و بعد زوال حجب الجهل من خلال إرتقاء المعرفة بالنفس و بخالقها لا یوجد انسان ینکر تلک الهبات الالهیة، نعم الذی یبدو من الانکار فی العالم یعود الى النقص المعرفی بالنفس و الابتعاد عن مقام الرضا و التسلیم. فاذا تذکر ذلک عندئذ سوف یتقبل مسؤولیة وجوده، و لعل من أوضح الادلة على ذلک حبًّ الانسان و تمسکه العمیق بالوجود الذی لا یرضى بحال من الاحوال التفریط به کنعمة إلهیة.
فکل انسان جاء الى هذا العالم یکون قد سبقه قبل ذلک تقبل الفیض الالهی و فی النهایة هو یعلم بکمالة الفطری.
فالنظرة المعنویة الى هذه القضیة تکشف لنا أن الیأس من الامور الخارجیة و عالم الدنیا قد یکشف عن رجوع الانسان باطنیا الى الله تعالى کما أن الانسان یشعر عندما یختلی لوحده بالمعیة الالهیة و العلاقة مع الله سبحانه. و على کل حال بعض الناس یهرب من الله تعالى فی الوقت الذی یکون فیه أکثر حاجة الیه.
إن المشاکل التی یواجهها الانسان فی حیاته و الآلام التی یتحملها بمیزان قیمته الوجودیة و انها لا تعد شیئا اذا ما قورنت بالنعم و السعادة التی یحظى بها فی عالم الآخرة، و من هنا نرى الانسان الذی یصل الى مرتبة الکمال یتحسر على ما فرط به من وقت و طاقة و یتمنى لو أنه قد اکتشف نفسه قبل ذلک الوقت و یتمنى لو کان أشد صبراً على المحن و الشدائد التی واجهته.
ولابد أن نعلم بان نعمة الوجود التی یتنعم بها الانسان تتمثل فی المنزلة التی یحظى بها و المقام الذی منحه الله تعالى له و هو مقام خلافة الله فی الارض و سجود السماوات و الارض و الملائکة له. و اذا ما شعر الانسان فی مرحلة من المراحل بانه مجبر على الوجود فان ذلک سببه الحجب التی تقع بینه و بین ادراک الابعاد الراقیة فی شخصیته و التی تعود الى نسیان ذاته. و حجب الغفلة و النسیان هذه یمکن ازالتها من خلال الذکر لیتذکر الانسان ذلک العهد الفطری الذی أخذه الله على عباده حین قال: "وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنَّا کُنَّا عَنْ هذا غافِلینَ[1]
إذن ترجیح جانب العدم على الوجود لا یحصل الا من خلال الغفلة و الجهل شأنه شأن الطفل الذی یجهل قیمة اللقاح المضاد و یرضى لنفسه الحیاة مشلولا ضعیف البنیة مرجحاً ذلک على تحمل ألم زرق اللقاح فی بدنه!!!
وإذا تجاوزنا هذا کله و صرفنا النظر عنه فلابد من الالتفات الى أن أصل خلقة الانسان لطف من الله تعالى بحق الانسان لیتمکن من خلاله الترقی فی سلّم الکمال و لینتفع بالنعم الالهیة لا انه یملک حقا على الله تعالى، و لنقرب الفکرة بمثال توضیحی: لو قدر أن انسانا أعدّ و لیمة تتوفر فیها اطیب ألوان و انواع الاکلات و دعا الیها مجموعة من الناس و لکن اختار بعض المدعوین الامتناع عن الاکل بارادة و اختیار منه و بقی متحملا لعوارض الجوع و آلامه فهل یقع اللوم على المضیّف لماذا أقام تلک الولیمة و الضیافة؟![2] و هل یحق للضیوف لوم المضیّف على دعوته لهم؟!
و الحقیقة أن هذا النوع من التفکیر بعید عن النظرة الایمانیة فالمؤمن لا یفکر بنفسه و لا یرى لنفسه وجودا مستقلا متفضلا به على لله تعالى، بل هذه الرؤیة و التفضل و التفکیر فی النفس منشأه النظرة المنطلقة من نظریة أصالة الانسان التی تنکر الایمان القلبی و على فرض الاعتقاد بوجود الله تعالى لا یوجد بین اصحابها و بین الله تعالى أی علاقة قلبیة فلا یرون وجودهم عین الحاجة و الافتقار الى الله تعالى و الارتباط به.
[1]الاعراف، 172.
«کنت کنزا مخفیا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لکی أعرف». بحار الانوار، ج84، ص 344. موسسه الوفاء، بیروت، 1404ق.