إن عالم الوجود هو النظام الأحسن الذی خلقه الله فی أحسن وجه ممکن. لکل شیء وحدث فیه مرتبة خاصة و مقام معلوم. و یدبر هذا النظام عبر سلسلة من القوانین التی لا تتبدل و لا تتغیر.
من لوازم النظام الأحسن للوجود هو أن تکون المخلوقات على درجات و مراتب مختلفة. إن هذه الاختلافات و الفوارق لا تخلق، بل هی لازم ذاتی للمخلوقات فیخلقهم الله سبحانه على قدر لیاقتهم و سعتهم الوجودیة؛ لأنهم لا یتقبلون أی رتبة سوى رتبتهم التی خلقوا فیها.
یحتوی الجواب على أربعة أقسام:
القسم الأول: لا شک فی أن هذا العالم منظم و نظمه ذاتیّ. و هناک علاقة حقیقیة بین أجزاء العالم تشبه مراتب الأعداد. نجد فی الأعداد أن رتبة "الواحد" قبل "الاثنین" و رتبة "الاثنین" قبل "الثلاثة" و بعد "الواحد"، کما نجد أن جمیع الأعداد ما عدى "الواحد" تأتی مسبوقة بعدد و سابقة لآخر. و قد احتل کل عدد رتبة و له الأحکام و الآثار الخاصة بها و بهذا شکل مجموع الأعداد اللامتناهیة نظاماً، و هذا النسق و النظام الموجود فی مراتب الأعداد أمر ذاتی.
إن هذا النظام الذاتی نفسه قائم بین المخلوقات فی عالم الوجود. یعنی أن الله سبحانه و تعالى لم یخلق مجموعة من الأشیاء دون وجود أی علاقة بینهم، ثم یأتی ویسطرهم فی صفّ واحد و یجعل بعضاً خلف بعض.
القسم الثانی: النظام القائم فی عالم الوجود هو النظام الأحسن. یعنی کل ما موجود فی العالم هو فی غایة الحسن و خلق فی أحسن حالة، بحیث لا یمکن أن یتصور أحسن منه. یقول القرآن الکریم فی ذلک: "الَّذی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْءٍ خَلَقَه"[1]
القسم الثالث: هناک سنن و قوانین تتحکم فی نظام الوجود و الله سبحانه یدبر العالم عبر هذه القوانین و لا یتجاوزها أبدا کما أنها لا تتغیر و لا تتبدل کما یقول القرآن الکریم: "وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدیلاً ".[2]
القسم الرابع: أحد قوانین هذا العالم هو قانون العلیة. و بمقتضى هذا القانون لکل موجود فی نظام الوجود شأن و مقام معلوم. فلولا هذا القانون لتمکن کل شیء أن یوجد أی شیء و لتمکن أیّ معلول أن یحتل رتبة أی علة و تمکنت أی علة أن تأتی فی مکان أی معلول؛ یعنی یتساوى أثر شعلة الکبریت مع أثر شعلة الشمس فی حین أنه لیس کذلک.
إن حاکمیة قانون العلیّة على العالم أمر واضح لأن لکل معلول علة خاصة به و لکل علة أثر و معلول خاص بها و لیست مراتب موجودات العالم من قبیل الرتب الوضعیة و الاعتباریة الرائجة فی الأوساط الاجتماعیة و التی لا یفرق فیها أن یکون فلان رئیسا و فلان مرؤوسا أو بالعکس. و أما مراتب موجودات العالم فهی مراتب حقیقة و واقعیة و على أساسها لا یستطیع الخروف أن یکون أنساناً و لا یمکن للإنسان أن یکون خروفاً أو نباتاً. و لا معنى لسؤال "لماذا" هنا بأن یسأل أحد لماذا خلق هذا نباتا و هذا إنسانا و ذلک حیوانا. ففی کلمة واحدة نقول: إن الفرق فی موجودات العالم هو ذاتیّهم و هو مقتضى نظام العلة و المعلول.[3]
إذن معنى ما یقال إنه تعالى یخلق کل موجود بحسب لیاقته، هو أن الله سبحانه و تعالى یخلق الأشیاء یحسب استعدادها و استیعابها الذاتی. لیست الدرجات و الرتب التی قسمت على المخلوقات حین خلقهم و التی جعلت شیئا جمادا و الآخر نباتا أو غیره من قبیل المناصب الاجتماعیة کالرئیس و المرؤوس حتى یمکن تغییرها و تبدیلها، بل هذه المواقع مثل خواص الأشکال الهندسیة ذاتیة لها. عندما نقول إن خصوصیة المثلث هو أن یعادل مجموع زوایاه زاویتین قائمتین و خصوصیة المربع هو أن یکون مجموع زوایاه أربع قوائم لیس یعنی أنه أعطی لواحد خصوصیة التعادل مع قائمتین و أعطی الآخر خصوصیة تعادله مع أربع قوائم. فلهذا لا یمکن أن یقال: لماذا ظلم المثلث و لم یمنح خصوصیة أربع قوائم أو بالعلکس. لأن المثلث لا یمکن إلا أن یحتوی على تلک الخصوصیات المعینة و الاستیعاب الخاصّ به.
إن رتب الخلائق فی العالم هکذا أیضا. إن کون الجماد لا ینمو و لا یشعر و کون النبات ینمو و لا یشعر و کون الحیوان ینمو و یشعر، هذا ذاتی رتبة کل فئة منهم؛ لا أنها خلقت فی البدایة سواسیة فی رتبة واحدة ثم أعطى الله لیاقة النمو و الشعور لواحد و حرم آخر کل هذه المواهب و أعطى الآخر موهبة واحدة دون الأخرى. إذن هذا التصور تصور خاطئ و هو أن نفترض أن الله سبحانه و تعالى خلق الأشیاء على درجة واحدة ثم فضل بعضهم على بعض. بل الصحیح هو أن نقول إن کل واحد من الأشیاء إنما یتقبل درجة واحدة و مستوى واحدا من الوجود فحسب و إن الله لا یعطیه إلا تلک الخلقة الخاصة به. کما قال ابن سینا: "ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها."
من أجل اتضاح المسألة أکثر لاحظوا هذا المثال: تتکوّن السیارة من عدة أجزاء من قبیل البراغی و الصامولات الکبیرة و الصغیرة و الهیکل و المحرک و العجلات و المصابیح و المقود و غیر ذلک. لکن لم یصنع الصانع والمهندس فی البدایة مجموعة من القطع بشکل مساو ثم یجعل قطعة مقوداً و الأخرى عجلة و... بل من البدایة صنع کلا من البراغی و الصامولات الکبیرة و الصغیرة و الهیکل و المحرک و العجلات و المصابیح و السکان لوحدها ثم جعل کل واحدة فی مکانها لتقدر السیارة على أداء دورها بالشکل المطلوب.