و هنا یطرح السؤال التالی: هل القرآن یرى أن السماء کالسقف الحقیقی و لها ابواب و تسقط و تتشقق؟ و ما هو التوجیه العلمی لهذه الایات التی یظهر انها متعارضة؟
وردت کلمة السماء فی القرآن الکریم فی اکثر من موضع، و تعنی العلو الذی له مصادیق متعددة؛ و من الواضح أن من بین الایات التی ذکرت فی متن السؤال نرى الایة الوحیدة التی جاءت بصیغة الجمع" السماوات" هی الایة العاشرة من سورة لقمان، و یراد بها السماء المعروفة، و اما الایتان الاخریتان فیراد بهما الفضاء الجوی " جو الارض" حیث وصف الفضاء الجوی کالسقف، بمعنى أن جو الارض مثله مثل السقف المحکم المتراکم الذی یحیط بالکرة الارضیة لیحفظها من سقوط الکرات السماویة و....
اما بالنسبة الى فتح السماء فالمراد به السماء المعنویة و اتصال عالم الناسوت بعالم الملکوت. یعنی أن الایة تشیر الى حقیقة مفادها انه الى ذلک الوقت عالم الانسان منقطع عن عالم الملائکة و انه قد حان الوقت لانتهاء هذا الانفصال و القطیعة بین العالمین و ذلک لانتهاء عالم المادة و ابتداء عالم جدید؛ و بذلک حصل الاتصال بین الملائکة و بین الانسان.
و من خلال مراجعة الجواب التفصیلی و مطالعته بامعان سوف یتضح لکم انه لایوجد ادنى تعارض او تهافت بین الایات المذکورة، بل سوف یتبین لکم انها من ضمن الایات التی دلت على عظمة الکتاب و کونه کتابها الهیا.
للاجابة عن السؤال المطروح لابد من بیان المراد من السماء و ما هو الدور الذی یقره القرآن الکریم لهذه السماء؟
الف: استعمل القرآن الکریم مصطلح السماء کثیراً.
ان کلمة السماء فی اللغة تعنی الطرف المرتفع، و هذا المفهوم الجامع له مصادیق مختلفة، من هنا نجدها قد استعملت فی القرآن الکریم فی عدة معان مختلفة:
1- تارة استعملت بمعنى العلو ای القسم المجاور للارض حیث قال تعالى ": أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ"[1]
2- و تارة اخرى استعملت و ارید بها المنطقة البعیدة عن سطح الارض " مکان الغیوم" قال تعالى " وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَکاً "[2].
3- و اطلقت ثالثا لیراد بها الفضاء المتراکم حول الارض"الغلاف الجوی" حیث قال تعالى " وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً "[3].
و انه تعالى حینما قال " و جعلنا السماء سقفا محفوظا" انطلاقا من کون الفضاء الارضی مشابها للسقف المرتفع فوق رؤسنا و انه بنحو من الاستحکام بحیث یکون حافظا للکرة الارضیة من الاحجار التی تتساقط فی على طول الوقت بسبب الجاذبیة و الحرکة؛ فان لم یکن هذا الفضاء الجوی "المعبر عنه بالسقف" موجودا فان الارض ستکون معرضة دائما لسقوط هذه الاحجار و الشهب الخطیرة، لکن وجود الفضاء الجوی کان سببا لتحول هذه الاحجار الى رماد بعد احتکاکها مع الفضاء الجوی و اشتعالها.
4- کذلک اطلق السماء و ارید بها "الکرات العلویة" حیث قال تعالى " ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ "[4] و[5]
5- الاصطلاحات الاخرى للسماء
و رد فی آیات اخرى التعرض لذکر خلق السماوات السبع.[6] و المراد هنا المعنى الواقعی للسموات السبع، یعنی أن المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. و تکرر هذه العبارة فی آیات الذکر الحکیم یدل على أن العدد المذکور فی هذا الآیات لا یعنی الکثرة، بل یعنی العدد الخاص بالذات.
و یستفاد من آیات اخرى أن کل الکرات و السیّارات المشهودة هی جزء من السماء الاولى، و ثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤیتنا و وسائلنا العلمیة الیوم. و هذه العوالم السبعة هی التی عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.
یقول تعالى:" وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیح"[7] و یتضح من ذلک أن ما نراه و ما یتکون منه عالم الأفلاک هو جزء من السماء الاولى، و ما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى لیس لدینا الیوم معلومات عن تفاصیلها[8]
نحن نرى الیوم أنه کلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اکتشفت عجائب و مجاهیل عظیمة. علم الفلک تقدّم إلى مرحلة بعیدة جدا فی الرصد عن طریق التلسکوبات، ثم توقفت قدرة الرؤیة إلى أکثر من ذلک.[9]
تحصل ان المعنى المراد من السماء فی القرآن هو الطرف العلوی و له مصادیق متعددة منها" الغلاف الجوی" و " الطرف المرتفع المقابل لسطح الارض" و" مکان الغیوم" و.... نعم اطلق لفظ المساء فی بعض الایات القرآنیة الاخرى و ارید منه معنى السماء المتعارف ای محل النجوم و الکواکب.
ان التطور الکبیر فی علم الفلک الیوم والذی لایمکن مقارنته بای حال من الاحول بعلم الفلک قبل اربعة عشر قرنا یشکف عظمة عالم الوجود و صغر الکرة الارضیة و عالم الدنیا بالنسبة الیه، حتى أبعد ما اکتشفته دوائر الأرصاد الفلکی العالمیة حتى الآن مسافة فی الکون تعادل ألف ملیون (ملیار) سنة ضوئیة. و الراصدون یعترفون أن أقصى ما اکتشفوه هو بدایة الکون لا نهایته. و ما یدریک أن العلم سیکتشف فی المستقبل سماوات و عوامل اخرى! من الأفضل أن نسمع هذا الحدیث عن لسان مرصد عالمی کبیر.[10]
اما النسبة الى الآیات التی وردت فی متن السؤال فیمکن دراستها بالنحو التالی:
1- الانبیاء32: " وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آیاتِها مُعْرِضُونَ ".
لقد مر البحث فی هذه الایة عن الاعجاز العلمی وعظمة القرآن الکریم العلمیة.
2- لقمان 10: " خَلَقَ السَّماواتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ".
ان هذه الایة تکشف عن عظمة المتحدث بها و ان علمه علم غیر متناه و غیر محدود بزمام او مکان ما. ان هذه الایة لم تقل لم تقل ان السماء رفعت بدون عمد بل تقول بغیر عمد ترونها[11] و هذا هو قانون الجاذبیة[12] الذی لم یکتشفه العلم الا فی القرون المتاخرة کثیرا عن نزول القرآن؛ و هذا من الامور العجیبة التی اخبر عنها القرآن عنها قبل اربعة عشر قرنا فی الوقت الذی کان فیه العلم ما زال یحبو و یعیش مرحلة الطفولة.
3- البقرة،22:" الَّذی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً".
و رد فی تفسیر الامثل اشارة لطیفة حول هذه الایة و هی: ان الآیة استعرضت قسما آخر من النعم الإلهیة التی تستحق الشکر، ذکرت أوّلا خلق الأرض:" الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً".
فهذه الکرة السائرة بسرعة مذهلة فی الفضاء، قد سخرت للإنسان کی یمتطیها و یستقر علیها دون أن تؤثر علیه حرکتها.
و تتجلى عظمة نعمة الأرض أکثر حین نلاحظ خاصّیة الجاذبیة التی تؤمّن لنا إمکانیة الاستقرار و إنشاء الأبنیة و المزارع، و سائر مستلزمات الحیاة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصیة لحظة واحدة لتناثر کل ما على هذه الأرض من إنسان و حیوان و نبات فی الفضاء! تعبیر «فراش» یصوّر بشکل رائع مفهوم الاستقرار و الاستراحة، کما یصوّر إضافة إلى ذلک مفهوم الاعتدال و التناسب فی الحرارة.
ثم تتعرض الآیة إلى نعمة السماء فتقول:" وَ السَّماءَ بِناءً".
کلمة «سماء» وردت فی القرآن بمعان مختلفة، و کلها تشیر إلى العلو، و اقتران کلمة «سماء» مع «بناء» یوحی بوجود سقف یعلو البشر على ظهر هذه الأرض. بل إنّ القرآن صرّح بکلمة «سقف» فی بیان حال السماء إذ قال:" وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً « الانبیاء 32».
من هنا لا بدّ من توضیح لمفهوم السماء و البناء و السقف فی التعبیرات القرآنیة.
ذکرنا أن سماء کل شیء أعلاه، و أحد معانی السماء «جوّ الأرض»، و هو المقصود فی الآیة الکریمة. و جوّ الأرض هو الطبقة الهوائیة الکثیفة المحیطة بالکرة الأرضیة، و یبلغ سمکها عدّة مئات من الکیلومترات.
لو أمعنّا النظر فی الدور الحیاتی الأساس الذی تؤدیه هذه الطبقة الهوائیة لفهمنا مدى استحکام هذا السقف و أهمیته لصیانة البشر.
هذه الطبقة الهوائیة مثل سقف شفّاف یحیط بکرتنا الأرضیة من کل جانب، و قدرة استحکامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذیة، على الرغم من أنه لا یمنع وصول أشعة الشمس الحیویة الحیاتیة إلى الأرض.
لو لم یکن هذا السقف لتعرضت الأرض دوما إلى رشق الشهب و النیازک السماویة المتناثرة، و لما کان للبشر أمان و لا استقرار على ظهر هذا الکوکب، و هذه الطبقة الهوائیة التی یبلغ سمکها عدّة مئات من الکیومترات تعمل على إبادة کل الصخور المتجهة إلى الکرة الأرضیة، و قلیل جدا من هذه الصخور تستطیع أن تخترق هذا الحاجز و تصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعکّر صفو حیاتهم.[13]
اما المراد من الایة 19 من سورة النبأ فهو ان الایة تشیر الى امر معنوی وهو اتصال عالم الانسان بعالم الملائکة. یعنى الى ذلک الوقت کان عالم الانسان منفصلا عن عالم الملائکة و قد حان الوقت للاتصال بین العالمین لانه قد طویت صفحة العالم المادی و جاء دور عالم جدید من هنا ارتبطت الملائکة مع الانسان.[14] و فی تفسیر القمی، و قوله: «وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَکانَتْ أَبْواباً» قال: تفتح أبواب الجنان.[15] و ان کان بعض المفسرین قد فسر هذه الایة و الایة الاولى من سورة الانفطار بالسماء المادیة.[16]
[1] ابراهیم،24.
[2] ق، 9.
[3] الانبیاء، 32.
[4] فصلت،11.
[5] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج1، ص: 151، نشر مدرسة الامام علی بن ابی طالب، قم.
[6] البقرة، 29 ؛ فصّلت، 12؛ الطلاق ،12؛ الملک، 3 ؛ نوح، 15.
[7] فصلت،12.
[8] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج1، ص: 152.
[9] نفس المصدر، ج1، ص: 153.
[10] نفس المصدر،
[11] المیزان فی تفسیر القرآن ، ج 11 ، ص 287 .
[12] المیزان فی تفسیر القرآن ، ج 11 ، ص 288 .
[13] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج1، ص: 112-114.
[14] المیزان فی تفسیر القرآن ، ج 20 ، ص 166 .
[15] المیزان فی تفسیر القرآن ، ج 20 ، ص 176.
[16] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج19، ص: 341.