالی و لم یتبدل نوع إلى نوع آخر.
أما بالنسبة إلى الإنسان فمع أن القرآن قد تطرق إلى موضوع خلقته بإجمال و غموض، و لم یکن بصدد بیان تکامل الأنواع أو ثبوتها بشکل مباشر، بید أن ظاهر الآیات ـ فی خصوص الإنسان بالتأکید ـ أکثر انسجاما مع نظریة الخلقة المستقلة، و إن کانت لیست صریحة تماما.
إن کلمة الإنسان من مادة "الإنس"، باعتبار أن الإنسان یأنس بکل شیء و لهذا یقال: إن الإنسان مدنی بالطبع، إذ أن روح الأنس و الاستئناس قویة فی الإنسان. أو تکون من مادة "نسیان" و أصله "إنسیان"، باعتبار أن الإنسان أهل النسیان فسمی إنسانا. و هناک روایة رویت عن الإمام الصادق (ع) بهذا المضمون أنه "على أنه قد فرض منذ البدایة على أدم أن لا یقرب الشجرة و لکن سرعان ما نسی و اقترب منها…"[1]
لقد استعمل القرآن تعابیر مختلفة بالنسبة إلى خلقة الإنسان و مبدأ تکوینه ما یحکی عن تعدد مراحل خلقة الإنسان.
أ. مجموعة من الروایات قد اعتبرت المادة الأولى للإنسان هی "الطین".[2]
ب. و تقول مجموعة أخرى: بأنه خلق من ماء. [3]
ج. و تعتبر آیات أخرى أن منشأ خلق الإنسان هو "النطفة".[4]
د. و فی عدد آخر من الآیات ذکر "التراب و النطفة" سویة کالمادة الأولى لتکوین الإنسان. [5]
و بالنسبة إلى معنى هذه الآیات هناک رأیان:
1ـ إن هذه الآیات قد استعرضت خلقة کل واحد من الناس بشکل مستقل: فخلق الإنسان من التراب، بمعنى تبدل التراب إلى المواد الغذائیة و ثم تبدل المواد الغذائیة إلى نطفة، إذن التراب هو مبدأ النطفة و النطفة هی مبدأ الإنسان. یعنی أن التراب هو المبدأ البعید للإنسان و النطفة مبدأه القریب.
2ـ باعتبار أن خلقة النبی آدم من التراب و تنتهی خلقة جمیع الناس إلى النبی آدم، إذن فمبدأ خلقة آدم هو فی الواقع مبدأ خلقة جمیع الناس.
إذن و إن کان ظاهر القرآن مختلف فی خلقة الإنسان من بعض الجهات، و لکن بأدنى تأمل و عنایة یتضح عدم اختلاف آیات القرآن فی هذا المجال، إذ تطرقت بعض الآیات إلى الخلقة الأولى للإنسان أی خلقة النبی آدم.
و من الواضح أنه عندما یتضح مبدأ الإنسان الأول، سیتضح مبدأ وجود جمیع الناس أیضا من الناحیة التاریخیة؛ فإذا قلنا بأن النبی آدم قد خلق من الطین، صحّ أن نقول خلق جمیع الناس من التراب. هذا باعتبار.
و باعتبار آخر یلاحظ جمیع الناس بشکل مستقل. طبعا لا ینفی هذا الاعتبار، الاعتبار الأول؛ یعنی إذا قلنا إنه خلق کلّ إنسان من النطفة و النطفة تعود إلى المواد الغذائیة و جمیع المواد الغذائیة من لحوم الحیوانات و الفواکه و الأشجار و المواد المعدنیة کلها تعود إلى الأرض، إذن نستطیع أن نعتبر التراب هو المبدأ الأول لکل إنسان، بغض النظر عن إمکان اعتبار التراب مبدأ على أساس خلقة الإنسان الأول. و لهذا نجد أن بعض الآیات تکلمت عن آدم فقط. [6] و لکن یمکن للبعض الآخر أن تکون شاملة لجمیع الناس. یقول الله سبحانه: (ِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ و نَفَخْتُ فیهِ مِنْ رُوحی فَقَعُوا لَهُ ساجِدین)[7] کما قال فی آیة أخرى: (ِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون * فَإِذا سَوَّیْتُهُ و نَفَخْتُ فیهِ مِنْ رُوحی…)[8] لا شک فی أن الله هنا یطرح قصة خلقة آدم و امتناع إبلیس عن السجود له، و لا یمکن أن نفسر کلمة البشر بجمیع الناس؛ إذ فی ذیل هذه القصة ینقل الله سبحانه کلام الشیطان حیث قال: (لأحتنکنّ ذرّیته…)[9] فإذا کان قصده جمیع الناس، لم یتکلم الشیطان عن ذریّته.
إن بعض الآیات التی تتصف بالشمول و الکلیّة و التی عنت بخلقة جمیع الناس عبارة عن: (وَ هُوَ الَّذی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرا…)[10] و (فَلْیَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِق) [11]
تقول هذه الآیات و نظائرها إن الإنسان خلق من الماء و النطفة و …، و قد لوحظ فی هذه الآیات خلقة جمیع الناس بشکل عام.
على أی حال، ما یستنبط من مختلف آیات القرآن و بأنواع تعابیرها فی موضوع خلقة الإنسان هی أن الإنسان فی بدایة الأمر کان ترابا،[12] ثم عجن بالماء و أصبح طینا،[13] بعد ذلک صار طینا منتنا[14]، ثم أصبح بشکل طین لازب،[15] و بعد ذلک أصبح طینا یابسا بشکل صلصال کالفخار.
فی أن کلا من هذه المراحل کم استغرقت من الزمان و ما هی ظروف و عوامل هذه الحالات الانتقالیة فهی من المسائل التی لا یصلها علمنا و مما لا یعرفها إلا الله تعالى.
و جدیر بالذکر أن القرآن الکریم قد ذکر خلقة الإنسان بإجمال و إبهام؛ إذ أن هدف القرآن الأصیل هو بیان المسائل التربویة و القرآن لیس کتابا فی العلوم الطبیعیة، بل کتاب بناء الإنسان و لا ینبغی أن نتوقع منه أن یشرح تفاصیل هذه العلوم من قبیل مسائل التطور و التشریح و علوم معرفة الجنین و …، و لکن هذا لا یمنع من تطرّقه الموجز إلى بعض أقسام العلوم بتناسب أبحاثه التربویة.
و هناک فرضیتان بین علماء العلوم الطبیعیة حول خلقة الکائنات الحیة أعم من النباتات و الحیوانات.
أ: فرضیة تطور الأنواع التی تقول بأن الکائنات الحیة لم تکن بشکلها الحالی من الأول، بل فی البدایة کانت أولیات وحیدة الخلایا حیث تکونت فی المحیطات و بین رواسب البحار إثر طفرة؛ یعنی بعد أن مرّت الکائنات المیتة فی ظروف خاصة، وجدت من بینها الخلایا الحیة الأولیة.
ثم تطورت هذه الکائنات الحیة المجهریة و تبدلت من نوع إلى نوع آخر. إلى أن انتهت حلقة التکامل إلى الإنسان الفعلی الذی وجد من تطور حیوانات من قبیل القردة و من بعدها القردة الشبیهة بالإنسان.
ب: فرضیة ثبوت الأنواع التی تقول بأن الکائنات قد ظهرت بشکل منفصل و مستقل بنفس شکلها الحالی، و لم یتبدل نوع إلى نوع آخر. و کذلک الإنسان قد خلق بشکل مستقل و قد خلق بنفس هذا الشکل.
یبدو من ظاهر القرآن أن خلق النبی آدم فی البدایة کان من طین من حمأ مسنون و بعد اکتمال جسمه، نفخ فیه الروح الإلهی و بعد ذلک سجد له الملائکة إلا إبلیس. إن أسلوب هذه الآیات یدلّ على عدم وجود أنواع أخرى بین خلقة آدم من التراب و بین تکوّن هذه الصورة الحالیة.
النتیجة هی أن آیات القرآن و إن لم تکن بصدد بیان قضیة تطور الأنواع أو ثبوتها، و لکن ظاهر الآیات فی خصوص الإنسان أکثر انسجاما مع الخلق المستقل، و إن لم تکن صریحة کاملا، و لکن ظاهر آیات خلق آدم، تصبّ فی الخلق المستقل.
و فی الختام لا بأس ببیان هذه المسألة و هی أن من خلال آیات القرآن نکتشف بکل وضوح أن الإنسان قد خلق من شیئین مختلفین؛ أحدهما فی غایة العظمة و الرفعة و الثانی فی أدنى مراتب القیمة و الثمن. الجانب المادی فی الإنسان یتمثل بالطین المنتن أو الحمأ المسنون، و الجانب المعنوی یتمثل بروح الله سبحانه.
الأمر المهم هو أن المادة الأولى فی الإنسان مادة لا قیمة لها و هی من أخس الموادّ على الأرض، و لکن صنع الله سبحانه من هذه المادة التی لا قیمة لها مخلوقا ذات قیمة عالیة حیث أصبح على رأس عالم الوجود کله.
للحصول على المزید راجع:
1ـ المیزات، العلامة الطباطبائی، المجلد الرابع و السابع عشر.
2. تفسیر الأمثل، المجلد الثامن، ص 71 فما بعد و مجلد السابع عشر.
3ـ راهنما شناسی؛ للعلامة محمد تقی مصباح یزدی.
4ـ پژوهشی در اعجاز علمی قرآن، ج2، محمد علی رضایی، ص429ـ 564.
5ـ خلقت انسان، ید الله سحابی.
6ـ علل الشرائع، صدوق، ج15، باب 11.
[2] - الأنعام،1 ؛ السجدة، 7؛ الصافات،18.
[3] - الفرقان،54 ؛ الطارق،6.
[4]- النحل،4 ؛ یس،77 ؛ الدهر، 2؛ عبس، 19 و ...
[5]- الحج،5؛ الغافر، 67 ؛ الفاطر،11؛ الکهف،37.
[6]- الصاد،72؛ الحجر،29.
[7]- الصاد، 71ـ 72.
[8]- الحجر،29.
[9]- الإسراء،62.
[10]- الفرقان، 54.
[11]- الطارق،5 و 6.
[12]- الحج، 5 .
[13]ـالأنعام،2.
[14]- الحجر، 28.
[15]- الصافات، 11.