Please Wait
8889
یبتنی الجواب عن هذا السؤال على معرفة ماهیة البکاء و أنواع الاستفادة منها.
للبکاء ظاهر و باطن، و باطنه الانفعالات الروحیة و العاطفیة، التی تثیر لدى وجودها فعالیات الدماغ فی الإنسان مما یتسبب فی تساقط قطرات الدموع من عینیه.
وهذه الانفعالات النفسیة یمکن أن تتولد من عدة عوامل مختلفة، تارة یکون سبب حصول هذه الانفعالات هو فقدان شیء تربطنا به نوع علاقة، و حینا ما یکون الإحساس بطلب الکمال أو المعتقد أو الرحمة و الشفقة على المظلوم عاملاً فی إثارة الأحاسیس و المشاعر و قد تحدث الانفعالات الروحیة التی تسبب البکاء نتیجة الفراق أو الوصال، و قد تحدث نتیجة العجز و الذلة و المسکنة، أو تکون من قبیل الخداع و الریاء.
و على کل حال، فإن الدموع التی تنهل من عیون الشیعة على أئمتهم فی البقیع و غیر البقیع هی لیست من قبیل بکاء الطفل الذی یفقد ألعابه و مقتنیاته، أو الکبیر الذی نهبت أمواله فخسرها جمیعاً، و إنما هو البکاء النابع من عشق الکمال. إنه الحزن الذی یحکی تکامل أو نضج الشیعة الاجتماعی و المعنوی، و هذا الحزن متسبب عن طغیان الظلم و غلبته على الحق.
ولم یکن البکاء من قبیل العجز و الذلة و الریاء، إنه بکاء العاشق الذی یبکی تارة للفراق و أخرى حین الوصال، إنه بکاء الشوق، بکاء الإنسان الذی یمتلک قلباً نابضاً لا صخرة صماء قاسیة، ینفعل و یتأثر لما یلاقیه المظلومون من العذاب و الألم.
إنه بکاء الإنسان المتشوق إلى الکمال العاشق له ذلک الکمال الذی منعه البعض من إرواء غلیله منه و من معین الحکمة ، و لذلک غمرته الأحزان و ألمت به الآلام.
و هذا النوع من البکاء لا یکون من قبیل الوهن و الکآبة و الانهیار النفسی و إنما هو عامل هام للغایة فی إیجاد النشاط و تقویة العواطف و الأحاسیس و یزید من معرفة الموضوع المأخوذ فی نظر الاعتبار و یبعث على تقویة العلاقات و الحب و الانسجام بین الإنسان و الموضوع الذی یبکی من أجله و یحزن علیه.
و أما ما ینطوی علیه البکاء من بعد خارجی، فذلک ما نلمسه فیما ینتج عنه من حسٍ فی المسائل السیاسیة و الاجتماعیة مما یشکل عاملاً مهماً للکثیر من التحرکات و الفعالیات فی المجتمع من قبیل التولی و التبری، إنه من الممکن الحفاظ على حیویة الموضوع عن طریق البکاء من خلال ترکیزه فی الذاکرة لیعمر فیها متجاوزاً عوامل النسیان و لیس ببعید أن یقال من النتائج الهامة للبکاء حفظ الإسلام المحمدی الأصیل، هذه هی أسرار بکاء الشیعة إلى جانب البقیع.
لا یتیسر الجواب عن هذا السؤال دون معرفة ماهیة البکاء و طبیعة الظروف المحیطة وکیفیة ورؤیة الشیعة التی تصاحب اقامة العزاء والاستفادة من معطیات هذه المجالس حین یقیمونها، و سوف نستعرض تفاصیل هذا الموضوع مع مراعاة أحوال المخاطبین.
ماهیة البکاء:
للبکاء وجهان ظاهری و باطنی، ظاهره أمر فسیولوجی و باطنه انفعالات داخلیة و عاطفیة تحصل بمؤثرات داخلیة و خارجیة مثل التفکیر (المادی و الطبیعی).
و عند حصول هذه الانفعالات یتحرک قسم من أقسام الدماغ و یصبح فعالاً و یرسل الأوامر إلى الغدد الدمعیة لتقوم بعملها فتنسکب قطرات الدموع من الأجفان.
و أما باطن البکاء (الانفعالات العاطفیة) فإن لها عوامل مختلفة و متعددة و على هذا الأساس یکون للبکاء أقسام مختلفة:
1- البکاء بسبب تعلق الإنسان بنفسه و ممتلکاته. و هذا البکاء یحصل نتیجة اللوعة و الحزن[1] و دون اختیار و فیه نظر إلى الزمن الماضی، فالشخص الذی فقد شیئاً متعلقاً به لابد و أن یکون له أثر فی نفسه فیتأثر لذلک و یلجأ إلى البکاء.
2- البکاء ذو الجذور العقائدیة، کما یحصل فی حالة المناجاة ذلک عندما یجلس الإنسان بین یدی ربه و یستحضر ذنوبه و معاصیه و یعلم أنها مسجلة عند ربه، فإنه یتأثر لها و یبکی[2] و هذا النوع من البکاء ینظر إلى الزمان الحاضر و المستقبل، و لکنه لیس مقطوع الصلة بالماضی و من هذا القبیل بکاء التوبة و الندم.
3- البکاء الناشئ من طلب الکمال و نشدان الفضیلة، کالبکاء عند فقدان المعلم و المؤدب الأخلاقی، و النبی (ص) و الإمام (ع)، و هذا البکاء یدل على أننا نحن إلى الکمال فی أعماق أنفسنا، و عند حصول هذا الکمال نجد مذاقه و نلتذ به، و نحزن على فقدانه.[3]
کانت أم أیمن تبکی بعد وفاة الرسول (ص) ، و کان الخلیفة الثانی یسألها لماذا البکاء؟ ألیس قد صار رسول الله إلى ربه؟!، فأجابته: إنها تبکی بسبب انقطاع الوحی بذهاب النبی (ص) .[4]
4- البکاء على المظلوم، إذا لم یکن قلب الإنسان من الحجر، فإنه یبکی عندما ینظر إلى طفل شرید یرتجف من البرد فی حجر أمه بعد أن فقد والده و معیله، و إن القلب الملیء بالعواطف الإنسانیة یلتهب ناراً عندما یسمع بأن طفلاً رضیعاً یقتل بین یدی والده و یذبح من الورید إلى الورید، ثم یقذف بلهیبه إلى الخارج على هیئة قطرات من الدموع، و لذلک فهو یتأثر بالظلم الواقع على المظلوم.
5- البکاء بسبب العجز و الذلة، یتعرض الإنسان فی بعض الأوقات إلى مواجهة الحوادث المرّة و المؤلمة أو یعانی من انعکاسات التجربة الفاشلة، فیلجأ إلى بکاء الذلة. و هذا اللون من البکاء یصدر عن الضعفاء العاجزین عن بلوغ أهدافهم و الذی تقصر أیدیهم عن بلوغ غایاتهم، و یظهر أن صائب التبریزی یشیر إلى هذا النوع من البکاء حین یقول:
لیس بکاء الشموع حزناً على الفراشات
و إنما اقترب الصبح فهی تفکر فی لیلها المظلم.
6- بکاء الحب و الفرح و مثاله دموع الأم التی تعثر على ولدها بعد فقدانه لمدة طویلة، أو بکاء فرح العاشق المحروم من الوصال حین اللقاء بالمحبوب.[5]
7- بکاء الفراق و مثاله بکاء العاشق لدى فقدان المحبوب و هجرانه أو بسبب انقضاء أیام الوصال و تصرمها.
8- بکاء الرحمة و الرأفة، إن أحد الأبعاد فی شخصیة الإنسان کما یقول العلماء هو البعد العاطفی و الإنسانی، و إنه مظهر من مظاهر الإنسانیة، و لذلک فالشخص الذی لم یقبّل ولده طول عمره کان ملوماً من قبل النبی (ص) ، و قد عاتبه قائلاً: «من لا یرحم لا یُرحم»[6] و حینما توفی ولده إبراهیم بکى النبی (ص)، و حین سأله البعض عن سبب بکائه، قال:« هذا لیس بکاء غضب، إنما هذه رحمة، و من لا یرحم لا یُرحم».[7]
9- البکاء الکاذب و المزور و الذی شبهت دموعه: (بدموع التماسیح)[8].
أهداف البکاء:
إن تمام أنواع البکاء لابد و أن تکون لها جهة دینیة و ثقافیة أو سیاسیة، فمثلاً کان الأئمة المعصومون (ع) یستفیدون من البکاء حینما سلبت منهم إمکانات تبلیغ الرسالة و العمل فی أوساط الأمة، حتى صار البکاء بالنسبة لهم أشبه بالحرب الباردة التی یثیرونها ضد طبقة الحکام، لیظهروا بذلک الظالمین على حقیقتهم و یفشون خفایا أمورهم و أسرارهم، و هذا هو السر الذی دعا فاطمة بنت النبی (ص) إلى البکاء بالکیفیة التی ینقلها لنا التاریخ، فقد کانت ـ و لأیام ـ تمسک بید الحسنین و تذهب للبکاء خارج المدینة تحت ظل شجرة هناک، و کل من یمر بهذا المکان لابد و أن یتبادر إلى ذهنه سؤال عن السر الذی یجعل فاطمة (ع) تبکی إلى هذا الحد؟ و ما الذی حدث؟ ألم یقل أبوها رسول الله بحقها: من أغضبها فقد أغضبنی؟[9]
فما هو هذا الغضب الذی أبکاها؟ و فی مثل هذه الأجواء کانت (ع) و بواسطة خطبها الناریة تطلع الناس على الحقائق و لذلک جاءوا فی لیلة ظلماء و قطعوا هذه الشجرة التی کانت تبکی تحت ظلها، و لکن علیاً (ع) بنى لها ظلاً و کان یقبل أن تجلس زوجته على طریق المسافرین لتبکی و هو یساعدها على مثل ذلک، و بکاؤها یطلعنا على السر السیاسی الکبیر الذی قیل، و لهذا فنحن نعتقد أن دموع الزهراء (ع) کانت خلف سیف علی (ع)، فالبقیع هو ذکرى أحزان فاطمة(ع) و هو ذکرى المصائب التی تحملتها سیدة الإسلام الأولى و أئمة الشیعة (ع) فی طریق حفظ الإسلام و رعایته. و لابد من أن نعلم: أن حزن و غم الشیعة و بکاءهم إلى جانب البقیع، لیس کحزن الطفل الذی فقد ألعابه فهو یبکی علیها، و لیس هو کحزن الکبیر الذی فقد أمواله أو واجه ما لا یرضیه، إنه الحزن النابع من التکامل الاجتماعی للشیعة، و یحکی عن هذا التکامل أنه حزن على الظلم الواقع على الحق و تغلبه علیه، إنه البکاء الذی یعرب عن طلب الشیعة للتکامل و الرقی، و فی حقیقة الأمر فإن بکاءنا هو من أجلهم من جهة، و من أجل أنفسنا من جهة أخرى.
فما کان ذنب هؤلاء الأعزاء لیتعرضوا لمثل هذا الظلم، و یتحملوا تبعاته، ألم تکن مودتهم أجراً للرسالة، فلماذا لا یدعونا نطفئ ظمأنا من نمیر الحکمة المتمثلة بهؤلاء الأعزاء، و على کل حال فإن بکاء الشیعة، هو على المظلومین و بسبب طلب الفضیلة، و له جذور اعتقادیة، و مثل هذا الحزن، یتبعه أمور اجتماعیة کالتبری و التولی، و ذلک یعنی أن هذه الحالة لا توجب الخمول و الترهل و التعب النفسی و إنما هی من أسباب التحرک و النشاط الاجتماعی و تهیئة الأجواء لذلک، فبکاء الشیعة لیس من قبیل بکاء العجز، لأننا نعتقد کما یقول الشاعر:
لا تظهر عجزاً أمام الظالم
فقطرات الشواء تزید من لهب النار
نعم، هذا البکاء یمکن أن یکون بکاء فراقٍ[10] کما نخاطب سید الشهداء و نقول: «یا لیتنا کنا معکم فنفوز فوزاً عظیماً».[11] أو أنه من الممکن أن یکون بکاء شوقٍ، فمثلاً عندما یشاهد الإنسان هذه الشجاعة و البطولة و الرجال الأحرار، و کلماتهم الناریة، و النساء التی تبدو فی الظاهر أسیرةً، فیتأثر و یبکی و یذرف الدموع. أو أنه احتمال أن یکون البکاء متسبباً عن صرف العاطفة، , من قبیل الرحمة، فهل من الممکن لإنسان أن یسمع بکل هذه الجرائم التی وقعت فی کربلاء و لا تنهمر عیناه بالدموع.
آثار البکاء و معطیاته
یمکن أن ندرس آثار البکاء على أساس بعدین: البعد الداخلی، و البعد الخارجی، أما بالنسبة للبعد الداخلی فیمکن أن نجمل معطیات البکاء فی الموارد التالیة:
1- کما تقدم، فإن البکاء هو نوع انفعال داخلی، فإذاً إذا لم یکن من باب التزویر و الریاء أو عن طریق العجز، أو ما ذکرناه فی القسم الأوّل[12] فإنه یبعث على الهدوء الروحی، و الارتیاح النفسی و فی واقع الأمر یکون عاملاً فی جلاء القلوب و اطمئنانها.
إن تفریغ هذا الانفعال و الهیجان له علاقة بتطلعات الإنسان المتعالیة، فهو یرید أن یکون فی أوج الکمال، و لکن لیس الأمر کذلک! و عندما یدرک هذا و یشعر به ینتابه الانفعال و الهیجان، یرید محیطاً خالیاً من الظلم و الجور و لکنه موجود، یرى هذا کله فیترک فی نفسه أثراً، یرى آثار النعم الإلهیة علیه و على الآخرین، فیذکرها... فیبکی و من البدیهی أن یکون البکاء من هذا النوع دافعاً باتجاه الأمل و الخلاقیة و الحرکة، و علاقته عکسیة مع الوهن[13] و الترهل و الانهیار، فهو بالإضافة إلى عدم نسبته إلى السلبیة، على العکس من ذلک یؤدی دوراً إیجابیاً و یمثل دواءً ناجعاً للاستشفاء.[14]
و الذین یشترکون فی مجالس التعزیة و البکاء یتصفون بهذه الصفة، و یعترفون بأنهم یتمتعون بلذة خاصة فی هذه المجالس، و لا یکون هذا إلاّ إذا کان الحزن و الهم الذی یسیطر على أجواء تلک المجالس یماثل هم الآخرة و الحزن و الهم الذی یجلل سماء المظلومین و یملأ عیونهم و ..
2- الانفعالات الروحیة و النفسیة تترک أثراً على البعد المعرفی و تجعل من النفس أکثر استعداداً لفهم الموضوع و إدراکه.
3- عندما تشتد و تقوى الجوانب المعرفیة و العاطفیة یکون الإنسان على درجة من الاستعداد و الأهلیة فی میدان التطبیق العملی تتناسب مع شدة العواطف و ازدیاد المعرفة.
4- و من آثار البکاء أنه یقرب التماثل بین الأفراد و الموضوعات ذات العلاقة بإثارة البکاء.
5- ازدیاد الحب بین الفرد و الموضوع الذی یبکی من أجله و من الطبیعی أن الآثار المتقدمة توجد نوع ارتباط عاطفی بالشخص المظلوم.
6- الإنسان الکامل هو الذی تتکامل جمیع أبعاد وجوده فی زمن واحد حتى یتمتع بقوة العاطفة و التفکیر و المعرفة.
و البکاء عامل من عوامل تکامل العاطفة و نضجها، کما أنه یحکی عن لطافة الروح و رقة الطبع، فهو عامل ازدیاد، و کشف فی آن واحد.
ومن هنا بإمکاننا أن نفهم ما قاله أمیر المؤمنین (ع) حینما سلبت امرأة یهودیة خلخالها فی إحدى الغارات التی شنت على أطراف حکومته حیث قال: «فلو أن امرءً مسلماً مات أسفاً ما کان عندی ملوماً».[15]
آثار البکاء بلحاظ البعد الخارجی:
بالنسبة للأبعاد الاجتماعیة و السیاسیة فإن البکاء یترتب علیه التولی و التبری، و عامل من عوامل التحرک السیاسی و الاجتماعی، و من هنا تمنع الحکومات الظالمة إقامة العزاء على مصیبة سید الشهداء (ع)، و سوف نشیر إلى بعض آثار البکاء الاجتماعیة و السیاسیة باختصار:
1- البکاء و إعلان الحرب على الظلم: قد تکون الدمعة إعلاناً عن هدف ما، فکأن من یبکون على الحسین یعلنون على رؤوس الأشهاد أنهم یؤیدون أهداف الحسین و أصحابه و أنهم ینتظمون فی هذا الصف و ذات الاتجاه. و هذه الأهداف تارة تعلن من خلال الشعارات الملتهبة و إنشاد الأشعار الحماسیة، و تارة من خلال وسائل أخرى.[16]
و کل ذلک من الممکن أن یکون من قبیل الریاء و التزویر، و لکن الذی یذرف قطرات من الدموع فی بعض الأحیان حینما یسمع تفاصیل هذه الحادثة بعد أن یحترق قلبه و تهتاج مشاعره فإن أصدق حقیقة ینطوی علیها هذا العمل (هو إعلان الوفاء بالنسبة إلى هذه الأهداف المقدسة) التی ضحّى من أجلها الإمام (ع).
و هذا هو عین التضامن القلبی و الروحی مع أولئک المظلومین، و فی نفس الوقت یمثل إعلان الحرب على الظلم و الاستبداد، و من الطبیعی فإن مثل هذا البکاء لا یتحقق من دون معرفة الأهداف و الغایات التی کان یحملها أولئک الأعزاء الکرام.
2- البکاء و إحیاء الإسلام: إن بکاء الشیعة على الأئمة المعصومین و فاطمة الزهراء علیها السلام و الإمام الحسین (ع) ساهم فی الحفاظ على الإسلام المحمدی الأصیل، یقول الإمام الخمینی رحمه الله: (إن هذا البکاء حفظ سید الشهداء و .... و کل مذهب لا یعتمد على إقامة مراسم العزاء و لطم الصدور و إرسال الدموع لا یمکن أن یحفظ).[17] (إن الحفاظ على إحیاء عاشوراء مسألة سیاسیة عبادیة هامة).[18]
یقول الشهید المطهری فی هذا الشأن: سألنی شاب، فقال: إذا أردنا إحیاء فکر الإمام الحسین (ع) و نهضته، فهل من الضروری فی ذلک ذکر مصیبته؟ فقلت: نعم، إنه أمرٌ أمرنا به أئمتنا و لهذا الأمر فلسفة، و هی أن کل مذهب و فکر لیس فیه جنبة عاطفیة، و إنما صرف الفکر و الفلسفة، فمثل هذا المذهب لا یتمتع بالنفوذ و التأثیر على الأرواح و النفوس و لا یکتب له البقاء و الاستمرار، فالعاطفة هی التی تزوده بالحرارة و الحیویة... و نحن لا نشک فی وجود المنطق و الفلسفة فی فکر الإمام الحسین و نهضته، و هو درس جدیر بأن نتعلمه فی ذلک، و لکن إذا تلقینا هذا الفکر و النهضة على أنها صرف الفکر و الفلسفة فإنها تفقد حرارتها و غلیانها.[19]
إن البکاء لجل الظلم الذی مر على الأئمة یوجب بقاء هذه الحرارة و تجددها، فلا یستطیع أحد أن ینکر واقعة عاشوراء کما هو الحال بالنسبة لواقعة الغدیر، و إن إحیاء عاشوراء هو إحیاء لدین الإسلام، لأن هذا الإمام ما نهض إلاّ لحفظ الإسلام و صیانته و النتیجة: إن بکاء الشیعة إلى جانب البقیع و فی مراسم العزاء التی تقام فی ذکر الإمام الحسین (ع) و ... هی أوّلاً أمر طبیعی إنسانی، و ثانیاً للوصول إلى الأهداف التی تقدم ذکرها و إن هذا البکاء له ما یؤدیه من القرآن الکریم و الروایات الشریفة، و إن رسول الله و أصحابه[20] یشهدون لهذه السیرة.
المصادر للاطلاع:
1- بحار الأنوار، ج44، ص289، 293؛ ج21 ص24.
2- وسائل الشیعة، ج12، ص90.
3- طبقات ابن سعد، ج8، ص282.
4- ألف، کاویانی، البکاء سلاح بید الشیعة.
5- الشهید المطهری، امامت و رهبرى" الإمامة و القیادة"، ص53.
6- مکارم الشیرازی، فلسفه ی شهادت" فلسفة الشهادة"، ص10-13.
7- الشهید المطهری، قیام و انقلاب مهدى "النهضة المهدویة"، ص108.
8- حسین الرجببی، پاسخ به شبهات عزادارى" أجوبة الشبهات على إقامة العزاء".
9- رجال الکشی، ص187.
10- ترجمة نفس المهموم، ص5-17 ، 23 ، 34.
11- السمهودی، وفاء الوفا، ص468.
[1] الحزن و الاکتواء حالة نفسیة داخلیة، و هی حالة شخصیة و غیر اختیاریة و هو ما یحصل للإنسان عندما یفاجئ بخبر وفاة أحد الأحبة أو تعرضه لحادث أو اتفاق، و قد تکون مسبوقة باستعداد مسبق. انظر: ره توشه ی راهیان نور" متاع السائرین على طریق النور"، مرکز التعلیم التخصصی، باقر العلوم، 46 - ص235 - 254.
[2] یقول الإمام السجاد (ع): «مَا مِنْ قَطْرَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ قَطْرَتَیْنِ قَطْرَةِ دَمٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ قَطْرَةِ دَمْعَةٍ فِی سَوَادِ اللَّیْلِ لَا یُرِیدُ بِهَا عَبْدٌ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ » و من المتیقن أن مثل هذا البکاء له جذور اعتقادنا بالله و بالیوم الآخر.بحار الانوار،ج90، ص329.
[3] فی الآیة 92، من سورة التوبة یقول تعالى فی وصف فئة من الناس: « وَ لا عَلَى الَّذینَ إِذا ما أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْیُنُهُمْ تَفیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ یَجِدُوا ما یُنْفِقُون».
[4] دلائل النبوة، للبیهقی، ج7، ص266.
[5] عندما جاء جعفر بن أبی طالب من الحبشة إلى المدنیة، جاء رسول الله (ص) لاستقباله (و بکى فرحاً برؤیته) بحار الأنوار، ج21، ص24.
[6] میزان الحکمة، ج10، ص700؛ بحار الأنوار، ح43، ص282 - 283.
[7] بحار الأنوار، ج23، ص151.
[8] تذکیر: من الممکن أن یشمل البکاء بشکل عام الأقسام الأخرى و أنواع عدیدة، و کذلک دخول البکاء کعامل فی وجود بعض الظواهر و العناصر، و لکننا طرحنا البحث بهذا الشکل تأکیداً على العامل المحوری و الأساسی.
[9] «فاطمة بعضة منی من سرها فقد سرنی، و من ساءها فقد ساءنی، فاطمة أعز الناس علی » بحار الأنوار، ج43، ص23؛ صحیح مسلم، ج5، ص54« إن الله لیغضب لغضب فاطمة و یرضى لرضاها»،کنز العمال، ج12، ص111؛ بحار الأنوار، ج43 ص 19، « فاطمة قلبی و روحی التی بین جنبی، فمن آذاها فقد آذانی».
[10] لقد بکى النبی یعقوب لفراق ولده یوسف إلى حد ذهاب عینیه و فقد بصره، و قد أجاب الإمام السجاد السائلین عن سبب کثرة بکائه فقال: « وَیْحَکَ إِنَّ یَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِیمَ کَانَ نَبِیّاً ابْنَ نَبِیٍّ وَ کَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً فَغَیَّبَ اللَّهُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَ احْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الْغَمِّ وَ الْهَمِّ وَ ذَهَبَ بَصَرُهُ مِنَ الْبُکَاءِ وَ ابْنُهُ حَیٌّ فِی دَارِ الدُّنْیَا وَ أَنَا رَأَیْتُ أَبِی وَ أَخِی وَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَیْتِی صَرْعَى مَقْتُولِینَ فَکَیْفَ یَنْقَضِی حُزْنِی وَ یَذْهَبُ بُکَائِی ». حلیة الأولیاء، نقلاً عن أعیان الشیعة، للسید محسن الأمین، ص72.
[11] مفاتیح الجنان، 779، فی زیارة وارث نخاطب الشهداء بالقول: و فزتم فوزاً عظیماً، فیا لیتنی کنت معکم فأفوز معکم. مفاتیح الجنان، ص787.
[12] بحسب علم النفس، فإن للکباء أثر کبیر فی تسکین الأحزان و تخفیف الحرقات.
[13] یقال أحیاناً ان مراسم العزاء فی ایران تسبب الکآبة. و یبدو ان مرادهم من الکآبة لیس هو نوعها الاساسی الذی یکون شدیداً جداً، او اختلال المزاج قبل الدورة الشهریة او الکآبة بعد الازمة النفسیة الناشئة من الشیز و فرینیا (اسکیزو فرنی) ... بل مرادهم من ذلک هو الاختلالات النفسیة التی تسببها الکآبة و التی تتصف بالعلائم التالیة:
وجود موردین او اکثر من هذه الموارد فی الشخص: قلة الاشتهاء او کثرته، الأرق أو کثرة النوم، الاحساس بالضعف او التعب، الاحساس بضعة النفس و ضعف الترکیز، و التردد فی اتخاذ القرار، و الشعور بالاحباط.
ان هذه العلائم تستمر علی الاقل سنتین و تشاهد فی الشخص المبتلی فی غالب الیوم و فی اکثر الایام.
ان هذه العلائم تسبب الاختلال فی السلوک الاجتماعی و العملی و ... ، مضافاً لذلک فان علماء النفس یقولون حول اسباب الکآبة انه یمکن ان تؤثر ثلاثة عوامل علی الذهن و هی العامل الحیوی (وضع الدماغ و عمل اجهزة المختلفة)، و العامل الوراثی و هو ما یتعلق بالاسرة و الجینات، و المؤثرات البیئیة کالحوادث شدیدة الحساسیة مثل الأزمات و فقدان الأحبة. و بالطبع فان التجارب البیئیة المسببة للاضطراب الروحی.تسبب الکآبة فی الاشخاص المستعدین حیویاً و وراثیاً. و عوامل الاضطراب هی عبارة عن فقدان العمل، قطع العلاقة، موت أحد الاقرباء، الطلاق، الزواج الفاشل و المشاکل الاقتصادیة و بالتلی فان للمصائب سهمها فی عوامل الاضطراب. یراجع فی هذا الباب کتاب لجنة علم النفس الامریکی، ترجمة نیکخو، محمد رضا المراجعة الرابعة من الارشاد التشخیص و الاحصائی للاضطراب الروحی (DSMIV) ص 602 – 564 و 96 – 88)
و اما مراسم العزاء فلیست هی فقط لا تسبب الاضطراب بل ان لها دوراً فی ازالة الاضطراب و القلق و لا تسبب أی علامة من علائم الکآبة. و بالطبع فان هذا التحلیل مبنی علی النظرة المادیة إلی مراسم العزاء. و اما وجهة نظر الاسلام و التحلیل المعنوی فانه لا ینبغی أن تسبب الموارد المذکورة آنفاً الاضطراب و القلق فی روح الشخص لانه مؤمن بالله و یعتقد بانه هو الرزاق فهو یتوکل علیه و هو راض بقضائه و قدره.
[14] یقول المولوی:
البکاء دواء لکل داء لیس له دواء
إن فیض العین الساکبة هی عین الفیض الإلهی
البکاء لئالئ بحر الرحمة
وهو مفتاح من مفاتیح الجنان
لو لم تبک الغیوم لما ضحکت الأزهار
و لو لم یبک الطفل لما اغذوه اللبن.
[15] نهج البلاغة، خ27، ص95.
[16] ملا قاسم المشهدی.أمواج دموع تحکی کل شیء دون کلام
[17] صحیفة النور، ج8، ص69 - 72.
[18] صحیفة النور، ج13، ص154.
[19] سیر فی سیرة النبی، ص 58.
[20] تتطلب هذه المسألة بحثاً فلسفیاً، نتعرض له فی فرصة مناسبة.