هل عبادة الفئتین الأولیتین لیست لأنفسهم و هی ذات مرتبة متدنیة، إذا کان کذلک فما المراد بعبادة المجموعة الثالثة؟
بما أن الله حکیم و لا یأمر بشیء عبثی لا هدف له، فإن ما أمرنا به من العبادات لا بد و أن یکون له آثار و فوائد، و حیث إن الله غنی عن العباد و لیس محتاجاً إلى عبادتهم و سائر أعمالهم وجب القول أن فوائد العبادة و عوائدها لا ترجع إلى الله سبحانه و إنما تخص غیره (کالعبد الذی یؤدی العبادة أو غیره). و هذه الفوائد و الآثار لا تتنافى مع أهدافنا التی نتوخاها من إقامة العبادة و ذلک یعنی أنه على الرغم من أن بناء الإنسان لنفسه یکون بالعبادة الخالصة لله سبحانه إلا أن ذلک لا یتنافى مع حصول العابد على نصیب من فوائد العبادة و عوائدها.
و هدف الفرد من العبادة یرتبط بمستوى تفکیره و اطلاعه و معرفته و حیث إن الأنبیاء و الأئمة المعصومین (ع) یتربعون على القمة و یبلغون الذروة بالنسبة إلى مستوى الفکر و المعرفة فأهدافهم من العبادة هی الأعلى و الأسمى و التی تتمثل فی شکر الخالق على ألطافه، و إنهم یؤدون أعمالهم بکیفیة تتناسب و مقام عظمة الله و محل الربوبیة، و کلما کان الهدف من العبادة أسمى و أعلى کانت فوائد العبادة و عوائدها أکبر على العابد،
و من زاویة أخرى فإن الإنسان موجود ذو بعدین بلحاظ میوله الإلهیة و النفسیة، و من هنا یمکن أن یقال أن له نفسین إحداهما حقیقیة و الأخرى مجازیة، و أن الذی ورد ذمه فی الإسلام تلک النفس الحیوانیة التی یعبر عنها (بالنفس) مجازاً. و أما السعی و المکابدة فی طریق الارتقاء بالنفس الواقعیة إلى الله، فحقیقة هذا العمل أنه سعی إلى الله و سیر فی طریقه. فإذا کان هدف الإنسان من العبادة الارتقاء بالبعد الإلهی و التقرب إلى الله، ففی هذا الحال تکون عبادته منسجمة و موازیة لعبادة الله تعالى، و لا یمکن أن یقع فی الانحراف عن طریق الله قید شعرة.
یمکن أن یرتب الجواب عن السؤال فی قسمین:
1. الجواب الأول: مع أن العبادات تنطوی على آثار و فوائد، و لکن المعصومین (ع) لم ینظروا إلى هذه الفوائد و الآثار، و إنما هدفهم من العبادة هو الله وحده، و إنهم یعبدون الله من أجل الله لا من أجل أنفسهم.
و لإیضاح هذه المسألة لا بد من التوجه إلى ما یلی:
ألف. من البدیهی أن للعبادات آثارها و فوائدها، و لیس من قبیل الأعمال العبثیة غیر الهادفة، و ذلک لأن الله لا یأمر باللغو و العبث إطلاقاً و لا یتوعد على ترکه بالعذاب.[1] و لکن من المقطوع به أن آثار العبادة و فوائدها لا تتعلق بمقام الربوبیة، و لیس لها أی تأثیر على هذا المقام المتعالی کتقویة القدرة و رفع الدرجات و غیره. و ذلک لأنه لا یمکن تصور مرتبة و درجة فوق الرتبة الإلهیة، و کل المخلوقات بما فی ذلک الإنسان لا تساوی ذرة فی بحر عظمته اللامتناهی، إنه غنی بالذات و غناه لا یقبل الفقر حتى یکون للآخرین سد النقص و تعویض الخلل، و لیس لأحد أن یلحق به سبحانه أی ضرر حتى یمنع مثل هذا الضرر بواسطة عبادة العباد الخالصة.
فتأثیر هذه العبادة إذن یتعلق بالإنسان العابد و ما حوله من أناس آخرین و موجودات أخرى.[2] و لیس من فرق فی أن یؤدی العبادة أناس عادیون أو المعصومون (ع). و من الطبیعی أن المعصومین (ع) یحصلون على فوائد و عوائد فی عبادتهم أکثر من الناس العادین لأنهم یؤدون عباداتهم مقرونةً بمعرفة أکمل.
ب. إن آثار العبادة و فوائدها المعبر عنها بغرض الفعل و هدفه، لا ینبغی أن تخلط بهدف الفاعل، أی نیته و بواعثه، و لا یوجد أی تلازم بین کون هدف الفاعل عینه هدف الفعل.
و من الأفضل أن نوضح الفرق بین هدف الفاعل و هدف الفعل بالمثال التالی:
لو فرضنا وجود دواء فیه شفاء و فائدة للمریض، و لکن المریض یستنکف من تناوله، و لکن هذا المریض یکن احتراماً خاصاً لوالده، و إن والده یصر على تناول هذا الدواء. فالمریض هنا یتناول الدواء لا بسبب آثاره و فوائده، و إنما یتناوله طاعة و احتراماً لأوامر أبیه. فلا یوجد أی تلازم بین هدف الفاعل و هدف الفعل.
و الآن یمکن أن نقول: مع أن الله خیر الشاکرین، و معنى ذلک أنه لا یمکن أن یترک عملا من دون شکر، إلا أنه یوجد أناس لا یترکون عبادة الله سبحانه حتى لو تیقنوا من أن العبادة لا تجلب لهم أی نفع أو فائدة، و بما أن الله أمرهم بالعبادة، فإنهم یؤدونها امتثالاً لأمره، و إننا نعتقد أن أئمتنا من هذه الفئة من الناس.
ج. إن هدف الفاعل من أداء العبادة یحدد میزان تأثیرها و فوائدها، و معنى ذلک کلما کان هدف الفاعل من العبادة أکثر إخلاصاً کانت فوائدها أکبر و مساحة تأثیرها أشمل و أوسع و أفضل، و الواقع إذا کان العمل یؤدى لغیر الله فلا فائدة وراءه، و إذا جاء به الفاعل قاصداً به وجه الله فسوف یکون له أثر و فائدة و لکن العمل الذی یؤدى لله تعالى ذو مراتب و درجات.
فمنهم من یعبد الله طمعاً فی جنته، و تلک عبادة التجار، (و لیس لها ذلک الأثر و تلک الفائدة) و منهم من یعبد الله خوفاً من ناره و تلک عبادة العبید (و لیس لها أثر أو قیمة) و هناک فئة ثالثة تعبد الله لأنهم یرونه أهلاً للعبادة، یعبدونه شکراً لنعمائه، و هذه عبادة الأحرار (و هی ذات قیمة و آثار عظیمة)[3] و هذه الجملة من کلام الإمام علی (ع) الثمین، و إنها تشیر إلى هدف الفاعل عند ما یأتی بالفعل و مع أن الإنسان الذی یعبد طمعاً بالجنة أو خوفاً من النار لا یخرج عن دائرة الأهداف الإلهیة، لأن دخول الجنة و الفرار من النار مما أراده الله لعباده، و هما أثران طبیعیان لإقامة العبادة، و لکن على الإنسان أن یصل إلى مرتبة یعبد الله من أجل الله وحده.
و کما ذکرنا فإن آثار العبادة التی تکون خالصة لله سبحانه تعود على العابد نفسه، حیث ترفعه إلى مقام القرب و الرضا الإلهی و لکنه لم یؤد هذه العبادة من أجل آثارها و فوائدها.
و الإنسان الذی یصل إلى هذه المرحلة یرى العبادة طریقاً إلى العشق الإلهی[4] و لا یخطر ببال العاشق إلا وصال المعشوق، حتى یصل إلى مرتبة یتخلى فیها عن نفسه فلا یطلب لها شیئاً، و یجعل من کل وجوده قرباناً لمعشوقه.
2. الجواب الثانی:
و الجواب الثانی یعتمدعلی القول بأن الإنسان موجود ذو بعدین:
1. البعد الإلهی، 2. البعد النفسانی، و قد عبر عن أحد البعدین بالحقیقی و الآخر بالمجازی.[5] و ما ورد ذمه فی الإسلام، و تسمیة محاربته و مجاهدته بالجهاد الأکبر هو البعد النفسانی المجازی و ما ینزع إلیه من مطالب، و إذا ما ورد فی القرآن: "فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِینَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِیهِمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَلا ذَلِکَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِینُ"[6] فالمراد النفس و (الأنا) الواقعی.
و هذه حقیقة عبر عنها القرآن بالقول: "وَ لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".[7]
أی الإنسان یکتشف هذه النفس عند ما یکتشف الله سبحانه، و لذلک فشهود النفس لا ینفصل عن شهود الله.[8]
و هذا النوع من (الأنا) و النفس لا ینبغی محاربتها و مجاهدتها، بل من اللازم إعزازها و إکرامها، و لهذا لا یحق للإنسان أن یعمل عملاً یذهب بماء وجهه بین أفراد المجتمع.[9]
و بحسب تعبیر الشهید المطهری (ره): إن روح العبادة و حقیقتها فی التوجه إلى الله، و فیها عودة إلى النفس الواقعیة، فالإنسان إنما یجد نفسه الحقیقیة من خلال العبادة و التوجه إلى الله سبحانه.[10]
و على کل حال، إذا کان هدف الإنسان من العبادة الارتقاء ببعده الإلهی و التقرب إلى الخالق و کان یؤدی عباداته بهذه النیة و هذا الهدف فإن هذه العبادة التی ترتقی بروحه إلى المراتب المعنویة الأسمى هی العبادة التی تنسجم و تتسق مع عبادة (الله) و تسیر معها فی نفس الاتجاه و لا تنحرف عن مسیر الحق هذا قید أنملة، و إن عبادة المعصومین(ع) من هذا النوع، و نحن العادیون ینبغی لنا أن نوجه عبادتنا بنفس هذا الاتجاه و نضعها على هذا الطریق، _طریق المعصومین (ع).
و على هذا الأساس فعلى الإنسان أن یکون محباً لذاته فی هذه الصورة أی أنه یعرف قیمة أبعاد نفسه الإلهیة و یحبها و یتمسک بها و لا یتساهل فی ترکها تضیع هباءً، و إنما یسلط طریقاً یؤدی به إلى تنمیتها و ازدیادها، لأن حب النفس بمعنى حب أبعاد النفس الإلهیة هو حب لله فی واقعه. إذن ما هو مذموم فی الإسلام هو السعی و الرکض فی طریق حب الأبعاد النفسیة الحیوانیة الشهوانیة، بینما یکون السعی و الکدح من أجل الارتقاء بأبعاد النفس الإلهیة کدحاً و سیراً إلى الله فی حقیقته و لذا إذا کان هدف شخص یستأجر لأداء عبادة نیابیة عن شخص آخر کالحج مثلاً هو ارتقاء أبعاده الإلهیة الواقعیة.[11] فإن هذا الهدف ممدوح بالنسبة إلیه.
[1]. "إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ". غافر، 60. ترجمة، مکارم الشیرازی.
.[2] وردت الإشارة فی القرآن الکریم و الروایات إلى آثار العبادة، فالقرآن مثلاً یعبر عن فائدة الصوم بالقول: " لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، 183) أو ما جاء عن الصدیقة الزهراء (ع) فی أن الصلاة تزید من التواضع و تقول: "فرض الله الصلاة تنزیها من الکبر" بحار الأنوار، ج 82، ص 209؛ میزان الحکمة، ج 5، ص 375، و لذلک قیل أن العبادة مدرسة لصنع الإنسان، و من الطبیعی أن إصلاح الفرد یؤدی إلى إصلاح المجتمع. و للتعرف على آثار العبادة توصی بمراجعة کتاب (حکمة العبادة) لجوادی الآملی.
[3]. نهج البلاغة، قصار الحکم، 237.
[4]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): "أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَشِقَ الْعِبَادَةَ فَعَانَقَهَا وَ أَحَبَّهَا بِقَلْبِهِ وَ بَاشَرَهَا بِجَسَدِهِ وَ تَفَرَّغَ لَهَا فَهُوَ لا یُبَالِی عَلَى مَا أَصْبَحَ مِنَ الدُّنْیَا عَلَى عُسْرٍ أَمْ عَلَى یُسْرٍ" الکافی، ج 2، ص 83.
[5]. و هذا نفسه له درجات تبدأ من محوریة الذات و تختم العقد النفسیة، و للاطلاع انظر: الإنسان الکامل للشهید مرتضى المطهری، ص 216-225.
[6]. الزمر، 15.
[7]. الحشر، 19.
[8]. انظر: الإنسان الکامل، نفسه، ص 236.
.[9] للاطلاع الأکثر، انظر: الإنسان الکامل، الأستاذ العلامة الشهید المطهری، ص 224-225.
.[10] المصدر نفسه، ص237 و 238.
.[11] و فی هذه الحالة مع أن الثواب من نصیب المستأجر، و لکن العبادة الخالیة من الریاء و التی یقصد بها القربة إلى الله لابد و أن تکون فیها فوائد کثیرة على مستوى الأبعاد الروحیة و التربویة، و من هنا فإن أهداف الأجیر یمکن أن تکون عدة أشیاء:
1. الوصول إلى الأهداف التربویة فقط.
2. الحصول على المال المتفقه علیه کأجرة.
3. جعل الأمرین هدفاً له.
من الممکن أن یرد إلى الذهن أن الصورة الثانیة فیها إشکال، حینما یکون هدف الأجیر الحصول على المال فقط. و لکن مع أن الحصول على المال بالنسبة إلى الأجیر لا یحمل أبعاداً تربویة بالنسبة له، و مع ذلک إذا کان هدفه فی الحصول على هذا المال سد احتیاجاته المادیة و ضروراته الحیاتیة و کف یده عن الناس ففی واقع الأمر أنه حفظ نفسه الواقعیة فی هذا العمل، و إن ما یأتی به من عبادة یکون له أثر إیجابی على روحه و نفسه و أبعادها الإلهیة (و فی الدقة فإن الأجرة صارت داعیاً و هدفاً یقرب العبد من الله، و لکن لماذا یسعى لتحصیل الأجرة ذلک من أجل هدف آخر إذن فتقاضی الأجرة لا یتنافى مع قصد القربة من العبادة و لا مع النفس الواقعیة).