بحث متقدم
الزيارة
5481
محدثة عن: 2008/08/10
خلاصة السؤال
ما هو حد دخول العلماء فی الدنیا؟
السؤال
أرجوا أن تجیبوا باستدلال (عقلاً و نقلاً) عن هذا السؤال و هو: ما هو حدّ دخول العلماء فی الدنیا؟
الجواب الإجمالي

للدنیا جهتان:

الاولی: باعتبارها أمراً حقیقیاً و واقعیاً کوجود الأرض و الکرات السماویة و وجود الانسان و قدرته و علمه و حیاته و باقی حقائق نظام العالم المادی، و بهذا اللحاظ فالدنیا لیست هی غیر مذمومة فحسب بل هی حسنة و ممدوحة، قال النبی الاکرم (ص): "الدنیا مزرعة الآخرة".

الثانیة: باعتبارها أمراً اعتباریاً غیر واقعی، أی أن تجعل الدنیا هدفاً و غایة للتطلّعات و الآمال و یضحّی بکل شی من أجل الوصول إلیها. و الدنیا بهذا اللحاظ مذمومة مدانة و تؤدی إلی نسیان الله و الآخرة. إذن فالمال و الثروة اذا کان وسیلة للتقرب الی الله و عمران الآخرة فهو جیّد و مطلوب، و أما ان کان یؤدی الی‌ نسیان الله و خراب الآخرة فهو سیئ و مذموم.

ان ما یرفضه الاسلام هو روحیة الاستکبار الناشئة من الثروة، لا نفس الثروة، و لکن و لکون الثروة غالباً تساهم فی تکوّن هذه الروحیة لا إرادیاً لذا فقد انتقد أحیاناً جمع الثروة أیضاً.

و العلماء و بسبب حساسیة موقعهم و دورهم فی إرشاد و تربیة المجتمع واقعون تحت نظرات الناس الحادّة و الفاحصة، و لذا ینبغی أن یحترزوا من التلوّث بروحیة طلب الدنیا و الأخطار و المعایب الناشئة منها.

الجواب التفصيلي

یستفاد من آیات القرآن و الروایات ان للدنیا جهتین:

1. باعتبارها أمراً حقیقیا و واقعیا مثل وجود الارض و الکرات السماویة و وجود الانسان و قدرته و علمه و حیاته و باقی موجودات و حقائق نظام العالم المادی، و بهذا اللحاظ فالدنیا لیست هی غیر مذمومة فحسب بل هی حسنة و ممدوحة، قال النبی الاکرم (ص): "الدنیا مزرعة الآخرة.[1]

2- باعتبارها أمراً اعتباریاً و غیر واقعی أی أن تجعل الدنیا هدفاً و غایة للتطلّعات و الآمال و یضحّی بکل شی من أجل الوصول إلیها. و الدنیا بهذا اللحاظ مذمومة مدانة و تؤدی الی نسیان الله و الآخرة.

ان ما یرفضه الاسلام هو روحیة الاستکبار الناشئة من الثروة لا نفس الثروة، و لکن و لکون الثروة غالباً ما تساهم فی تکوّن هذه الروحیة لا ارادیاً لذا فقد انتقد أحیانا جمع الثروة أیضاً.

ان الاهتمام بالامور الاقتصادیة یمکنه ان یکون وسیلة لوصول الانسان الی الکمالات المعنویة و الحصول علی مکارم الاخلاق.

فللمال و الثروة آثار ایجابیة و سلبیة نستعرض بعضاً منها:

إعلم ان مثل المال مثل حیّة فیها سمّ و تریاق ففوائدها تریاقها و غوائلها سمومها فمن عرف غوائلها و فوائدها أمکنه أن یتحرز من شرّها و یستدر منها خیرها.[2]

و بناء علی هذا فکما أن المال یسبب مشاکل فی ظاهر الانسان و باطنه، فان فیه فوائد أیضاً یرفع بها الاضرار الناشئة منه. و تنقسم فوائد المال إلی قسمین: دنیویة و أخرویة. و الفوائد الدنیویة لیست خافیة علی أحد و هی من البدیهیّات، و لهذا السبب یصرف أکثر الناس قسماً مهمّاً من أعمارهم فی جمع المال و استخدامه، و علیه فنکتفی بذکر بعض الفوائد الاخرویة (الدینیة) للمال و الثروة:

الف – وسیلة لکسب الآخرة: یمکن للمال أن یعین الانسان علی تحقیق عبودیة الله. و بعبارة اخری: یستطیع الانسان بواسطة المال أن یوفّر مقدمات تسهّل علیه طریق عبودیة الله. یقول الامام الصادق (ع):" غنی یحجزک عن الظلم خیر من فقر یحملک علی الاثم"[3].

و إضافة الی‌ ذلک فقد شرّع الاسلام عبادات مهمة لا یمکن أداؤها إلا من قبل الأثریاء مثل: الجهاد بالمال فی سبیل الله،‌ الحج و الزیارة، الخمس و الزکاة، إطعام المؤمن و قضاء حاجاته‌، الاقراض و غیره. کمثال علی ذلک یقول القرآن الکریم: «من ذا الذی یقرض الله قرضا حسناً فیضاعفه له أضعافا کثیرة»[4].

ب – مساعدة الآخرین: یمکن للأثریاء أن یعینوا الناس، و أن یحصلوا علی رضا الله عن طریق إعطاء الصدقة و بذل المال، یقول القرآن الکریم:‌ "یا أیها الذین آمنوا أنفقوا ممّا رزقناکم"[5]. ان مثل هذه الانفاقات إضافة لمساهمتها فی تحسین حال المحرومین، تنمی صفة البذل و العطاء فی قلب المؤمن و تطرد عنه صفة البخل و الحرص الذمیمة.

ج _ عمل الخیرات، اذا صرف الأثریاء أموالهم فی الامور ذات المنفعة العامة من أجل رضا الله مثل بناء المساجد و الجسور و المستشفیات و ... فان الناس سیدعون لهم بالخیر لمدة طویلة و یکتب ذلک فی حسناتهم حتی‌بعد موتهم فلا تنغلق ملفات أعمالهم الحسنة بذلک.

د – تزکیة النفس: یمکن للانسان أن یقی نفسه حر نار جهنم عن طریق بذل المال و إنفاقه فی سبیل الله و یتسبّب ذلک فی تزکیه نفسه، یقول الله تعالی لنبیه (ص): "خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم و تزکّیهم بها و صلّ علیهم ان صلاتک سکن لهم"[6].

هـ ـ عزة النفس: الانسان الذی یکون وضعه جیداً من الناحیة الاقتصادیة و مستغنیاً عن الآخرین بعرق جبینه، یکون صائناً لعزته و کرامته.

یقول الامام الصادق (ع): "یا عبد الله إحفظ عزک: قال: و ما عزی جعلت فداک؟. قال: غدوک إلی سوقک و إکرامک نفسک"[7]

أما إذا لم یلتفت الانسان و لم یتحرک کما أراد الاسلام و لم یجعل الثروة وسیلة فی طریق الکمال و لم یستخدمها بصورة صحیحة، فقد یمکن أن تورث الفساد و تخلق المشاکل أحیاناً. فان الانسان اذا ابتلی بحبّ المال و طلب الدنیا و صار هدفه جمع الثروة فانه سیتخلف عن الکمالات الروحیة و الاخلاقیة و یتسبب ذلک فی ایجاد رذائل اخلاقیة کثیرة فی نفسه نشیر فیما یلی الی عدة نماذج منها:

ا ـ الغفلة عن ذکر الله: ان فلسفة وجود الانسان هی عبودیة الله و العیش بذکره، و لکن حب المال یغفل الانسان عن ذکر الله، و حیث ان طبیعة الانسان تمیل نحو المال فهو یجتهد فی جمع المال و حفظه، و انشغال ذهنه و قلبه بجمع المال و تکثیره یتنافی مع ذکر الله و عبادته. یقول القرآن الکریم: "یا ایها الذین آمنوا لا تلهکم اموالکم و لا أولادکم عن ذکر الله و من یفعل ذلک فاولئک هم الخاسرون"[8].

ب- ان الشخص الثری یوفر له المال الارضیة المناسبة علی ارتکاب الکثیر من الذنوب، یقول أمیر المؤمنین علی (ع): "ثروة المال تردی و تطغی و تفنی"[9].

ج ـ التکبر هو احد الصفات الاخلاقیة الذمیمة حیث عبر عنه فی الروایات بانه ارذل و انزل درجات التردی عن الحق[10]، ان من موجبات التکبر هو الثراء و علیه فهذه الصفة الذمیمة اکثر رواجاً عند الأثریاء، فالاغنیاء یتکبرون علی الفقراء و یجرحون مشاعرهم بتکبرهم فی الأقوال و الأفعال. و القرآن الکریم یعتبر المال الکثیر سبباً للطغیان و الفسوق و العصیان أمام الرسل الالهیین و یقول: "و ما ارسلنا فی قریة من نذیر الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به کافرون"[11]

و علی أی حال فبالرغم من وجود اناس کثیرین علی مر التاریخ أمثال قارون و فراعنة مصر الذین کانوا علی اثر ابتلائهم بحب مال الدنیا و وقوعهم فی أسر الأهواء النفسیة و التکبر و الغرور الناشی عنه قد أفسدوا المجتمع ثم هلکوا هم أیضاً، فانه قد وجد أناس آخرون أیضاً قدموا خدمات جلیلة للمجتمع البشری عن طریق الاستخدام الصحیح لثرواتهم و ذلک بسبب توفّرهم علی‌ الکمالات النفسانیة، و یمکننا أن نشیر الی ان من جملة هؤلاء الکمّل من الناس هی السیدة "خدیجة(س)" التی قدّمت خدمات عظمی باستخدامها لثروتها فی نصرة الاسلام و تحقق الأهداف الرفیعة لنبی الاسلام الاکرم (ص).

و علی أی حال فان مسؤولیة العلماء و وظیفتهم أشد و أعظم من غیرهم بسبب حساسیة موقعهم حیث ان لهم دور الارشاد و تربیة المجتمع، فان هذه الطبقة العظیمة المؤثرة و الواقعة تحت نظرة الناس الحادة و الفاحصة ینبغی علیهم أن یحترزوا من التلوّث بروحیّة طلب الدنیا و جمع الثروة (و هما من مصادیق الثروة المذمومة) و الاخطار و المعایب الناشئة منها.

و اذا أردنا أن نبحث عن صحیفة متکاملة أصیلة حول وظائف العلماء و مسؤولیاتهم و نظرة الناس الیهم فخیر صحیفة هی سیرة أهل بیت العصمة و الطهارة (ع) و سلوکهم فقد کان أهل البیت (ع) یواسون الفقراء و المحرومین و یشعرون بالمسؤولیة تجاههم و کانوا یعیشون فی أدنی مستوی معیشیّّ للناس لکی لا یشعر هؤلاء بالاحتقار و النقص، و من الخصوصیات البارزة للمعصومین (ع) المواساة و المشارکة العملیة فی هموم الفقراء و المحرومین و کان أمیر المؤمنین علی(ع) فی زمن خلافته یعیش حیاة الزهد اکثر من أی زمان آخر و قد صرّح مراراً بفلسفة ذلک و قال: "ان الله فرض علی أئمة الحق أن یقدّروا أنفسهم بضعفة الناس کیلا یتبیّغ بالفقیر فقره"[12]

و کذلک فقد حذّر أتباعه بشدّة من احتقار الفقراء فقال: "لا تحقّروا ضعفاء إخوانکم فانه من احتقر مؤمناً لم یجمع الله عز و جل بینهما فی الجنة إلا أن یتوب"[13].

إذن فعلی القادة الدینیین و الحکام و طبقة العلماء و تأسیاً بأهل البیت (ع) أن لا یقصّروا أبداً فی إعانة المحرومین و یجب علیهم بقدر الامکان _ مع رعایة الظروف المکانیة و الزمانیة ـ أن یبتعدوا عن الکمالیّات و تجمیع الثروة و ذلک من أجل مواساة الفقراء.



[1] بحار الانوار، 70، 148، باب 124.

[2] الفیض الکاشانی، الحقائق، 109.

[3] فروع الکافی، 5، 72.

[4] البقرة، 244.

[5] البقرة، 254.

[6] التوبة، 103.

[7] بحار الانوار، 78، 352.

[8] المنافقون، 9.

[9] غرر الحکم، 3، 351.

[10] بحار الانوار، 73، 331.

[11] سبأ، 34.

[12] نهج البلاغة، الفیض،‌ الخطبة، 200، 663.

[13] بحار الانوار، 72، 42.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280455 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    259110 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129804 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    116173 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89692 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61302 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60550 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57467 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    52073 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • هل أن أكل سرطان البحر هو حرام؟
    48112 الحقوق والاحکام 2019/06/10
    لقد ورد معيار في أقوال و عبارات الفقهاء بخصوص حلية لحوم الحيوانات المائية حيث قالوا: بالاستناد إلى الروايات فان لحوم الحيوانات البحرية لا تؤكل و هذا يعني إن أكلها حرام[1]. إلا إذا كانت من نوع الأسماك التي لها فلس[2]، و ...