توجد قوتان عظیمتان فی ترکیب الإنسان (العقل و العشق) و لکل واحدة من هذه القوى دور کبیر و فعال فی حیاة الإنسان، فالعقل مثله کالمصباح الشدید النور الذی یشع بنوره لیکشف الانحناءات و الانعطافات التی توجد فی الطریق الذی یسلکه الإنسان فی حیاته و هو بمثابة الآلة الحاسبة حیث یهتم بالأرقام و جمعها و تقسیمها و الموازنة بین الربح و الخسارة، و لیس له دور وراء ذلک.
(والعقل المدبر) لیس هو من سنخ الجذب و المیل (المیل و التصور) و إنما یتعهد و یتکفل بتنظیم المیول الموجودة لدى الإنسان.
(العشق) هو المیل و الانجذاب الموجود فی طبیعة الإنسان بالنسبة إلى الأشیاء الأخرى.
(الإیمان) هو الإذعان القلبی و التسلیم الروحی الذی یکون تحققه الواقعی فی ظل تحقق العنصرین معاً أی عشق القلب و إقناع العقل.
و حینما یوضع (القلب) مقابل (العقل) فی العرف العام و فی أدبیات العرفاء فالمراد بالعقل هنا هو العقل الجزئی لا العقل الکلی. ولکن عندما نرجع إلى الآیات القرآنیة نجد أن القلب فی الاصطلاح القرآنی هو مرکز الإدراکات الحصولیة و الحضوریة، و هو مرکز للعواطف أیضاً، فالمراد بالقلب إذاً هو النفس و الروح الإنسانیة التی تعتبر منشأ حیاة الإنسان لا الحیاة الحیوانیة و النباتیة. والمراد من (القلب) عندما یوضع مقابل (العقل) هو هذا البعد من روح الإنسان الذی تنشأ منه الإدراکات الشهودیة و الحضوریة و العواطف و الحب.
یرجع سلوک الإنسان و أعماله المختلفة المتنوعة إلى عدة مرجعیات و مؤثرات و قوى کامنة فی داخله، فتارة یتحرک بدافع الغریزة و متطلباتها کما هو الحال فی تناول الطعام و شرب الماء و... و تارة ینطلق على أساس إیحاء الروح و تأثیراتها کالخوف و التوجس و ...... و تارة أخرى یتحرک بدافع میوله الإنسانیة الراقیة من قبیل البحث عن الحقیقة و طلب الکمال و المیل إلى الفضائل و مکارم الأخلاق، و فی بعض الأوقات یتحرک الإنسان على أساس عواطفه و مشاعره التی تکون إیجابیة تارة کالود و المحبة و تارة سلبیة کالحسد و البغض و الحقد.[1] و قد جاء التعبیر بالنفس عن منشأ و منبع مطلق هذه المیول فی الخطاب القرآنی و لسان الروایات.[2] و یمکن أن توصف النفس بعدة أوصاف طبقاً للظروف و الحالات التی تواجهها، و الأعمال المتنوعة التی تمارسها، و الفوائد المتفاوتة التی تتلقاها، فتارة (أمّارة) و تارة (لوّامة) و أخرى (مطمئنة).
و أما سلوک النفس و انسیاقها وراء الغرائز من دون التفکیر بالنتائج و العواقب المترتبة على ذلک فیسمى (هوى النفس).
یوجد منشآن نفسیان لأفعال الإنسان الاختیاریة: 1ـ المعرفة والنظر. 2ـ المیول و الرغبات، أحدهما یلعب دور کشف الواقع من خلال تسلیط الأضواء علیه. و الآخر یمثل المحرک و الباعث الذی یدفع الإنسان إلى القیام بالعمل و إنجازه.
(العقل) قوة أودعت فی النفس و لکنها لیست من سنخ المیول و الرغبات، العقل مصباح مضیء و وسیلة للحساب و میزان توزن به الأعمال، لمعرفة إلى أی مدی یکون تأثیر هذا العمل أو ذاک على حیاتنا المستقبلیة و مصیرنا فی الحیاة الأخرى.
و المیول التی توجد فی النفس یکون قسم منها مورد إمضاء العقل و موازینه و معاییره تأییده بعد أن یتم الکشف عنها تحت تأثیر أضوائه الکاشفة و توزن فیه ، و أما القسم الآخر من المیول فتسعى الى ان تماس کل طریق لإرضائها وتحقیق مرادها و إن کان ذلک الطریق لا یتسق مع معطیات العقل و هدایته و إیحاءاته.[3]
و على کل حال فللعقل نوعان من المعطیات: تارة تکون أحکامه فی دائرة الموجود و اللاموجود، و تارة فی دائرة ما ینبغی و ما لا ینبغی، ففی الحقل الأول یسمى العقل (بالعقل النظری) و أما الثانی فهو (العقل العملی) و العقل النظری یتکفل فی سعیه ـ فی میدان العلم ـ بتشخیص حدود الوهم و الخیال حتى لا یقع الإنسان فی ورطة المغالطة بالنسبة إلى المسائل العلمیة. و أما العقل العملی فمیدانه الإشراف على الخصال الأخلاقیة و السلوکیة لتنظیمها، و بعبارة أخرى تنظیم المیول و الرغبات و المتطلبات، و یطلقون على هذا العقل اسماً یتناسب مع طبیعة العمل الذی یؤدیه. فقد أطلقوا علیه عنوان (العقل المدبر) یقول الشهید المطهری رحمه الله: إن للإنسان نوعین من القدرات و الإمکانات التی لا یتمتع بها غیره من الأحیاء.
1ـ توجد فی الإنسان سلسلة من المیول و الرغبات المعنویة مثل الشعور الأخلاقی و الإحساس بالجمال و الحب والصداقة و الحاجة إلى التعبد وشعور حب الاطلاع والمعرفة و هذا ما لا یوجد فی سائر الأحیاء الأخرى، و هذه الخاصیة تمنح الإنسان إمکانیة توسعة دائرة نشاطه وأفعاله إلى ما هو أبعد من حدود المادیات، و تحلّق به إلى آفاق المعنویات الرحبة.
2ـ إن الإنسان مجهز بقوة العقل و الإرادة، فالعقل یتولى دور التشخیص و للإرادة دور التنفیذ، فلا بد للإنسان من وجود قدرة على الحساب و التقییم و الترجیح بین الأعمال التی یجد فی نفسه المیل باتجاهها، و الأخرى التی لا یرغب فی ممارستها و فی نهایة الأمر ما یأخذ و ما یدع.
و إنّ بُعد النظر و التفکیر بالعواقب و المآل کل ذلک یتطلب وجود مثل هذه القوة القادرة على إنجاز کل ذلک، و کذلک بإمکان الإنسان أن یستفید من قدرة المحاسبة و الوقوف بوجه المیول الداخلیة و مقاومتها. و علیه فبإمکان الإنسان أن لا یترک مصیره بید القوى الخارجیة فهو قادر على تحریر نفسه من قبضة المؤثرات و المغریات من حوله فیمتلک أزمة أموره بیده، و یتمتع بالحریة المعنویة، و فی ذلک یکون هو الحاکم على میوله و رغباته.[4]
و یقول فی مکان آخر: إن اللذات تشخصها الغریزة و الطبیعة و أما المصلحة فیشخصها العقل، فاللذة تثیر المیول و المصلحة تحرک الإرادة، فالإنسان یدبر أموره و یدیرها عن طریق العقل و الإرادة، فی حین تکون أعماله الالتذاذیة على أساس الأحاسیس و المیول. و معنى کون الأعمال التدبیریة بواسطة العقل؛ هو أن العقل المدبر و القادر على حساب الأمور و زنتها یرى أن الخیر و الکمال أو اللذة بعیدة عن متناول الید و أن طریق الوصول إلیها بعید و عسیر، فالعقل یکتشف هذه القضیة ثم یضع الخطط و البرامج للحصول على هذه الغایات. و معنى أن یتم التنفیذ عن طریق الإرادة هو: إن هناک قوة داخل الإنسان لها ارتباط بقوة العقل یکون دورها إجراء و تنفیذ ما یصوبه العقل و یقره، و فی بعض الأحیان تنفذ الإرادة ما یصوبه العقل خلافاً لکل المیول و الرغبات الطبیعیة، و مثال ذلک الشخص المریض الذی منع من تناول الغذاء المفضل بالنسبة إلیه و تناول الدواء الشدید المرارة، فإنه لا بد من تنفیذ هذین الأمرین طبقاً لما یأمر به العقل بغض النظر عن مخالفتهما لمیوله و رغباته الطبیعیة، و ذلک اتفاقاً مع أحکام العقل الذی یشخص المصلحة و الإرادة التی تنفذ أحکام العقل و تکون حاکمة على المیول.
ومن الممکن القول: إذا وضعت النشاطات التدبیریة، و الممارسات الإلتذاذیة ضمن برنامج مدروس و شامل لإدارة شؤون الحیاة و تنظیمها، فسوف نجد أن الطبیعة تطابق العقل و المیل یطابق الإرادة.
و من جهة أخرى: فإن الإنسان ـ شاء أم أبى ـ یحتاج إلى وضع برنامج و خطة شاملة بالنسبة لتدبیر أموره و یحدد منهجه و اختیار وسائله من أجل الوصول إلى أهدافه و مقاصده لأن النشاط و العمل التدبیری یجب أن ینتظم فی محور سلسلة من الأهداف و الغایات و المقاصد البعیدة المنال، و یدور فی هذا الفلک، و لا بد أن لا یکون هذا النشاط و هذه الفعالیة فی تضاد و تنافٍ مع المیول الإنسانیة العلیا و إلا لکان أکثر خطراً من المیول الالتذاذیة الحیوانیة.
و من جهة ثالثة: من المسلم أن العقل لا یمتلک القدرة على وضع برنامج و خطة واسعة و شاملة تؤمن السعادة للإنسان فی کافة مناحی الحیاة و على صعید جمیع أبعاده و توجهاته و حالاته، و ذلک بسبب عدم إحاطة العقل بکافة المصالح التی تعتمد علیها شؤون الحیاة.
و من هنا برزت الحاجة إلى (الأیدولوجیة) المذهب، فآفاق الوحی هی القادرة على استیعاب الخطوط الأساسیة و الأصول العامة و تحدید الطریق المفضی إلى سعادة الإنسان لتنتظم حرکة العقل و العلم و الإرادة فی سیاق هذه الخطوط و القواعد. فارتباط الفرد بالأیدولوجیة یکون واقعیاً فی الوقت الذی یتلبس فیه بصفة الإیمان و الاعتقاد. فالأیدولوجیة الفاعلة والعملیة لابد أن تکون معتمدة على نظریة للمعرفة بالنسبة للکون و الوجود حتى تتمکن من إقناع العقل و إمداده و تغذیته، و من جهة أخرى لابد و أن تکون للأیدولوجیة القدرة على استنتاج الأهداف على أساس نظرتها إلى الکون و بشکل منطقی لتکتسب صفة القبول التی تضفی علیها الجاذبیة و الحسن، و فی هذه الحالة یضع کلاًّ من(الإقناع) و (العشق) یداً بید ـ و هما العنصران الأساسیان ـ من أجل بناء العالم.[5]
و من هنا یمکن تعریف الإیمان بالقول: الإیمان هو عبارة عن التصدیق و الإذعان القلبی و هو نوع صفة و حالة نفسانیة بالنسبة لأمر ما، وهی تختلف مع صرف المعرفة و العلم.[6] و محل تحقق الإیمان هو النفس و القلب، و مع أنه تترتب علیه آثار قولیة و فعلیة، و لکن حقیقته لا تتوقف على القول و العمل، و لذلک فالنسبة بین الإسلام و الإیمان هی نسبة العام إلى الخاص مطلقاً، بمعنى أن کل مؤمن هو مسلم، و لکن من الممکن أن یکون بعض المسلمین یسلمون للحق فی الظاهر إلاّ أنهم لیسوا بمؤمنین.[7]
الإیمان، عمل ینبع من القلب و یعد من أفعال القلب الاختیاریة، و یختلف عن العلم و العقیدة، لأن العلم و العقیدة یحصلان من دون اختیار و إنما یحصلان تبعاً لمجموعة من المقدمات و المبادئ الخاصة بهما.[8] و الإیمان هو تسلیم القلب، و لا یتحقق إلاّ حینما یعرض القلب عن التوجه إلى أی وجهة أخرى. فالإیمان هو قبول حقیقة ما و التزام العمل بها، و لیس من مقولة العلم و الفهم، فالعلم له ارتباط بالذهن، و الإیمان عمل القلب، و من المسلّم أن العلم یمهد الأرضیة إلى الإیمان و هو شرط لازم بالنسبة إلیه.[9]
یقول الشهید المطهری فی معرض التفریق بین العلم و الإیمان: العلم یمنحنا الوضوح و الرؤیا و القدرة، و الإیمان یهبنا الحب و الأمل و الحمیمیة، فالعلم یصنع الوسائل، و الإیمان یحدد الأهداف و المقاصد، العلم یؤمّن السرعة، و الإیمان یشیر إلى الجهة، العلم هو القدرة، و الإیمان یطلب الخیر و الحسن، العلم یُظهر و یُجسّد ما هو موجود، و الإیمان یوحی ویلهم ما ینبغی عمله، العلم یوسع وجود الانسان بصورة افقیة و الایمان یوسعها بصورة عمودیة ای یخلق حالة العروج لدی الانسان،العلم زینة العقل و جماله، و الإیمان زینة الروح و جمالها، العلم جمال الفکر، و الإیمان جمال الأحاسیس و المشاعر[10].
و أما معنى (العشق) فی کتب اللغة: (العشق) بمعنى الحب الشدید[11] و یقال أنه مشتق من (العَشَقَة) و العَشَق هو نوع من الشجر یلتف على الشجر المجاور له و یخنقه و یضیق علیه و یحبس علیه طرق التنفس مما یتسبب فی ذبوله و اصفراره.[12]
و فی خصوص عشاق العبادة، و ... یمکن أن یقال أن أغصان العبادة أحاطت بهم و التفت علیهم فأنحلت أجسادهم و اصفرت ألوانهم.[13]
و یشیر أبو سعید أبو الخیر إلى هذه الحالة حینما یخاطب أوراق الأشجار الصفراء فی فصل الخریف:
وجهک مصفر و وجهی مصفر
أنت بسبب شهر (مهر)[14] و أنا بسبب معشوقتی" وجه القمر".
و على کل حال فإن (العشق) هو من صفات نفس الإنسان الداخلیة و هو نوع من المیول و الانجذاب، و هو إحساس باطنی ینسب إلى (القلب).[15]
و نحن نعتقد: أن أساس العالم مبنی على العشق، أی أن علة إیجاد العالم هی من جهة العشق، فذات الحق الشاهدة على مکنون الغیب کانت هی العاشق و المعشوق فی نفس الوقت قبل أن یخلق العالم، فأراد أن یظهر جماله و یتجسد فجعل من الخلق مرآةً لجماله.[16] یقول الجامی فی مقدمة یوسف وزلیخا:
کنت و لا دلالة علیک فی مکان اختفائک
کنت مکنوناً فی خزائن الغیوب
کان الوجود بعیداً عن الازدواجیة
بعیداً عن الأقوال و الأوصاف بانا وانت
جمال مطلق لا تقیده المظاهر
یتجلى لنفسه و یظهر لها بنوره
یطمئن القلوب فی مکنون الغیب
مبرأة ذاته من أی تهمة و عیب
لا یظهر جماله على وجه مرآة
ولا یمسک زلفه و لایمشط
إلى أن قرر أن یزیل الحجاب و یکشف عن جماله
فضرب بخبائه خارج ساحة القدس
و تجلى إلى الآفاق و الأنفس
فصنع من ذرات العالم مرایا
فانعکس وجهه فی کل واحدة منها
و کلما تجلى جماله فی مکان من العالم
أسدل الحجب على کل معشوق فی الدنیا
و أحیا القلوب بعشقه
و أی قلب یبحث عن عشق الجمال
فإنه عاشق له علم بذلک أم لم یعلم
و من جهة أخرى، فإن کل موجود هو طالب لکماله، و إن الکمال الوجودی لکل معلول هو المرتبة الوجودیة لعلته، فکل معلول هو عاشق لعلته إذاً، و حیث أن أعلى المراتب هی المرتبة الوجودیة لذات الحق، فالمعشوق الحقیقی لجمیع أفراد سلسلة الوجود، هو الذات المقدسة للحق تعالى.[17] کما مر فی إشارة الجامی و بیانه و من هنا فالعشق لغیر الله یعتبر من العشق المجازی.
و بالاستناد إلى الآیة الشریفة {یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ}[18] یمکن أن نصل إلى نتیجة مؤداها أن العشق متبادل و من جهتین و له مکانة رفیعة و جلیلة فی المبدأ و المعاد و الترقی و النزول.
العلاقة بین العقل و العشق و الإیمان:
بالنظر إلى ما تقدم یمکن القول: أن العقل فی طریق الحیاة و مسیرها کمثل الضیاء الذی یوضع فی مقدمة العجلات لینیر طریقها خلال سیرها، و بالإضافة إلى ما یقوم به من إشعاعات و ما ینبثق عنه من نور، فإنه یؤدی وظیفة الکابح الذی یخفف من طغیان السرعة و الاندفاع بالنسبة إلى المشاعر و الأحاسیس، فیحول بینها و بین الطغیان.[19] و أما العشق فهو بمثابة المحرک الذی یتولى دفع العجلة و إمدادها بقوة التحرک، و من هنا یمکن أن یقال أن المحرک من دون ضیاء و مصباح هو عشق أعمى، و غایة فی الخطورة، إنه مبیر و مهلک، و إن المصباح من دون محرک لا أثر له و لا روح، و إنما هو جثة هامدة و باردة لا حرکة فیها.
إذن فلا یکون الأمران بمثابة الخصمین کما یدعی بعض المتصوفة.[20] و إن العشق و العقل هما عنصرا الإیمان الحقیقیان.
و الجدیر بالذکر: أن العقل على کیفیتین فی کلام العرفاء: العقل الجزئی و العقل الکلی، فالعقل الجزئی هو الذی یقابل العشق المطلق، و هو شاحب و بمهوت فی حوزة العشق و دائرة تأثیره:
و حیث أن العقل الجزئی یختص بأمور الدنیا ربحاً و خسارة، و یهتم بعالم الطبیعة لذلک من الممکن أن نسمیه (بالعقل المدبر).
فی حین أن العقل الکلی هو فی أمان من الشک و الوهم و الشهوة و .... و إنما یبحث عن الآخرة و إدراک عالم الغیب.
و العقل الکلی هو فوق العقل الجزئی، و هو العمدة فی نیل السعادة.
و فی النهایة فإن العقل هو دلیل الإنسان باتجاه الأبدیة.
إن عطر العقل و نشره
أفضل دلیل إلى ملکوت عالم الأبدیة.[21]
و فی نهایة الکلام ننقل عینات من کلام قرة عین العاشقین أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام حیث یقول: (حب الله نار لا یمر على شیء إلا احترق)[22] .
و یحتمل أن الشیخ فخر الدین العراقی استلهم من هذا الکلام فی تعریفه للعشق حیث یقول: العشق نار إذا انقدحت فی القلب أحرقت کل ما فیه، إلى حدٍ تمحى معه صورة المعشوق ذاته، و من ذلک ما قاله مجنون عندما طلبت منه لیلى أن یرفع رأسه لیراها ماثلة بین یدیه، فقال مخاطباً إیاها: إلیک عنی فإن حبک قد شغلنی عنک..[23]
معنى القلب: فی نظر العرف العام و علم الفسلجة القلب هو هذا العضو الذی یستقر على الأغلب فی الجهة الیسرى من القفص الصدری بالنسبة إلى بدن الإنسان... و أما بحسب الاصطلاح القرآنی و لسان الروایات و النصوص الأخلاقیة فإن القلب؛ یعنی الروح الإنسانیة المجردة و حیث أن شؤونه متعددة و مختلفة، فإنها اکتسبت أسماءً مختلفة منها: الصدر، النفس، القلب، الفؤاد، الروح، اللب، وجمیع هذه الأسماء تشیر إلى هذه المنحة الإلهیة. و قد نسب القرآن ثلاثة أنواع من الأعمال إلى القلب:
1ـ الخصوصیات المتعلقة بأنواع المعرفة، کالإدراکات الحصولیة من أمثال العقل و التدبر و التفقه.[24] و الإدراکات الحضوریة (الرؤیة الحضوریة) (أعم من أن تکون عادیة أو غیر عادیة) فالوحی هو نوع من الإدراک الرمزی، حیث نسبه القرآن إلى القلب.[25]
2ـ الخصوصیات المتعلقة بأبعاد المیول و الرغبات کالخوف و الاضطراب و القساوة و الغلظة، و الإیمان و التقوى و الشوق و العشق، و الانجذاب[26] و کذلک ما له علاقة بالقصد و النیة.[27]
فالقلب إذن هو موجود یؤدی مثل هذه الأعمال، أی أنه یدرک و هو مرکز العواطف، یصمم و یحب و یعادی و...
و لأجل ذلک یمکن أن یقال: أن المراد بالقلب هو الروح و النفس الإنسانیة، و إذا ما قبلنا و سلمنا للمبدأ القائل أن الإنسان یمتلک روحاً واحدة لا غیر و أن هذه الروح هی منشأ حیاته النباتیة و الحیوانیة و الإنسانیة فعلى هذا الأساس یکون القلب بعداً من أبعاد روح الإنسان؛ یعنی أنه البعد الذی یکون منشأ حیاته الإنسانیة، و بعبارة أخرى هو منشأ الخصوصیات و المیزات الإنسانیة، أی أن القلب فی اصطلاح القرآن لا یکون منشأً للحیاة الحیوانیة و النباتیة.[28]
نعم فی الموارد التی جاءت فی کتابات العرفاء و التی وضعت (القلب) مقابل (العقل) فإن المراد بالقلب هنا هو ذلک البعد من روح الإنسان و نفسه الذی یمثل مرکز العواطف الإنسانیة و العشق، و مع أنه یکون منشأ الإدراکات أیضاً، و لکنه لا تنسب إلیه الإدراکات الحصولیة و إنما یبقى هذا المرکز کوسیلة للشهود و العلم الحضوری.
[1] انظر: الشیروانی، علی، اخلاق اسلامى" الأخلاق الإسلامیة"، ص116 ـ 117.
[2] النفس بمعنى (الشخص) و (أنا) و هذا هو المعنى الذی أراده القرآن من کلمة النفس. مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق در قرآن" الأخلاق فی القرآن"، ج1 ، ص243 ـ 244 و من أجل الإطلاع على استعمالات القرآن للفظ (النفس) یمکن الرجوع إلى المیزان، ج 14، ص 285 ـ 287.
[3] انظر: مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق اسلامى" الأخلاق الإسلامیة"، ج1 ص195، و ما بعدها.
[4] انظر: مقدمة فی الرؤیة الإسلامیة للکون، مرتضى المطهری، ص253 ـ 262 ملخصاً.
[5] انظر: مقدمة فی الرؤیة الإسلامیة للکون، مرتضى المطهری، ص42 ـ 48 ملخصاً.
[6] الذخیرة، السید المرتضى، ص 536، تفسیر المیزان، صدر الدین الشیرازی، ج1، ص 249، أوائل المقالات، الشیخ المفید، ص 48، نظریه ایمان در عرصه کلام در قرآن "النظرة القرآنیة للایمان فی مجال علم الکلام، محسن جوادی، ص 119 ـ 158، اخلاق اسلامى" الأخلاق الإسلامیة"، أحمد الدیلمی و مسعود الأذربیجانی، ص 73.
[7]اخلاق اسلامى" الأخلاق الإسلامیة"، أحمد الدیلمی، ومسعود الأذربیجانی، ص73.
[8] اخلاق اسلامى "الأخلاق الإسلامیة"، علی شیروانی، ص100.
[9] نفس المصدر، ص 103 و 119.
[10] مقدمة فی النظریة الإسلامیة للکون، ص 21ـ 23 ملخصاً.
[11] العشق إفراط الحب و یکون فی عفاف (اشتقاق العشق من العشق)، أقرب الموارد، ج2، ص 786.
[12] سید جعفر، سجادی،فی کتاب فرهنگ اصطلاحات وتعبیرات عرفانی"معجم المصطلحات والتعبیرات العرفانیة"، مصطلح العشق؛ وکتاب فرهنگ علوم عقلی"معجم مصطلحات العلوم العقلیة"، مصطلح العشق ، ص 357 ؛ و یحتمل حمل کلام أمیر المؤمنین على هذا المعنى عندما قال فی نهجالبلاغة ص 304 فی وصف المتقین:"وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِیفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ
خَفِیفَةٌ ...... قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْیَ الْقِدَاحِ یَنْظُرُ إِلَیْهِمُ النَّاظِرُ فَیَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ یَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِیم..".
[13] نفس المصدر.
[14] الشهر الاول من اشهر الخریف حسب السنة الهجریة الشمسیة.
[15] فی لسان الآیات والروایات عادة ما یعبر عن مثل هذه الحالات بالمحبة.
[16] انظر: عرفان نظرى" العرفان النظری"، یحیى الیثربی، ص47 ـ 53.
[17] الأسفار، ج7، الطبعة الجدیدة، الملا صدرا، ص 158 و ما بعدها.
[18] {یُحِبُّهم و یُحِبُّونَه} سورة المائدة، الآیة، 54.
[19] فی میدان جهاد النفس یحظى ضبط النفس و تقویة الممانعة بأهمیة خاصة ممثلاً بکون تقویة و زیادة محبة الله عن طریق إتیان أعمال الخیر و ما لها من آثار على النفس و الشد إلى الله و محبته، مما یؤدی إلى إیقاظ القلب و عندها لا یبقى مجال لغیر الله فی قلب الإنسان، و لذلک ورد فی المناجاة الشعبانیة: (إلهی لم یکن لی حول فأنتقل به عن معصیتک إلا فی وقت أیقظتنی لمحبتک). انظر: اخلاق اسلامى" الأخلاق الإسلامیة"، ج1، مصباح الیزدی، ص 195 ـ 213.
[20] انظر: جلوهى حق "مظهر الحق"، مکارم الشیرازی، مع تقدیم و تعلیق داود إلهامی، ص93 ـ 129.
[21] المثنوی المعنوی، الدفتر الخامس، البیت 3350.
[22] بحار الأنوار، العلامة المجلسی، ج70، ص22؛ المحجة البیضاء، ج 8، ص7.
[23] دیوان العراقی، اللمعات، اللمعة العشرون، والثلاثون، ص420.
[24] الأعراف، 179؛ الأنعام، 25؛ الإسراء، 46؛ الکهف، 57؛ محمد، 24؛ و....
[25] البقرة، 97؛ الشعراء، 193 و 194.
[26] الأنفال، 2؛ النازعات، 8؛ الزمر، 22؛ الحجرات، 14؛ إبراهیم، 37؛ و ....
[27] ق، 37؛ النازعات، 8؛ الزمر، 22؛ الحجرات، 14؛ إبراهیم، 37.
[28] انظر: اخلاق اسلامى "الأخلاق الإسلامیة"، ج1، مصباح الیزدی، ص 244 ـ 266.