الفلسفة بالمعنى الخاص للکلمة تعنی عمل ذهنی و عقلی و استدلالی من أجل إدراک حقیقة و واقعیة عالم الوجود.
الحکمة بما نعرفه من معناها الذی یختلف عن الفلسفة هی أمر أوسع من الفلسفة و ذات منشأ إلهی و لدنی، و قد اعتبرها القرآن منحة إلهیة للأنبیاء و الأئمة و الأولیاء على طول التاریخ فهم یتمتعون بها و لیشیعوها بین الناس.
أما العرفان فی الاصطلاح فیطلق على المعرفة الشهودیة لله التی تحصل عن طریق تهذیب النفس و صفاء الباطن، و أما بالنسبة لاستعمالات لفظ العقل فیراجع الجواب التفصیلی.
من أجل أن یبقى البحث فی الإطار المنطقی اللازم لا بد فی بدایة الأمر من توضیح لمصطلحات الحکمة و الفلسفة و کذلک العرفان، و فی الختام نتحدث عن مصطلح العقل و استعمالاته و مختلف مراتبه، لأن فهم المتلقین لهذا الاصطلاح لیس على حد سواء فی الفلسفة و الحکمة و العرفان، و کل مجموعة من المفکرین و عموم الناس یستعملون لفظ العقل من خلال زاویة نظرهم الخاصة.
الفلسفة:
وردت تعاریف مختلفة للفلسفة تبعاً لوجهات النظر المتعددة، و لذلک لا یمکن لأحد أن یدعی الاکتفاء بتعریف واحد فقط. و بالضمن لا بد فی بدایة الأمر من معرفة نظریة فلسفیة فیما یخص المعرفة ذاتها و الطرق الموصلة للمعرفة، و غایة المعرفة، فمثلاً إذا عرفنا الفلسفة بأنها العلم بحقائق الأشیاء، فلا بد من التساؤل عن الطریق الموصل إلى هذه الحقائق، فهل یمکن التوصل إلى حقائق الأشیاء عن طریق الأدلة الفلسفیة؟، و بعبارة أخرى هل یمکن الوصول عن طریق الفلسفة إلى المرتبة التی وصل إلیها رسول الله (ص) و التی طلبها من الله تعالى[1]؟ و من البدیهی إذا اعتبرنا محتوى أی علم منحصراً بالأبحاث الذهنیة و العقلیة و الاستدلالیة و الماهویة فلا یمکن قبول تعریف الفلسفة بأنها العلم بحقائق الأشیاء، و علیه فإذا سلکنا توخی الدقة فلا بد من القول أننا نستطیع أن نسأل عن تعریف الفلسفة فی إطار منظومة فکریة محددة، و فی نظام فکری خاص، و ما هی الغایة التی یمکن الوصول إلیها من خلال تبنیّ هذه الفلسفة المعینة.
تتکون کلمة الفلسفة (Philosophy) من قسمین فیلو و تعنی الحب و سوفیا و تعنی المعرفة، و أول من استعمل هذه الکلمة هو فیثاغورس، و ذلک عندما وجهوا إلیه سؤالاً: هل أنت عالم؟ أجاب أنا محب للعلم (فیلوسوفر) و علیه فالفلسفة منذ أول أیام نشوئها تعنی حب العلم و المعرفة، و بهذا فالفلسفة الیونانیة التی انتهت إلى الفلسفة الغربیة و مدنیته لها مسیرها التاریخی الخاص بها، و إن مرادهم من الفلسفة إعطاء الأهمیة بحجیة العقل الجزئی القائم مقام الوحی و إدراکات البشر المعنویة لوجود الله، و إن غایة العالم و الإنسان لا بد و أن تدرس و تبحث فی إطار العقلانیة الغربیة، و علیه فتعریف الفلسفة بالمعنى الخاص للکلمة: الجهد الذهنی و العقلی و الاستدلالی من أجل إدراک واقعیة عالم الوجود.
و إذا کان لدینا مثل هذا التعریف للفلسفة، فإنها عاجزة عن الاحتفاظ بموقعها باعتبارها عنواناً للجهد الذهنی و الفهم المنطقی للظواهر، کما أنها عاجزة عن التوصل لحقیقة العالم (الله) کما یدعی البعض فی تعریف الفلسفة[2] و ذلک لأن الوصول إلى الحقائق یتطلب منهجاً أرقى و أشمل و معرفة أفضل تکون أوسع من الذهن، ومن أجل ذلک امتنع البعض من إطلاق کلمة (الفلسفة) على نظامه المعرفی، و استعمل بدلها اصطلاح (الحکمة) و هو مصطلح قرآنی.
الحکمة
قبل الشروع ببحث الحکمة نلفت الأنظار الی کون الفلسفة - وکما تقدم- قد استعملت کلفظ عام للأنظمة الفکریة و المعرفیة المختلفة على امتداد التاریخ و على هذا الأساس فإن الحکمة الإلهیة اعتبرت بنظر المتابعین و أهل النظر نوعاً من الفلسفة، على الرغم من أن غایاتها أمر یتعدى الذهن الاستدلالی.
و الآن یمکن القول: أن الحکمة بمعناها المختلف عن الفلسفة له منشأ إلهی و لدنی، و کذلک اعتبرها القرآن الکریم هبة إلهیة[3] اتسم بها الأنبیاء و الأئمة و الأولیاء و الصالحون على طول حقب التاریخ و قاموا بإشاعتها بین الناس. و کذلک یوجد أفراد من بین الفلاسفة یتمتعون بالحکمة (بالمعنى المتقدم) و لکنهم حصلوا على هذه الحکمة بطریق غیر طریق الاستدلال الفلسفی.
و من جملة هؤلاء الشیخ شهاب الدین السهروردی الذی أطلق على آثاره اسم الحکمة، کان یعتقد أنه لا یدرک حقیقة کتابه إلا مَن اهتدى بهدایة شیخ روحانی یکون حقاً خلیفة لله فی الأرض، و حاصل على علم الإشراق. و قد کتب فی هذا الموضوع قائلا: (لیس من الصحیح أن یطمع أحد بالوصول إلى أسرار هذا الکتاب من دون الرجوع إلى شخصٍ قد وصل إلى مقام الخلافة الإلهیة و لدیه علم بمضمون ما فی الکتاب)[4]. و کتب فی مورد إطلاق اسم الحکیم: (اسم الحکیم لا یطلق إلا علی من له مشاهدة للأمور العلویة، و ذوق مع هذه الأشیاء و تأله)[5].
و على هذا الأساس فالتمایز بین المعنى الدقیق للفلسفة و الحکمة طرح لأول مرة فی العالم الإسلامی، و لذلک فإن الکثیر من أصحاب الحکمة الإلهیة و المعرفة القرآنیة و معرفة مذهب ألأئمة یعتبرون الحکمة أمراً مختلفاً عن الفلسفة بمعناها الیونانی.
و بهذا اللحاظ فإن الفلسفة لها صیغة یونانیة بعیدة جداً عن الحکمة و خلاصة القول فی النسبة بین الفلسفة و الحکمة: أن الحکمة غیر الفلسفة مع أنها قد تعرض و تبین بأسلوب فلسفی فی بعض الأحیان.
العرفان:
للعرفان تعریف واضح و جلی مقارنة بالفلسفة و الحکمة، و مع عدم الوصول إلى کنه حقیقته من الممکن فهم حدوده بشکل من الأشکال و ببساطة، و على الأقل إن امتیازه و اختلافه عن الفلسفة مشخص و معروف، و ذلک لأن العرفان مرتبط بالمعطیات الشهودیة و الحضوریة بشکلٍ صریح و لیس له أدنى ارتباط بالتعلیمات المدرسیة و البحث الاستدلالی.
و بتوضیح أکثر فی مورد العرفان، یطلق العرفان فی الاصطلاح على المعرفة الشهودیة لله الحاصلة عن طریق تهذیب النفس و صفاء الباطن.
فللعرفان بعدان نظری و عملی:
أ ـ العرفان النظری یشتمل على منظومات من الإدراکات الباطنیة عن طریق الکشف و الشهود بخصوص عالم الوجود، و یتم ذلک للأشخاص الحائزین علی صفات و شرائط معینة، و مدون نظریاً بنظام خاص و مشخص.
ب ـ العرفان العملی: یشتمل على الخطوات العملیة اللازمة لجهاد النفس و الهوى من أجل الوصول إلى المرتب المعنویة العالیة و کمال التوحید و هذه الخطوات یبینها أستاذ الطریقة فعندما یطبق السالکُ طریق الحقیقة تعالیمَ و إرشادات شیخ الطریقة و یسیر إلى الله بخطوات مشفوعة بالإخلاص، فإنه سوف یصل إلى منازل الحقائق[6].
إطلاقات العقل:
العقل و المعرفة من أکثر الألفاظ عمومیة فی أذهان الناس و یمکن أن تشتمل على معان واسعة بسعة مراتب عالم الوجود من أعلى علیین إلى أسفل السافلین. فالحق تعالى المعرفة الکلیة و مبدأ العقل الکلی، و کذلک جمیع الناس یرون أنفسهم أنهم عقلاء، و یطلق العقل حتى على الاحتیال و تدبیر المعاش بمعناه المذموم أیضاً. و علیه لا بد من الانتباه و الدقة فی استعمال هذا الاصطلاح، فإذا کان العقل فی نظر المعارف الدینیة هو جوهرة و هو أحب مخلوقاته إلیه[7]. و إن الله أکمله لدى من یحب من خلقه[8]. فلا بد من الدقة و الحذر فی مسألة إدراک حقیقة هذه الجوهرة الوجودیة و تمییز مراتبها و معرفة قیمة کل مرتبة. لأن استعمال أی مصطلح و لفظ فی موقعه المناسب و قیمته الحقیقیة یغلق الباب أمام الکثیر من الجهل مما یؤدی إلى انحسار الجهل و تضییق آفاقه.
و هنا یمکن الإشارة إلى روایة منقولة عن الامام الصادق (ع) لإیضاح الشبهة فی فهم معنى العقل قال الراوی: قلت له: ما العقل؟ قال: "ما عبد به الرحمن، و اکتسب به الجنان. قال: فالذی کان فی معاویة؟ فقال: تلک النکراء تلک الشیطنة، و هی شبیهة بالعقل و لیست بالعقل".
و نحن نعلم بوجود شخصٍ معادٍ للإسلام فی صدره الأول یدعى أبو الحکم عمرو بن هشام بن المغیرة المخزومی، و کما یقول المولوی کان من صاحب رؤیة عقلیة[9]. و مع ذلک أطلق علیه النبی (ص) اسم (أبو جهل) و ذلک لیتضح حقیقة العقل و أن ما یصطلح علیه من الحکمة لدى هذا الشخص تمثل فی عین الجهل و الظلمة، و هکذا بقی هذا اللقب الکاشف عن حقیقة هذا الرجل و صار علماً له على مدى التاریخ.[10]
و بعد هذه المقدمة الهامة یمکن أن نقول بخصوص استعمال لفظ العقل فی مختلف العلوم:
معنى العقل فی علم الکلام بمعنى المقولات و القضایا التی یقبلها الفهم العملی لعموم البشر، و لذلک یطلق علیها اسم المقبولات العامة. أما فی باب البرهان من علم المنطق ألأرسطی فالعقل یعنی المقولات الیقینیة و هی من مقدمات باب البرهان، و أما فی علم النفس فالعقل یعنی القوة المدرکة للکلیات.
و فی الفلسفة الأولى فالعقل مصطلح خاص، و هو أحد تقسیمات الوجود الأولیة، و لیس له ارتباط بالذهن الاستدلالی فالعقل هنا على غیر معناه المعروف، و یطلق على المجردات التامة و هی الموجودات المجردة عن کل لون من ألوان المادة، و لیس لها أی تعلق و ارتباط بالأمور المادیة، و قد یطلق علیها اسم (المفارقات) أو الموجودات النوارنیة. و علیه فإطلاق العقل على هکذا موجودات لا علاقة له بالعقل الذی یعنی القوة التی تدرک المفاهیم الکلیة[11].
و البعض یقسم العقل إلى نظری و عملی، و ذلک لأن معطیات العقل تارة تکون فی دائرة الوجود و العدم و تارة فی دائرة ما یجب و ما لا یجب، فأطلق على الدائرة ألأولى اصطلاح العقل النظری و على الثانیة العقل العملی.
و العقل العلمی له مرتبتان: الأولى ما یتعلق بتدبیر الأمور الحیاتیة الدنیویة، و هو العقل الباحث عن المصلحة (الفردیة و الاجتماعیة) و هذا هو العقل الذی یعبر عنه أیضاً بالعقل الإحصائی أو الجزئی، الذی یتوجه نحو إشباع المیول الغرائزیة.
و الثانی هو العقل الإیمانی، الذی یرى أن المیول و الشهوات باطلة[12]. و العقل الإیمانی نفسه له درجات تتناسب مع درجات الإیمان، یظهر حده الأعلى لدى الأنبیاء و الأولیاء، حیث یشمل إدراک حقائق عالم الوجود بشکل مباشر، کما أن جمیع الأنبیاء مبعوثون لإحیاء مراتب هذا النوع من العقل الذی یکون أشبه بالبذرة المدفونة تحت تراب الفطرة الإنسانیة، یقول علی (ع) فی هذا المورد:
(ویثیروا لهم دفائن العقول)[13]. أی أن الله أرسل الرسل لاستخراج العقول الدفینة. فلو کان المراد بالعقل العقل الفلسفی بالمعنى الیونانی لکان البشر فی عالم المرتبة الغربیة قد وصلوا إلى أعلى الکمال الغائی للأنبیاء و لکننا نرى عکس هذا المعنى فی العالم.
للاطلاع یراجع:
السؤال 839 (الموقع 909) العقل الإحصائی، القلب، الإیمان و العشق.
السؤال 7168 (الموقع: 7501) ملاک حقانیة أی فکرة.
السؤال 1110 (الموقع: 1888) العقل، و نشاطه الواسع.
[1] «عن النبىّ (ص): "أرنا الأشیاء کما هی" سید حیدر الآملی، جامع الاسرار، ص 8، انتشارات علمی و فرهنگی، 1368.
[2] الفلسفة عبارة عن التشبه بالله بما یستطیعه الانسان للوصول الى السعادة الابدیة، کما عن الجرجانی، و الفلسفة المعرفة بحقائق جمیع الاشیاء بالقدر الممکن للانسان، کما عن ابن سینا. انظر معجم: المصطلحات الفلسفیة.
[3] «یُؤْتِی الْحِکْمَةَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثیراً وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ» البقره، 269.
[4] مجموعة مصنفات شیخ اشراق، ج2،ص259، موسسة انتشارات و تحقیقات فرهنگی.
[5] مجموعة مصنفات شیخ اشراق، ج1،ص296، موسسة انتشارات و تحقیقات فرهنگی.
[6] حسینی نسب، سید رضا، عرفان اسلامی در آئنه شعر و ادب.
[7] «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ وَ عِزَّتِی وَ جَلَالِی مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْکَ وَ لَا أَکْمَلْتُکَ إِلَّا فِیمَنْ أُحِبُّ أَمَا إِنِّی إِیَّاکَ آمُرُ وَ إِیَّاکَ أَنْهَى وَ إِیَّاکَ أُعَاقِبُ وَ إِیَّاکَ أُثِیبُ» الکافی، ج1، ص 11.
[8]نفس المصدر.
[9] انظر المثنوی المعنوی.
[10] المثنوی المعنوی.
[11] مصباح الیزدی، محمد تقی، اموزش فلسفة (تعلیم الفلسفة)، ج2، ص 164 ،نشر مؤسسة التبلی الاسلامی، 1377.
[12] ترخان، قاسم ، شخصیت و قیام امام حسین، ص 156، قم، چلچراغ، 1388.
[13] نهج البلاغة، ص43، انتشارات دار الهجرة.