یعتقد الحکماء، بأن الحواس الظاهریة تنقطع فی المنام، تدریجاً، عن العالم الخارجی، بینما تبقى الحواس الباطنیة واعیة، و أن النفس فی المنام ترتبط بعالم الملکوت، لعدم الانشغال بالعالم الخارجی و التفرغ التام منه، و کلّما کان تفرّغ النفس عن عالم المادة أکثر کلما کان اتصالها بعالمها أقوى وأکثر شفافیة .
قد لا یتّفق للنفس أن تتّصل بعالم الملکوت لانشغال الذهن بتخیلاته، وقد تتصل فی بعض الحالات بعالم الملکوت، و لکن بسبب تأثره بالأمور الذهنیة الشخصیة، یتغیر الاتصال و یتحوّل، و قد یکون الاتصال فی حالات خاصة، قویاً، بحیث تعمل النفس کمرآة صافیة و خالیة من التصورات و الخیالات الزائدة، فلا تتصرّف بمشاهداتها.
و من هنا یأتی سبب تقسیم الأحلام إلى "أضغاث أحلام"، و "الرؤیا الصادقة أو الصالحة".
و تجدر الإشارة الى أن عالم الملکوت عنوانٌ عام لمراتب عالم ما وراء الطبیعة، و تنقسم هذه المراتب أیضاً إلى طبقات متعددة، و لذلک تختلف الأحلام التی یراها الفرد فی المنام باختلاف مستوى رقی النفس و کمالها. و علیه یستلزم فهم سبب کل واحد من هذه القضایا تحلیل و دراسة حقائق مختلفة فی عالم الملکوت. و من جملتها أسباب هذه التنبؤات (الأحلام) التی تحصل فی المنام هی اتصال النفس بالألواح النوریة أو مرتبة من مراتب اللوح المحفوظ، وهی محل تسجّل فیه الأحداث المختلفة مجردة عن الزمان والمکان.
و أما حول إمکان وعی الذات فی المنام فیمکن القول، إن النفس الحاضرة فی الرؤیا هی ذاتها حاضرة فی المنام، إلا أنها تحرّرت عن قیودها الجسمانیة. و الفارق الموجود بین هاتین الحالتین، أی وضعیة التعلق بالأمور الجسدیة و الدنیویة، و وضعیة التحرّر من هذا التعلق، هو نتیجة الاختلاف الموجود فی نطاق المجهود الذهنی، و لیس فی ماهیته، و لذلک یمکن رفع الحواجز الموجودة بین الذاکرة فی حالة الیقظة و المنام من خلال ارتقاء وعی الذات، حتى یدرکِ الذهن ـ بنفس الارادة التی تعمل فی حالة الیقظة شعوریاً ـ نفسه فی عالم الرؤیا و یعمل بحالة إرادیة.
بدایة، و من أجل تنظیم البحث منطقیاً، یجب أن نبحث فی ماهیة الرؤیا لیتبین بعد ذلک تلقائیاً مفهوم الرؤیا الصادقة و أسباب تحقق بعض الأحلام فی العالم الخارجی.ثم نعتمد ذلک فی البحث عن إمکانیة معرفة الذات فی الأحلام و ما یترتب على هذا البحث من مسائل.
1. ماهیة الرؤیا:
تعدّ قضیة المنام و الرؤیا من القضایا التی تعددت مباحث و دراسات الحکماء و المتکلمین و العرفاء فیها، فهی تحتل مکانة خاصة بین الأدیان.
فیعتقد الحکماء، أن المنام حالة تنقطع فیها الحواس الظاهریة عن العالم الخارجی تدریجاً، بینما تبقى الحواس الباطنیة واعیة[1].
عند المنام، بسبب عدم الانشغال بالعالم الخارجی و التفرغ التام، تنتبه النفس إلى ذاتها، إذ أن النفس مرتبطة بعالم الملکوت ارتباطاً داخلیاً و معنویاً، و لکن انشغالها بتدبیر الجسد یمنعها من أن تنتبه الى عالم الملکوت (ذات النفس)، و ینقطع هذا التعلّق فی المنام.
فإذن، کلّما أتیحت الظروف للنفس حتى تتفرغ أکثر عن عالم المادة، کان اتصال النفس بعالم الملکوت أقوى و أکثر شفافیة.
2. أنواع الرؤیا
قد لا یتفق للنفس أن تتصل بعالم الملکوت لانشغال الذهن بتخیلاته، و قد تتصل النفس فی بعض الحالات بعالم الملکوت الا أنه ینقلب و یتغیر بسبب تأثره بالأمور الذهنیة الشخصیة، و قد یکون الاتصال فی حالات خاصة قویاً بحیث تعمل النفس کمرآة صافیة و خالیة من التصورات والخیالات الزائدة، فلا تتصرّف بمشاهداتها.
و من هذا المنطلق، تقسم الأحلام، کما ذکرت کتب مختلفة، إلى قسمین "أضغاث أحلام" والرؤیا الصادقة أو الصالحة[2]، و یطلق اسم أضغاث أحلام ـ وهو مصطلح قرآنی ـ على الأحلام الناشئة من قوة الخیال عند الفرد و لا یتدخّل فیه أی أمرٍ من عالم الملکوت، و أغلب الأحلام هی من هذا القسم، فقیمتها لا تتجاوز الخیالات الناشئة من نفس الفرد، و هذا یشبه الخیالات التی ینشئها ذهن الإنسان دائما فی حالة الیقظة و الوعی متأثراً فی ذلک بالمسائل الدنیویة، و یعاد هذا الجهد الذهنی حین النوم أیضاً. فعند النوم رغم أن النفس تتفرّغ من تدبیر الأمور الدنیویة إلى حد کبیر و لکنها ما زالت تبقى منشغلة بالخیالات الشخصیة و لذلک لا یتم الاتصال بعالم الملکوت، وإن تم اتصالٌ أثناء النوم فلا یتذکره الفرد حینما یستیقظ .
ولکن فی بعض الأحلام، یتاح للنفس أن تتفرغ أکثر من الخیالات فترتبط بعالم الملکوت؛ و قد تتلقّى النفس فی هذا الارتباط صور وأنوار و معارف و حقائق عالم الملکوت، فتدرکها من مجرى أفکارها و أمورها الذهنیة. و فی هذه المرتبة من الاحلام فی الحقیقة تتأثر مخیّلة الانسان بالحقائق التی تلقتها من عالم الملکوت و توظّف قوتها المبدعة فی خلق احلام مختلفة، فتعکس حقائق عالم الملکوت کمرآة مبدعة و تتجسمها لذاتها. و یحتاج هذا القسم من الاحلام إلى تفسیر یقوم بذلک شخص عالم بهذا التغییر و التبدل المثالی ـ الذی یحدث فی عالم الذهن ـ حتى یتبین بعد التفسیر أنها (الأحلام) تُخبِر عن قضایا حقیقیة فی العالم الخارجی أم لا، کالأحلام التی فسّرها نبی الله یوسف (ع) وقد ذکرت فی القرآن. و لکن بعض الاحلام تخلو من تدخّل و تلاعب ذهن الفرد فیها و لذلک لا تحتاج مثل هذه الاحلام إلى تفسیر فهی تخبر مباشرة عن حقائق فی العوالم المادیة والمعنویة.
3. أسباب تحقّق بعض الأحلام
کما ذکرنا، ترتبط نفس الانسان فی الأحلام الصادقة مع عالم الملکوت. و عالم الملکوت هو عنوانٌ عام لمراتب ما وراء الطبیعة، و هی (المراتب) أیضاً تنقسم إلى طبقات متعددة، و تختلف الاحلام التی یراها الفرد فی المنام باختلاف مستوى رقی النفس و کمالها.
إن أحداث عالم المنام و ما یشاهد فیه من عجائب و غرائب لا تعدّ و لا تحصى؛ فتارة یشاهد الفرد مشاهد من الجنة و زیارة الأنبیاء و الاولیاء، و تارة یشاهد مقطع من الحیاة الیومیة یخبر عن حادثة خاصة سوف تحدث، و تارة یشاهد فی المنام أفراداً و وجوهاً لم یرها من قبل و إذا به یزورهم بعد الحلم و یلتقی بهم کما رأى فی المنام.
و فهم سبب کل واحد من هذه القضایا یستلزم تحلیل و دراسة حقائق مختلفة فی عالم الملکوت، فمن جملة أسباب هذه التنبؤات التی تحصل فی المنام هی اتصال النفس بالألواح النوریة أو مرتبة من مراتب اللوح المحفوظ[3]، و هی محل تسجّل فیه الأحداث المختلفة مجردة عن الزمان والمکان. کذلک مشاهد الجنة و غیرها التی تحصل فی المنام یمکن أن تدل على ارتباط النفس مع مراتب عالم المثال .
4. إمکان وعی الذات فی المنام
تنفی الأبحاث الفلسفیة و العرفانیة، الاختلاف الذاتی بین ذاکرة الانسان فی المنام عما هی فی الیقظة، و تؤکد على أن الذهن فی هاتین الوضعیتین تتغذى من مصدر واحد و الاختلاف یحصل فی نطاق المجهود الذهنی.
فإذن، یمکن رفع هذا الحاجز الموجود فی الذاکرة عند المنام و الیقظة من خلال ارتقاء وعی الذات، حتى یدرکِ الذهن ـ بنفس الارادة التی تعمل فی حالة الیقظة شعوریاً ـ نفسه فی عالم الرؤیا و یعمل بحالة إرادیة.
و بعبارة أخرى، إن النفس الحاضرة فی عالم الرؤیا هی النفس ذاتها حاضرة فی الیقظة إلا أنها تحرّرت من قیودها الجسمیة. و الفارق الموجود بین الوضعیتین، یعنی وضعیة التعلق بالأمور الجسدیة و الدنیویة، و وضعیة التحرّر من التعلّق بالعالم المادی، هو بسبب البعد الإدراکی الکبیر بین هاتین الوضعیتین عند أغلب الناس. و لذلک، من کانت معرفته بوضعیة التحرّر عن المادة أوسع، بالتأکید، قد عالج هذا الاختلاف الموجود بنسبة أکبر، کما أن تذکّر الرؤیا أو نسیانها أیضاً ینشأ من میزان وعی الذات بوضعیة الرؤیا.
فی أغلب المواقع، الذهن یعتبر حالة "وعی الرؤیا" أمر ثانوی و غیر هام و توهّمی، و أن العالم المادی هو العالم الحقیقی، و لهذا السبب یحکی عن النفس الحاضرة فی الرؤیا بعنوان ثانوی. و لکن لو تزامن وعی الذهن للباطن مع الظاهر، و الخارج مع الذات، لکان فی مرحلة الرؤیا أیضاً فی حالة الشعور و الوعی بحیث یستطیع فیها أن یوجّه أعماله و حرکاته و أفکاره و مطالبه، بإرادته و وعیه إلى حد کبیر. و فی هذه الوضعیة تزول الحواجز بین النوم و الیقظة، و عکس هذه الحالة تکون عندما یعی الفرد فی حالة الیقظة لعوالمه الباطنیة، و ربما تظهر الأمور الغیبیة للفرد حتى فی حالة الیقظة کما تظهر غالباً ما للأولیاء و العرفاء مثل هذه الحالات.
فإذن، رفع الحواجز بین النوم و الیقظة عند ذهن الإنسان بحیث یجعله یعی عالمه الخارجی و الداخلی، یعدّ مرتبة معرفیة خاصة. و من هنا یمکن القول بأن مشاهدة الأمور الباطنیة فی حالة الیقظة، و وعی الذات فی حالة النوم من مقولة واحدة، و هی تحکی عن إمکانیة رفع الحواجز بین النوم و الیقظة، کما یقول أمیر العرفان و المعرفة علی (ع): "لو کشف الغطاء ما ازددت یقینا"[4].
و العرفان الاسلامی، لا یقبل بوجود هذه الحواجز بین ما یعبرون عنه بالشعور و اللاشعور، و هذا الأمر هو نتیجة الجهل المعرفی و خمود الوعی، کما قال النبی الأکرم (ص): "الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا"[5].
[1] بدیع الزمان فروزانفر، شرح المثنوی، ج1، ص 179.
[2] اقتباس من: شرح حکمة الإشراق لقطب الدین الشیرازی، ص503، انتشارات انجمن آثار مفاخر فرهنگی (جمعیة أعمال عباقرة الثقافة)
[3] السید جعفر سجادی، معجم المعارف الإسلامیة، ج1، ص231، انتشارات جامعة طهران.
[4]المجلسی، بحار الأنوار، ج40، ص153، مؤسسه الوفاء، بیروت، 1404.
[5] نفس المصدر، ج50، ص 134.