Please Wait
6444
من المباحث التی کثر فیها البحث بین الاصولیین بحث الاستحسان و قد اختلفت کلمتهم فی تعریفه و حدود حجیته و دائرة الاستدلال به؛ و قد اوضحنا ذلک فی الجواب التفصیلی.
من غیر الصحیح القول بان الشعیة هی التی تنفرد فی عدم حجیة الاستحسان، بل هنا من کبار ائمة المذاهب الاربعة من ذهب الى ذلک کما سیتضح من خلال مطاوی البحث؛ من هنا سوف نبحث عن القضیة فی عدة نقاط:
1. تعریف الاستحسان؟
2. ادلة القائلین بحجیته؟
3. ادلة النافین للحجیة؟
تعریف الاستحسان:
المتتبع لکلمات العلماء وخاصة من أهل السنة یرى ان کلمتهم اختلفت فی تعریفه اختلافا کبیراً و تعددت التعاریف له، فمن تلک التعاریف:
1. التعریف اللغوی:
المتبادر بدْواً من معنى الاستحسان هو اعمال الذوق و مقتضیات الطبع فی مقام التعرُّف على الحکم الشرعی، فمتى ما وجد المجتهد انَّ هذا الفعل ملائماً لما یقتضیه الطبع فهذا یکشف عن ان حکم هذا الفعل الواقعی هو الإباحة، و بخلافه ما لو کان الفعل مستبشعاً تمجُّه الطباع و تشمئز له النفوس و یتنافى مع الذوق فهذا یعبِّر عن انَّ حکمه الواقعی هو الحرمة لو کانت مرتبة الإشمئزاز و الإستقذار شدیدة جداً، أما لو کانت مرتبة الاستقذار و الإستبشاع بمستوىً أدنى من الحالة السابقة فإنَّ هذا یکشف عن ان حکم هذا الفعل عند الله تعالى هو الکراهة.[1]
2. التعریف الاصطلاحی:
تعرض السید محمد تقی الحکیم فی کتاب اصول الفقه المقارن لبیان التعاریف التی ذکرت للاستحسان فقال:
لکن تحدیده لدى الأصولیین مختلف فیه جداً، و أکثر تعاریفهم التی ذکروها أبعد ما تکون عن فن التعریف و هی أقرب - إلى تسجیعات الأدباء التی کان یراعى فیها إخضاع المعنى للمحسنات البدیعیة - منها إلى تحدیدات المنطقیین.
و إلیکم نماذج مما ذکره السرخسی فی مبسوطه من التعاریف، یقول:
الف - الاستحسان: ترک القیاس و الأخذ بما هو أوفق للناس.
ب - الاستحسان: طلب السهولة فی الأحکام فیما یبتلى به الخاصّ و العام.
ج - الاستحسان: الأخذ بالسعة و ابتغاء الدعة.
د - الاستحسان: الأخذ بالسماحة و ابتغاء ما فیه الراحة[2].
و قریب منها فی البعد عن الفن ما نسب إلى المالکیة من انه «الالتفات إلى المصلحة و العدل»[3].
و مثل هذه التعاریف لا تستحق أن یطال فیها الکلام لعدم انتهائها إلى أمور محددة یمکن إخضاعها للحدیث عن الحجیة و عدمها.
و الّذی یقتضی الوقوف عنده من تعاریفها التی تکاد تکون منطقیة من حیث کونها ذات مفاهیم محددة ما ذکره کل من:
*البزدوی من الأحناف من أنه «العدول عن موجب قیاس إلى قیاس أقوى منه أو هو تخصیص قیاس بدلیل أقوى منه»[4].
*الشاطبی من المالکیة من أنه: «العمل بأقوى الدلیلین»[5].
* الطوفی من الحنابلة فی مختصره من أنه: «العدول بحکم المسألة عن نظائرها لدلیل شرعی خاص»[6].
و قد ذکر له ابن قدامة معانی ثلاثة:
أحدها: «العدول بحکم المسألة عن نظائرها لدلیل خاص من کتاب أو سنة».
ثانیها: «ما یستحسنه المجتهد بعقله».
ثالثها: «دلیل ینقدح فی نفس المجتهد لا یقدر على التعبیر عنه»[7].
هذه بعض التعاریف التی ذکرت للاستحسان و لسنا فی صدد مناقشتها[8].
دلیل حجیة الاستحسان:
استدل القائلون بحجیة الاستحسان بعدة ذکرها السید الحکیم فی کتابه الاصول العامة حیث قال انَّه استدلَّ على ذلک بآیتین من الکتاب المجید و بروایة من السنة الشریفة و بالإجماع ، و نحن نعرض هذه الأدلة مع ما ذکره من المناقشة[9] .
أهم أدلتهم من الکتاب:
1 - قوله تعالى: "الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه"[10].
2 - قوله تعالى:" و اتبعوا أحسن ما أنزل إلیکم من ربکم"[11].
بتقریب انه تعالى مدحهم على اتباع أحسن ما یستمعونه من القول فی الآیة الأولى، و ألزمهم باتباع أحسن ما أنزل إلیهم من ربهم فی الآیة الثانیة، و المدح و الإلزام أمارة جعل الحجیة له.
و یرد على الاستدلال بهاتین الآیتین و نظائرهما:
1 - ان هذه الآیات استعملت لفظة "الأحسن" فی مفهومه اللغوی، و هو أجنبی عما ذکروه لها من المعانی الاصطلاحیة، و لو سلم فعلى أیها ینزل لیصلح للدلیلیة علیه؟ مع أنها متباینة و لیس بینها قدر جامع، بل لا یمکن تصوره إلا بضرب من التعسف کما سبقت الإشارة إلیه، و حمله على بعضها دون بعض مصادرة واضحة.
نعم، القائلون بأن الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدلیلین یمکنهم التمسک بهذه الآیات.
2 - ان الآیة الأولى و ان مدحت هؤلاء المستمعین على اتباع أحسن الأقوال، إلا أنها افترضت ان هناک أقوالاً بعضها أحسن من بعض و ترجیح بعض الأقوال على بعض إذا کانت صادرة من شارع، نظراً لأهمیتها - کما هو مقتضى التعبیر عنها بکونها أحسن - انما هو من شئون الکتاب و السنة.
و من الواضح ان ترجیح دلیل لفظی على دلیل عند المزاحمة أو المعارضة یعود فی واقعه إلى تعیین الحجة الفعلیة من بین الأقوال، فهو راجع إلیها، فعد الاستحسان دلیلا فی مقابلها - بأمثال هذه الآیات - لا یتضح وجهه، و من الواضح ان الأخذ بأقوى الدلیلین لا یتعدى الأخذ بأحدهما فهو لیس دلیلا فی مقابلهما.
و ما یقال عن هذه الآیة، یقال عن الآیة الأخرى مضافاً إلى أنها اعتبرت اتباع الأحسن فی خصوص ما أنزل علیهم، لأن الأحسن بعض ما أنزل - بحکم إضافته إلى ما - فإثبات ان الاستحسان مما أنزل أو مما لم ینزل، لا یرجع تعیینه إلى هذه الآیة لبداهة ان القضیة لا تثبت موضوعها.
3 - ان الآیتین أجنبیتان عن عوالم جعل الحجیة للاستحسان أو غیره لأنهما غیر واردتین لبیان هذه الجهة، و لذا لو بدلت لفظة الأحسن بلفظة أنهم یعملون بالاستحسان فی مجالات الاستنباط لا یستقیم المعنى بحال.
أدلتهم من السنة:
و قد استدلوا منها بما روی عن عبد اللّه بن مسعود من أنه قال: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن»[12]
و یرد على الاستدلال بها:
1 - انها موقوفة على ابن مسعود و لم یروها أحد عنه عن رسول اللّه (ص)[13]، و ربما کانت کلاماً له لا حدیثاً عن النبی (ص) و مع هذا الاحتمال لا تصلح للدلیلیة أصلاً.
2- إطلاق لفظ الحسن على الاستحسان بالمعنى المصطلح فی هذه الروایة لا دلیل علیه لکون الاستحسان من المعانی المستحدثة لدى المتأخرین، فکیف یصح نسبة مضمونها إلى ابن مسعود؟ و مع الغض عن ذلک فأی معانی الاستحسان التی عرضناها ینطبق علیه هذا التعبیر؟ و هل یتسع لها جمیعاً و هی متباینة، کما سبق شرحه؟ و لیس حمله على بعضها بأولى من حمله على الآخر.
و الظاهر أن هذه الروایة - لو صح ورودها عن النبی (ص) فإنما هی لتأکید قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع، أی ما أطبق العقلاء على حسنه فهو عند اللّه حسن، و هذا إنما یتم إذا أردنا من لفظة المسلمین المسلمین - بما أنهم عقلاء - و أما إذا اعتبرنا خصوصیة لهذه اللفظة (المسلمین) فهی تصلح ان تکون من أدلة الإجماع بعد حملها على العموم المجموعی.
و من الواضح أن العموم الاستغراقی لا یمکن ان یراد منها، و إلا لأوقعتنا بألف مفارقة لإنهائها إلى أن استحسان أی مسلم و لو کان عامیاً، لا یحسن إقامة الرّأی یکون تشریعاً و کاشفاً عن الحکم الواقعی (فهو عند اللّه حسن) مع ما فی ذلک من فوضى لا حدّ لها.
الإجماع:
و ذلک بدعوى إجماع الأمة باستحسانهم دخول الحمام و شرب الماء من أیدی السقاءین، من غیر تقدیر لزمان المکث و تقدیر الماء و الأجرة.
و لکن هذا الإجماع - لو صح وجود مثله - فهو قائم على هذه الأحکام بالخصوص لا على استحسانها، فضلاً عن قیامها على کل استحسان، و لا أقل من اقتصاره على هذه الموارد بحکم کونه من الأدلة اللبّیّة التی یقتصر فیها على القدر المتیقن.
و الظاهر أن مثل هذا الإجماع لا أساس له، و إنما قامت السیرة على هذه الأحکام، و هی مستمرة على «جریان ذلک إلى زمن النبی (ص)، مع علمه به و تقریره لهم علیه»[14].
و الّذی أتصوره أن أصلا، هذه حججه و أدلته لا یستحق ان یعطى له أهمیة کالتی أعطاها له مالک حین قال: «الاستحسان تسعة أعشار العلم» اللهم إلا ان یرید به معناه السلیم من تقدیم دلیل على دلیل.
نفاة الاستحسان و أدلتهم:
أما نفاة الاستحسان فأظهرهم الشافعی، و قد علل وجهة نظره بقوله:
«أ فرأیت إذا قال المفتی فی النازلة لیس فیها نصّ خبر و لا قیاس، و قال: استحسن، فلا بدّ أن یزعم أن جائزا لغیره ان یستحسن خلافه فیقول کل حاکم فی بلد و مفت بما یستحسن، فیقال فی الشیء الواحد بضروب من الحکم و الفتیا، فإن کان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحکموا حیث شاءوا، و إن کان ضیقا فلا یجوز أن یدخلوا فیه»[15].
و مثل هذا الکلام (کلام الشافعی) غریب على الفن لانتهائه - لو تم - إلى حظر الاجتهاد مطلقاً، مهما کانت مصادره، لأن الاختلاف واقع فی الاستنباط منها، إلا نادرا، و لا خصوصیة للاستحسان فی ذلک.
و إذن فمتى جاز لحاکم أن یجتهد، فقد أجاز لغیره أن یجتهد، و عندها ینتهی الأمر إلى ضروب من الأحکام و الفتاوى المختلفة، و لازم ذلک أن نمنع الاجتهاد بجمیع مصادره، و هو مما لا یمکن أن یلتزم به مثله، بالإضافة إلى وروده علیه نقضا فی اجتهاده بمنع الاستحسان مثلا، إذ یقال له: إذا أجزت لنفسک الاجتهاد فی منعه، فقد أجزت لغیرک أن یجتهد فی تجویزه، فیلزم الاختلاف فی الشیء
الواحد بضروب من الحکم و الفتیا.
و الظاهر أن مراده هو الردع عن خصوص القسم الرابع من الأقسام التی ذکرناها، کما تومئ إلیه بقیة أقواله، مما لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف و تفسح المجال أمام المتطفلین على منصب الإفتاء لیرسلوا کلماتهم بسهولة استنادا إلى ما یدعونه لأنفسهم من انقداحات نفسیة و أدلة لا یقدرون على التعبیر عنها، مما یسبب إشاعة الفوضى فی عوالم الفقه و التشریع.
و لکن هذا النوع من الاستدلال أقرب إلى النهج الخطابی منه إلى الروح العلمیة.
و بعد ان ناقش السید الحکیم ما ذهب الیه الشافعی قال: فالأنسب ان یدفع هذا القسم بعدم قیام الدلیل على حجیته، لأن ما ذکروه من الأدلة لا یصلح - على الأقل - لإثبات ذلک على الخصوص، و یکفی شکنا فی الحجیة للقطع بعدمها.
و الخلاصة: إن کان المراد بالاستحسان هو خصوص الأخذ بأقوى الدلیلین فهو حسن و لا مانع من الأخذ به، إلا أن عده أصلا فی مقابل الکتاب و السنة و دلیل العقل لا وجه له «و ان کان - کما یقول ابن القفال - ما یقع فی الوهم من استقباح الشیء و استحسانه من غیر حجة دلت علیه من أصل و نظیر فهو محظور و القول به غیر سائغ»[16].
هذه صورة مختصرة عن البحث و لمزید الاطلاع انظر[17].
[1]صنقور، محمد، المعجم الاصولی، حرف الالف، الاستحسان، الطبعة الاولى، 1421هـ.
[2]محاضرات فی أسباب اختلاف الفقهاء للخفیف: ص 236. و قد نقل هذه التعاریف عن المبسوط.
[3] فلسفة التشریع فی الإسلام: ص 174.
[4] مصادر التشریع: ص 58.
[5]المصدر السابق.
[6]نفس المصدر.
[7]نفس المصدر.
[8]راجع مناقشتها کلا من: الاصول العامة للفقه المقارن، و المعجم الاصولی.
[9]ناقش صاحب کتاب المعجم الاصول تلک الادلة بصورة مفصلة.
[10]الزمر: الآیة 18.
[11]الزمر: الآیة 55.
[12]إبطال القیاس و الرّأی: ص 50.
[13]المصدر السابق (الهامش).
[14]الأحکام للآمدی: 3 - 38.
[15]فلسفة التشریع الإسلامی: ص 174 و ما بعدها.
[16]إرشاد الفحول: ص 241.
[17]الاصول العامة للفقه المقارن، ص345 الى 363؛ و المعجم الاصول، حرف الالف، الاستحسان.