یرى هنری کربن بان الملاصدرا من المخالفین للتقلید سواء على مستوى الفقهی أو العرفانی، و یرى کفایة العقل و الشریعة لنیل المقصود و الوصول الى الغایة، و یعد هذا الموقف منه من العوامل المؤثرة التی أدّت الى إخراجه من اصفهان بأمر من الشاه عباس الأول و فرض الاقامة الجبریة علیه فی منطقة کهک التابعة لمدینة قم الحالیة.
شارک فی تألیف کتاب الملاصدرا مجموعة من المستشرقین، منهم المستشرق هنری کربن، و ترجم الکتاب الى الفارسیة من قبل السید ذبیح الله منصوری، و من المقالات التی احتواها الکتاب ما کتبه هنری کربن تحت عنوان "التقلید عند الملاصدرا و مکانة القطب و الامام فی العرفان".
حیث ذهب الکاتب الى القول بان الملاصدرا أثار حفیظة المجتهدین ضده عندما رفض التقلید و وسمه بانه بدعة تنطلق من حب الهیمنة و الرئاسة.[1] بالاضافة الی مخالفته للمنهج العرفانی فی لزوم اتباع شیخ الطریقة[2].و قال بکفایة اتباع الشریعة مقارنتها بمیزان العقل الصحیح و البرهان، و ان هذا المهج الذی دعا الیه یکفی فی نیل الهدف المقصود و الوصول الى الغایة المنشودة. کذلک لم یخرج موقف الملاصدرا فی مسالة الامامة و مخالفته لما هو شائع فی العصر الصفوی من دائرة هذین البحثین، فکان ذلک من اساسیات عقائده و من العوامل المؤثرة فی إخراجه من اصفهان بأمر الشاه عباس الأول و الاقامة الجبریة فی منطقة کهک التابعة لمدینة قم الحالیة.
وقد نقل کربن عن الملاصدرا قوله:
" لم تکن عقیدتی فی الإمامة و التقلید، و لیدة نظرة ساذجة لا تقوم على اساس رصین و لم تکن منطلقة من بحث عابر و دراسة مستعجلة، لکی استغفر الله منها و اعترف بالخطأ فیها. بل ما تبنیته فی خصوص الامامة و التقلید کان نتیجة مطالعات معمقة و دراسات متواصلة وصلت فیها الى الیقین بان ما توصلت الیه هو الصحیح، و لا استطیع بحال من الاحوال نقض ما تیقنت به لاصفه بانه خطأ".[3]
هذه هی الفقرة التی نسبها هنری کربن الى الملاصدرا حول التقلید الاعم من التقلید الفقهی او التقلید العرفانی فی اتباع شیخ الطریقة.
هذه القضیة التی أثارها کربن تحتاج الى بحث مفصل و دراسات موسعة لنرى حقیقة موقف الملاصدرا من التقلید، و ما ذکره کربن یمثل ارضیة مناسبة للانطلاق منها فی هذا المجال.
لکن یمکن القول إجمالا، بان دراسة الحالة الاجتماعیة و طبیعة المجتمع الذی کان یعیش الملاصدرا بین ظهرانیهم و التی کانت تمیل الى التقلید فی جمیع مناحی المعرفة حیث حل الاسترخاء و التقلید الاعمى محل المعرفة و التحقیق و البحث، کان السبب فی جعل الملاصدرا یسعى بجد لترویج العقل و العقلانیة و أنه لا یجدر بالانسان أن یعیش حالة التقلید الاعمى دائماً بحیث یبقى دائما مقاداً من قبل الاخرین على جمیع الصعد.نعم، قد یطوی مثل هذا الانسان الطریق بسلامة و یسر من خلال التقلید، و لکنه اذا نظر الى منهجه فی الحیاة ضمن المجموعة العامة، فانه قد یوجّه فی سلوکه هذا ضربة قاصمة للمسیرة العامة، و من هنا لم یرتض الدین هذا الاسلوب فی معالجة الامور و البحث عن الحقیقةفی المجتمع الاسلامی.
من هنا، کانت للملاصدرا رؤى نقدیه للکثیر من العلماء المعاصرین له و الذین حاولوا استغلال سذاجة الناس و بساطتهم للتسلط علیهم و عدم حثهم نحو العلم و المعرفة و حصر الدین فی دائرة التقلید فقط. و الظاهر أن الملاصدرا لم یعترض على رجوع الناس الى الفقهاء المجتهدین فی تحصیل الفتوى و معرفة الحکم الشرعی، بل کان نقده منصبا على فکرة تعمیم التقلید و التأسیس له کخط عام تسیر علیه الامة فی مسیرتها الدینیة على کافة الصعد فی مقابل العقل و المعرفة.
و هذه النظریة یمکن رصدها فی أکثر مؤلفات الملاصدرا و التی أثارت ضده الکثیر من ردود الفعل المخالفة.
أما فی خصوص موقفه من العرفان، فقد عرض الملاصدرا العرفان القائم على البرهان و المعاییر العقلیة قبل الاعتماد على الشیخ و الاستاذ! فالملاصدرا صاحب رؤیة عرفانیة یکون فیها العرفان قائماً على المعاییر الصحیحة، و حلول البرهان مقام القطب و الشیخ.
و أما لماذا اختار صدر المتألهین هذه المنهج؟
یمکن ان تکون هناک الکثیر من الادلة و الاسباب التی دعته الى تبنی هذا الموقف، و لکن یمکن الحدس بان الاولویة و الاهمیة التی یعطیها الملاصدرا للعقل و البرهان و الفلسفة جعلته – مع الایمان بکون ابحاثه ما وراء الفسلفة- یمیل فی مقام العمل نحو الابحاث النظریة و الاستناد الى الاستدلال و البرهان. و لعله قد شاهد بعض مدّعی القطبیة و العرفان الذین یرجع الیهم الناس و یقلدونهم من دون توفرهم على الأهلیة المناسبة للتصدی لهذا المقام العرفانی!. و لکن لا بد من الاعتراف بحقیقة أن عصره ما کان خالیاً من العرفاء الکبار الذین وصلوا الى هذا المقام بجدارة و لیسوا من مدعی العرفان کذباً.
لکن الظاهر من الملاصدرا و کثیر من اتباع الحکمة المتعالیة، أنهم لا یرون أهمیة ذاتیة للعلاقة بین المرید و المراد و التلمیذ و القطب أو شیخ الطریقة المطروح لدى المتصوفة. خلافا لاکثر العرفاء بل خلافا لجمیعهم الذین یؤکدون دائما على ضرورة الشیخ و القطب. حتى السهرودی الذی غلب علیه الطابع الفلسفی دون العرفانی یرى من العبث الخوض فی کتابه حکمة الاشراق من دون استاذ حی یعی مطالبه؛ بمعنى أن هدفه من الکتاب لم یتحقق ما لم یرجع الباحث فیه الى استاذ حی عارف بخصوصیات الکتاب. لکن فی المقابل نرى الملاصدرا یتخذ من البرهان فی نظامه الفلسفی بدیلا عن تلک الامور.
وقد أخذ البحث عن مکانة تلک الامور فی الحکمة المتعالیة و العرفان مجالا واسعا من النقاش و الجدل لا یسع المقام للتعرض لها بصورة مفصلة. اضف الى ذلک أن الجدل العمیق و المتعرج صعودا و هبوطاً بین العرفان و الحکمة المتعالیة یجعل من الصعب الاعتماد على فقرة هنا او هناک للخروج بنتیجة قطعیة.
و على کل حال الذی یبدو للنظر فی الجملة، ان میلَ الملاصدرا للبرهان فی العرفان اکثر من المیل الى العلاقة بین المرید و المراد خلافا للکثیر من العرفاء؛ من قبیل المولوی الذی یرى الطریق المتکامل فی العرفان یکمن فی العشق بین السالک و الانسان الکامل خاصة و أن الشیخ عنده یمتلک موضوعیة الانسان الکامل.
[1]یقول الملاصدرا، الکل یمکنهم أن یصبحوا علماء و لکن لیس بامکانهم ان یکونوا أئمة للمسلمین، و من هنا وقف موقف المخالف للتقلید المتعارف لدى الشیعة و اعتبره بدعة، لا منشأ له الا حب التسلط و الجاه لدى هؤلاء المتصدین للمرجعیة.( هنری کربن، ملاصدرا، ترجمة ذبیح الله منصوری، انتشارات جاویدان، نقلا عن موقع حیاة اندیشه= حیاة الفکر).
[2] کان الملاصدرا من العارفین القائلین بوحدة الوجود، و لکنه خلافا لبعض المتصوفة یرفض فکرة التبعیة للشیخ و المراد و القطب و ما شابه ذلک. و یرى انه ینبغی للانسان ان یجد فی العلم و المعرفة و العمل لیصل الى مرتبة یتیسر له فیها الوصول الى الحقیقة من دون حاجة الى القطب و الشیخ. خلافا للعرفاء و المتصوفة الذین کانوا و ما زالوا یولون هذه القضیة اهمیة کبیرة جداً على المستویین النظری و العملی، بل حتى العرفاء الذی یجمعون بین العلم و العمل یرون اهمیة الاستاذ و القطب، خلافا للمتصوفة الذین لا یرون فی العلم فائدة تذکر و من هؤلاء جلال الدین الرومی صاحب المثنوی المعروف.(نفس المصدر).
[3]نفس المصدر.