ينبغي وضع حديث العماء الى جانب حديث " كان الله و لم يكن شيء معه" الذي يستند الى اصل الوجود و يبين الحدوث الذاتي للعالم. و هذان الحديثان يشيران الى حقيقة واحدة مضمونها: كان الله و لم يكن شيء غيره معه، و ان الله كان في عماء ( اشارة الى مرتبة ما قبل التجلي) ثم أراد الله فخلق فاوجد العالم بارداته.
انظر تمام البحث في الجواب التفصيلي.
الجذور التاريخية للبحث:
يضرب بحث الحدوث و القدم بجذوره في اعماق الفكر البشري من الفلسفة اليونانية و حتى العصر الاسلامي الذي قام فيه الفلاسفة المسلمون بتعديل و تطوير الكثير من النظريات الفلسفية حتى وصل الى القول بنظرية " الحدوث و القدم بالحق" التي اقتربت من نظرية التجلي للعرفاء، من هنا يمكن القول بان الحديث المروي عن النبي الاكرم (ص) لا يبتعد عن هذه النظرية بنحو ما.
و بعبارة أخرى: ان حقيقة بحث الحدوث و القدم إنما طرحت في الابحاث العرفانية، و أما ما طرحه البحث الفلسفي - الذي يبحث في الاصول العامة و الكليات- فهو يشابه - الى حد ما- ما طرحه الدهريون من دون ان يتمكنوا من الجمع بينه و بين ما تطرحه التعاليم الدينية في هذا المجال. من هنا نرى الاختلاف الشاسع بين بحث الازلية و التجلي و الوجود في العرفان و بين ما يطرحه الفلاسفة خاصة الدهريين منهم؛ و إن حاول ابن سينا و من بعده الملاصدرا ردم الهوة و نفي الاختلاف بينهما، بنحو يصح معه الجمع بين نظريتي القول بقدم العالم و حدوثه.
و لتوضيح المسألة نقول:
حاول ابن سينا بيان نظرية الفلاسفة في قدم العالم و التي يختلفون بها مع المتكلمين القائلين بحدوثه، من خلال طرح موضوع الحدوث و القدم الذاتي في مقابل الحدوث و القدم الزماني، مدعيا أن العالم حادث ذاتا و محتاج الى الى الخالق فهو ليس بقديم، و لكنه قديم زمانا، أو لا يمكن طرح فكرة الزمان بحقه أساساً.
ثم ان الملا صدرا حاول الاقتراب من العرفان بطرحه لنظرية "عين الربط" عارضاً رؤية جديدة لحدوث و قدم العالم اطلق عليها عنوان "الحدوث و القدم بالحق"، خلاصتها ان المعلول يعد عين الربط بالعلة، و ان العلة هي الوحيدة التي تتوفر على الاستقلال و الغنى الذاتي، و للوجود حدوث بالحق.
أما الرؤية العرفانية لهذه المسألة فتتمثل بنظرية "التجلي" و هي خارجة عن الزمان أولا، و ثانيا ان هناك مراتب و حضرات لتجلي الحق لكنها متفاوتة فيما بينها، و لكل مرتبة من حيث السعة الوجودية و الوحدة و الكثرة و... أحكام خاصة بها. المرتبة الاولى تتمثل في مرتبة العماء، ثم التجلي في الجبروت و الملكوت حتى عالم الزمان النجومي و المكان المادي.
و يظهر من هذه النظرية: أولا: ان تجلي الله تعالى يعني التبعية الكاملة له سبحانه و تنطوي في الوقت نفسه على الحدوث و القدم في ذاتها. و ثانيا: ان عالم الوجود له ابعاد و طبقات مختلفة كلها تمثل مراتب تجليات الباري تعالى. و على هذا الاساس تكون كل من مرتبة العماء و الجبروت و ...خارجة عن الزمان أساساً و غير حادثة زمانا. أما المراتب السفلى فهي عرضة للتغير و ان توفرت على منشأ لا يتغير.و في نفس الوقت جميع المراتب - بنحو عام- لها وجود في عين العدم، كالامواج و سطح البحر بالنسبة للبحر[1]. و هذه النظرية تختلف عن النظرية التي تذهب الى قدم عالم الظاهر. بل العرفاء يرون ظاهر العالم "صورة العدم" و" تجلي العماء" لا أنه وجود قديم. و بعبارة أخرى: لا علاقة للعارف بالحادث و لا يرى وجودا حقيقيا الا لله تعالى.
اتضح من خلال هذا البيان: اننا اذا اردنا ان نوجه نظرية الفلاسفة في قدم العالم لابد من حملها على النظرية التي طرحها العرفاء، و الا لا معنى للقول بقدم عالم الكون و الفساد. ثم ان جميع ما سوى الاله فان ٍ فلا يبقى – حسب النظرة القرآني- الا وجهه، او الوجهة الالهية للعالم الظاهر و التكثرات.
العلاقة بين بحث قدم العالم و حديث العماء[2]
ينبغي وضع حديث العماء الى جانب حديث " كان الله و لم يكن شيء معه" الذي يستند الى اصل الوجود و يبين الحدوث الذاتي للعالم. و هذان الحديثان يشيران الى حقيقة واحدة مضمونها: كان الله و لم يكن شيء غيره معه، و ان الله كان في عماء ( اشارة الى مرتبة ما قبل التجلي) ثم أراد الله فخلق فاوجد العالم بارداته.
و ليس أمامنا مفر في هذه القضية الا هذا التصور لخلق العالم لمقتضى توهم الزمان و المكان، و الحال ان المراد من القبلية القبلية الذاتية لله و بعدية التجلي الذاتي له سبحانه؛ لاننا لا نحمل أي تصوّر عن القبلية و البعدية من دون قيد الزمان، في الوقت الذي نعلم فيه بان البعدية الزمانية لا تصدق على افعال الله تعالى الذاتية؛ إذ لا معنى للزمان مع " كان الله و لم يكن شيء".
و لاريب انه من الصعب ادراك تلك الحقيقة من قبل الذهن المستأنس بالزمان و الذي لا يخرج من دائرته. من هنا جاء في ذيل الحديث " كان الله و لم يكن شيء معه" عن بعض العرفاء (و بعضم نسبه الى الامام علي –ع- ): " و ما زال كذلك"؛ يعني ان الله كان و لم يكن شيء و ما زال كائنا و لم يكن شيء معه؛ لان العارف لا يجد حقيقة قابلة للمشاهدة الا الله تعالى، و ما وجد بعد من الحوادث لا يستحق نسبة الوجود اليه. و هذا الكلام يشبه حديث العماء؛ بمعنى أن العارف لا يرى في الاشياء – غير الله- الا بعدها العمائي. فالقبلية و القدم تعني الرتبة و كل ما هو حاضر.
لمزيد الاطلاع انظر:
15689 (الموقع: ar15420) الله قبل خلق العالم .
11013 (الموقع: 10838) ربط الحادث و القدیم و المادة الاولی لخلق العالم.
[1] هذا مجرد تشبيه.
[2] حول البحث عن حديث عالم العماء، انظر: السؤال 11013 (الموقع: 10838) في موقع اسلام کوئیست.