Please Wait
7649
انفتاح البصر البرزخی بعد الموت أمر عمومی، أی أن کل إنسان یشاهد الموکلین بقبض الروح حالة الموت بما یتناسب و أعماله، و له حدیث معهم، و إنه یسمع أصواتهم، و إن الأعمال تتجسم لأصحابها بعد الموت, و تعرض علیهم بصورة محدودة تتناسب مع الحیاة البرزخیة، کما أن الإنسان یشاهد بعد الموت، و بعینه البرزخیة، وجود الملک، و بعض ما وعد الأنبیاء و الأولیاء، و یصل إلى حد الیقین فی مشاهداته هذه.
و لکن لا عمومیة للإطلاع على الأهل و الأقارب و الأصدقاء، و إن سعة و ضیق هذا الأمر یتعلق بمیزان أعمال الشخص، و کذلک فإن السؤال و الاستخبار من حدیثی العهد بالموت و سؤالهم عن أحوال أهل الدنیا و ما یجری فیها لیس بالأمر المتیسر و الحاصل لجمیع الأموات. و لکنه ما یستفاد من بعض الروایات أن هذا الأمر مختص بأهل الجنة البرزخیة لا جمیع الموتى، و لکن أولیاء الله یتجاوزون هذه الحالة، و لیسوا بحاجة إلى السؤال عن الآخرین.
و فی الموضوع أسرار خفیة کثیرة لا تتجلى فی عالم البرزخ و عندما یرد الإنسان ساحة یوم القیامة تنکشف له الأمور على حقیقتها فذلک «یَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ» حیث تنکشف کل السرائر للعیان.
یمر الإنسان بمراحل تکوّن و سیر مختلفة، ابتداءً من مرحلة الجماد، و بعد ذلک یتحول إلى دور النبات أو الحیوان، ثم یتحول إلى نطفة تستقر فی الرحم، و بعد أن یکتمل بدنه ینفخ الله به من روحه لیتحول إلى الحیاة الإنسانیة، و بعد أن ینهی الإنسان مرحلة الأجنة یرد مرحلة أخرى و هی مرحلة حیاته فی الدنیا[1]، و بعد مدة قصیرة أو طویلة نسبیاً ینتقل إلى نشأة أخرى تسمى بعالم البرزخ (مرحلة بین الدنیا و عالم القیامة) و نسبة هذا العالم إلى عالم الدنیا کنسبة عالم الدنیا إلى عالم الأرحام، و لیست قابلة للتصور و التجسد بشکل کامل، و بعد ذلک، و حین یصل عمر الدنیا إلى نهایته، ینتقل الجمیع إلى نشأة أخرى و هی مرحلة البعث و النشور و المسماة بالحشر أو یوم القیامة.
و نسبة القیامة إلى البرزخ کنسبة البرزخ إلى عالم الدنیا، و فی عالم البرزخ و عالم القیامة تتکشف الأمور للإنسان بشکل کامل ما کان له أن یتصورها و هو یعیش محدودیة عالم الدنیا و لم تکن قابلة للتصور فی هذا العالم. کما أن تصور الدنیا و ما فیها غیر ممکن بالنسبة للجنین و هو یعیش مرحلة عالم الأرحام.
و إذا کان الإنسان حبیس عالمه الحسی المحدود، و لم یحلق بجناحی العلم و العقل إلى ما وراء الطبیعة، و لم یتقبل أخبار الصادقین من الأنبیاء و الأولیاء (ع)، فلا یتمکن أن یقبل الحیاة بعد الموت سواء کانت البرزخیة منها أو الوقوف فی ساحة یوم القیامة.
و لکن واقع الحال هو أنه شاء أم أبى فإنه سوف لا یجد مفراً و لا ملجأً من الموت و ورود المرحلة التی تلیه، لأن الموت من المقدرات الإلهیة، و کل موجود أرضی سیواجه الموت عاجلاً أم آجلاً، و لم یستثنى من هذه الحقیقة حتى أحب الناس إلى الله سبحانه، و قد أکد الله ذلک بقوله: «وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِکَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوکُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَیْرِ فِتْنَةً وَ إِلَیْنَا تُرْجَعُونَ».[2]
إن الإنسان الذی بلغ حد الیقین بهذه المرحلة عن طریق شهوده أو إخبار الأنبیاء، ثم أعد لها عدتها، و هیئ زادها المتمثل بالتقوى و الإیمان و العمل الصالح، فلا یبقى فی نفسه خوف و وجل و هو یستقبل هذه المرحلة، بل یکون مشتاقاً لها و متلهفاً علیها، لأنه ینتقل - بالموت - من ضیق الدنیا و محدودیتها إلى سعة الآخرة و رحابتها، تماماً کما هو انتقاله من ضیق عالم الأرحام إلى فضاء الدنیا الواسع نسبة إلى ذلک العالم المحدود، و لکن لم یأخذ أحد هذا الأمر بجدیة، و لکنه یصل إلى الیقین بها عند الموت و ما بعد الموت؛ لأنه یشاهد حضور الموکلین بالموت ویستشعر سلوکهم معه، و یتحسس قصور یده و عدم قدرته على بسطها فیما کان تحت تصرفه و قبضته، إنه یشاهد کل هذا بتمام وجوده، فهو یشعر أنه ما زال حیاً و لکنها حیاة تختلف عما کان علیه، إنه یرى جسمه بین یدی أقاربه - و إذا کانوا مسلمین فإنهم - یتولون غسله و تکفینه و تشییعه، ثم یودعونه فی حفرة مظلمة، دون أن یلتفتوا إلى استغاثته و ندائه و توسله، لأنهم لیسوا على علم بما یجری، فهم فی عالم الدنیا، کما کان هو محجوباً عن عالم الأموات زمان حیاته، إنه یرى من حوله و یشعر بهم و یحاول أن یجد نوع ارتباط معهم، و لکنهم لا یفهمون ذلک، و لا یرون فیه إلاّ جثة هامدة إن ترکوها دون مواراة أسرع إلیها العفن و التفسخ. و هکذا یحل وحیداً فی قبره، فیحضر عنده منکر و نکیر، و بعد السؤال و الجواب و استخبار الحال، فإذا کان من أهل الخسران تفتح علیه نافذة من نار جهنم لیبدأ عذابه و عقابه، أی أنه یتعذب برؤیته مکانه فی جهنم و الإحساس بلهیبها و حرارتها و ذلک حتى تقوم القیامة، فیستقر فی المکان المخصص له، و أما إذا کان مؤمناً، فبعد السؤال و الجواب، تفتح له نافذة على مکانه فی الجنة فیلقى الراحة و النعیم حتى قیام القیامة حیث ینقل إلى محله الأبدی فی الجنة، و بهذا المعنى یکون القبر و البرزخ، إما حفرة من حفر النیران، و إما روضة من ریاض الجنة.
فکل إنسان یفتح بصره بعد الموت لیجد الحیاة بعد الموت و لوازمها و تبعاتها و یشاهدها بالعیان حیث لا یبقى لدیه سبیل إلى إنکارها أو الشک فیها، کما تتجسم أمام عینه أعماله التی قام بها فی الحیاة الدنیا، فتکون سبباً لراحته أو عذابه و آلامه، و کل ما کان یعمل فی الدنیا و یسعى إلیه من مال و شهرة و موقع و إمکانات یجدها مسجلةً و ماثلة أمامه و لا یبقى لدیه سوى الحسرة و الندم، فإذا کان کافراً أو فاسقاً فلیس له سوى الحسرة، لماذا لم یؤمن؟ و لماذا لم یکن مستعداً لمثل هذا الیوم؟ و إذا کان مؤمناً مطیعاً فإنه یتحسر و یقول: یا لیتنی عملت أکثر مما عملت، و جمعت أکثر مما جمعت من زاد الآخرة لکنت فی درجة و مرتبة أعلى مما أنا علیه و لکنت فی صحبة الأولیاء و الصالحین.
و هذا الإحساس البرزخی و التفتح عام و شامل، و إن کان یختلف و یتفاوت من شخص لآخر، فبالنسبة للشخص الذی کان تعلقه شدیداً بالدنیا، فإنه یحتاج إلى زمن طویل حتى یصدق و یتیقن من الموت و ترک الدنیا و الانتقال عنها إلى مرحلة أخرى، و أما أصحاب الحالة المتوسطة فیقال کأنه یمر بنوم عمیق لا یرى فیه أی لون من الأحلام حتى یکون معذباً أو منعماً فی نومه، و بعد أن ینتقل من مرحلة الموت إلى القبر فإنه لا یوجد لدیه إحساس خاص بهذه المرحلة و هی الحیاة البرزخیة، و أما الذین غادروا و هم فی حالة إیمان کامل، و قد تمتعوا بقوة الروح، و الاستعداد للآخرة و حیث أنهم على یقین من هذا العالم فإنهم یتمکنون من الاتصال بأرواح المؤمنین الأخرى، و یسألون عن أحوال أصدقائهم و أحبائهم فی الدنیا، کما أنهم یستمتعون بلقاء الأرواح المؤمنة فتنتعش أرواحهم و یعیشون حالة الارتیاح، و یدعون الله للمؤمنین الأحیاء فی الحیاة الدنیا، إذن فاللقاء مع الآخرین و السؤال عن الأحوال مختص بهذه الفئة من الناس بعد الموت و هم أهل الدرجات العلیا من الإیمان و العمل الصالح.
یقول الإمام الصادق )ع(: « إن الأرواح لتلتقی فی الهواء فتعارف و تسائل، فإذا أقبل روح من الأرض قالوا: دعوه، فقد أفلت من هول عظیم، ثم سألوه ما فعل فلان و فلان، فکلما قال: قد بقی رجوه أن یلحق بهم، و کلما قال: قد مات، قالوا: هوى هوى».[3]
و نقل فی کتاب الکافی عن إسحاق بن عمار عن أبی الحسن الأوّل (ع) قال:«سألته عن المیت یزور أهله؟ فقال: نعم، فقلت: فی کم یزور؟ قال: فی الجمعة و فی الشهر و فی السنة على قدر منزلته».[4]
و کذلک ورد فی الکافی عن الإمام الصادق: «ما من مؤمن و لا کافر إلاّ و هو یأتی أهله عند زوال الشمس، فإذا رأى أهله یعملون بالصالحات حمد الله على ذلک، و إذا رأى الکافر أهله یعملون الصالحات کانت علیه حسرة».[5]
و الحالة الأفضل من ذلک ما علیه أولیاء الله، حیث تصبح أرواحهم أکثر قوة بعد تحررها من الأجسام بعد الموت، فیکون نشاطها و فعالیتها أوسع و أقوى، لإنعدام جمیع الموانع الدنیویة کالتقیة و الخوف و غیرها، و هذه الفئة من الناس تحظى باستقبال المؤمنین بعد الموت، فتهون علیهم سکرات الموت، و یکونون مؤنسین لهم فی قبورهم، فلا یعانون من عذاب الوحدة و الوحشة، و بعد هذه المراحل الأوّلیة یلحق المؤمن بسائر إخوانه، و لذلک فهذه الفئة لیست بحاجة إلى الاستخبار عن حالة الأحیاء لأن هؤلاء العظماء لهم إحاطة بعالم الدنیا و عالم البرزخ. و لم یکونوا غافلین عن حالة المؤمنین الذین یتواصلون معهم و یقومون بخدمتهم و یتوسلون بهم لیکونوا بحاجة عن الاستفسار و طلب معرفة أحوالهم.
و لابد من القول فی النتیجة: مع أن الإبصار فی البرزخ له عموم و شمول إلاّ أنه یختلف من شخص لآخر و لم یکن فی حالة متساویة عند الجمیع. فهو ضعیف بالنسبة للأطفال و الأفراد المستضعفین (ثقافیاً و اعتقادیاً) و أمثالهم، و التفتح و الإبصار یکون فی مرتبته العلیا بالنسبة لأولیاء الله و کذلک الکفار المعاندین، فأولئک فی ذروة النعمة و النعیم، و هؤلاء فی أوج العذاب البرزخی، و أما بالنسبة للآخرین فإنه یتحقق بالتناسب مع مراتبهم و أفعالهم و أخلاقهم و اعتقاداتهم، و إن الخبر عن أحوال الأحیاء مختص ببعض المؤمنین لا جمیعهم.
و بعبارة أخرى: إن أحوال ما بعد الموت - فی البرزخ و القیامة- هی تجلٍ و تجسید لباطن الإنسان على مستوى الاعتقاد و الأخلاق و سائر الأعمال التی یمارسها الإنسان فی الحیاة الدنیا، و لیس شیئاً وراء ذلک، فإذا کان فی الدنیا من أهل الإیمان و العمل الصالح و انشراح الصدر فإنه یکون کذلک فی عالم البرزخ و القیامة، و أما إذا کان فی الدنیا معانداً ضیق الصدر مکابراً یستأنس بالحالة الحیوانیة السبعیة، فإن کل ذلک یتجسد له فی عالم البرزخ و یوم القیامة، فیکون معذباً و تذهب نفسه حسرات بسبب ما قدم، ذلک لأن الدنیا مزرعة الآخرة، و کل ما یزرعه و یغذیه و یسقیه فی هذه الدنیا یجنی ثماره فی ذلک العالم، و یجده حاضراً أمامه.
«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَ لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا یَسْتَوِی أَصْحَابُ النَّارِ وَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ»[6]
وعلیه فهناک أسرار کثیرة لا تنکشف بعد الموت و فی عالم البرزخ و لکن حین یرد الإنسان عرصة القیامة الکبرى یتجلى له کل شیء و ذلک هو «یَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ»[7]، حیث تکشف فیه جمیع الأسرار و تکون بادیة للعیان.
مصادر للمطالعة:
1- الأسدی، علی محمد، حیات پس از مرگ "الحیاة بعد الموت".
2- جوادی الآملی، عبد الله، سیره پیامبران در قرآن" سیرة الانبیاء فی القرآن"، ج7 ، ص52-57.
3- جوادی الآملی، عبد الله، صورت و سیرت انسان در قرآن" صورة الإنسان و سیرته فی القرآن"، ج14، ص214-230 ، 57-66.
4- الحسینی الطهرانی، محمد حسین، معادشناسى "معرفة المعاد"، ج1 و 2، ص139 - 245.
5- شبر، عبد الله، حق الیقین، ج2.
6- الطباطبائی، محمد حسین، حیات پس از مرگ "الحیاة بعد الموت"، ص20 و 42.
7- الفیض الکاشانی، حق الیقین.