انطلاقاً من المقدمات السابقة يمكن الخروج بالنتيجة التالية: إن الدليل الشرعي – قرآنا و سنة- يثبت أن موضوع الارتداد خرج عن دائرة الحرية الدينية التي أيدها الاسلام الحنيف[i]، و تحول الى اسلوب سياسي يهدف تضعيف الاسلام و كسر شكوته، و لاريب أن هكذا قضية تستدعي التفكير الجاد بها و وضع الحلول الناجعة لها، و من هنا وضع الفكر الاسلامي حلا لهذه القضية من دون أن يمس حرية الانسان بالبحث و التنقيب المنطقي في المسائل المثارة و القضايا العقائدية، و ترك الحرية للانسان غير المسلم و عدم اكراهه على اعتناق الدين الحنيف، فاصدر حكماً قد يصل الى حد اعدام المرتد فيما اذا جاهر بارتداده؛ ليحد من خلال هذا الطريق عن استغلال هذه القضية كحربة يضرب بها الاسلام و اثارة الفتن في المجتمع الاسلامي. فالقضية تنسجم مع حرية المعتقد من جهة و عدم الاكراه على اعتناق الدين من دين أخرى، و هي في الحقيقة لا تخرج عن كونها اجراء رادع و وقائي لكي لا تتخذ وسيلة للمنحرفين اخلاقيا و المعاندين سياسياً من التلاعب بمشاعر الناس و زعزعة معتقداتهم.
علما أن الاحكام الفقهية الاولية غير قابلة للتلاعب و التغيير حتى من قبل أئمة الدين، و إنما للحاكم الشرعي التحرك في دائرة الاحكام الولائية و الحكومتية التي تكشف عن مرونة الفقه الاسلامي.
لكي تتضح المسألة بنحو أفضل ينبغي التعرض لمجموعة من النقاط المهمة:
1. من الامور التي يوفرها الاسلام للانسان أنه أتاح له البحث و التنقيب و السؤال عن جميع القضايا و لم يضع خطاً أحمر مقابل أي مسالة سواء كانت على المستوى العقائدي او التشريعي، بل يُوجب على البشر السؤال و الاستفسار في بعض الاحيان.[1] و لكل انسان مسلم – انطلاقا من المستوى الذي هو فيه- الخوض في قضايا الدين الحنيف و الاستفسار عنها حتى يصل الى اليقين فيها، و مع الترديد و الشك في بعض القضايا التي لا تضر بجوهر الاسلام و حقيقة الايمان لا يمكن اقصاء ذلك الشخص عن قائمة المسلمين.[2]
2. يرى الاسلام ان المرتد من وصل الى الحقيقة و عرف حقانيت الاسلام ثم ارتد بلا مبرر موضوعي يبيح له الارتداد.
قال تعالى في كتابه الكريم: " إِنَّ الَّذينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُم".[3]
3. يشير القرآن الكريم الى ما يعتلج في نفوس بعض الكافرين للنيل من الاسلام حسداً و بغضا و سعيهم الحثيث لالقاء الشك في قلوب المسلمين و السائرين على نهج الدين الاسلامي الحنيف، كما في قوله تعالى: " وَدَّ كَثيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ".[4] و قد بذل هؤلاء القوم قصارى جهدهم في القاء الشبهات و إثارة التشكيكات أمام المسلمين، و مع ذلك كله نجد الباري تعالى قد أمر المسلمين بالصفح عن جهلهمْ و مقابلتهم بحججِ اللَّه و دْفع أَباطيلَهم.[5]
و من الواضح جداً أن الاسلوب الامثل الذي رسمه القرآن الكريم في التحاور مع اصحاب الديانات المختلفة ان الحوار ينبغي أن يقوم على قاعدة " وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون".[6]
4. ان المخططات التي اشرنا اليها اصطدمت بمنطق الاسلام القوي فلم يكن لها ذلك الأثر العملي، و من هنا حاول خصوم الاسلام الانتقال الى اسلوب آخر ليوحوا للآخرين بهشاشة و ضعف المنطق الاسلامي و من هنا لا يمكن للعقلاء من البشر الدخول في دين لا يقوم على اسس منطقية رصينة!!، و قد تمثلت الخطة المذكورة بان يتظاهر هؤلاء المعاندين بانهم انسان يبحثون عن الحقيقة فيعتنقوا الدين الاسلامي ظاهرا، ثم بعد فترة يخرجون منه بحجة أن المنطق القرآني و الاسلامي لا يساعدان على اعتناق هذا الدين، و بهذا يلقون الريب و الشك في نفوس المسلمين، و قد أشار القرآن الكريم الى هذا المخطط الخطير في قوله تعالى: " وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذي أُنْزِلَ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".[7]
انطلاقاً من المقدمات السابقة يمكن الخروج بالنتيجة التالية: إن الدليل الشرعي – قرآنا و سنة- يثبت أن موضوع الارتداد خرج عن دائرة الحرية الدينية التي أيدها الاسلام الحنيف[8]، و تحول الى اسلوب سياسي يهدف تضعيف الاسلام و كسر شكوته، و لاريب أن هكذا قضية تستدعي التفكير الجاد بها و وضع الحلول الناجعة لها، و من هنا وضع الفكر الاسلامي حلا لهذه القضية من دون أن يمس حرية الانسان بالبحث و التنقيب المنطقي في المسائل المثارة و القضايا العقائدية، و ترك الحرية للانسان غير المسلم و عدم اكراهه على اعتناق الدين الحنيف، فاصدر حكماً قد يصل الى حد اعدام المرتد فيما اذا جاهر بارتداده؛ ليحد من خلال هذا الطريق عن استغلال هذه القضية كحربة يضرب بها الاسلام و اثارة الفتن في المجتمع الاسلامي.
و لتعزيز البحث يمكن الاشارة الى النقاط التالية:
1. ينبغي الالتفات الى أن الارتداد الذي يترتب عليه الجزاء الشرعي هو ذلك الارتداد الذي تترتب عليه آثار عملية من قبيل إهانة الرسول الاكرم (ص) و أهل بيته (ع) او انكار ضرورة من ضروريات الدين، و لا يعم الشك و التساؤل عن قضايا الدين المجردة عن الاجهار بالارتداد، حتى و ان وصل صاحبها الى نقد جميع الاصول بحثا عن الحقيقة و طلباً للاجابة الصحيحة عن تساؤلاته.
2. لو قدر لشخص ما أن تتزعزع ثقته بدينه بسبب الشبهات المثارة و الاشكالات التي قد تعترض طريقه، الا ان ذلك التزعزع يبقى سرا في باطنه و لا يظهره للعلن، فمثل هكذا انسان لا انه لم يتعرض للعقاب فقط، بل لو عاد الى الدين مرّة أخرى تحسب له حسناته و اعمال الخير التي قام بها سابقاً.[9]
3. لاريب ان العدول من دين الى دين آخر خاصة العدول من الدين الاسلامي يقتضي أن يكون مدعوما بالديل القوي و الحجة الواضحة، الا ان الملاحظ على الخارجين عن الدليل الاسلامي افتقارهم الى هذا المنطق القوي و البرهان الذي دعاهم الى العدول عن الدين الاسلام الا بعض الافراد الذين قد يرآى أنهم على مقدار من الحجة و البرهان، و هذا يكشف عن ان الاعلان عن الارتداد من دون أن تكتمل الحجة و يتم البرهان القوي عليه، لا يمثل الا حالة من حالات الانحراف الاخلاقي او العداء السياسي!!
4. اتضح مما مر أن حكم الارتداد في حقيقته يعد من الاحكام ذات البعد الردعي، لان اثبات الارتداد مع هذه الشروط و القيود يعد من الامور الصعبة جداً و انه في الوقت الذي يشمل في واقعه ذوي الشكوك الحقيقة في الدين الاسلامي الا انه لا يطبق عليهم العقاب ما لم يصرحوا - بما لاريب فيه- بارتدادهم، و من هنا نجد مصاديق من يطبق عليهم حكم الارتداد قليلين جداً.
5. و في الختام ينبغي الالتفات الى أن الاحكام الفقهية الاولية غير قابلة للتلاعب و التغيير حتى من قبل أئمة الدين، و انما للحاكم الشرعي التحرك في دائرة الاحكام الولائية و الحكومتية التي تكشف عن مرونة الفقه الاسلامي.[10]
[1] تشير بعض الرسائل العملية الى لزوم تحصيل اليقين باصول الدين.
[2] لمزيد الاطلاع انظر: السؤال رقم 6167 (الموقع: 6550).
[3] محمد، 25.
[4] البقرة، 109.
[5] المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار، ج 97، ص 67، ح 15، مؤسسه الوفاء، بیروت، 1404 ه ق.
[6] العنكبوت، 46.
[7] آل عمران، 72.
[8] البقرة، 256، "لا اکراه في الدین".
[9] انظر في هذا المجال: الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج 16، ص 105 – 104، ح 21099، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 ه ق.