بحث متقدم
الزيارة
6171
محدثة عن: 2011/10/16
خلاصة السؤال
لماذا أفصح بعض العرفاء عن مراتبهم و مقاماتهم العرفانیة فی حین امتنع البعض الآخر عن ذلک؟
السؤال
نجد لدى العرفاء سلوکین مختلفین فی بعض الأحیان فبعضهم ـ مثلاً ـ یفصح عن تجربته العرفانیة و یتحدث عن مراتبه و مقاماته و لم یکن لدیه أی تحفظ فی ذلک مثل محیی الدین بن عربی، فی حین أخفى بعض العرفاء مقاماتهم و حالاتهم، بل لم یقبلوا انتشار أخبارهم حتى عن طریق الآخرین، و السؤال هو أی الطریقتین و أی المنهجین أقرب إلى الصحة بحیث یحظى بالرضا و القبول قیاساً إلى سیرة الأئمة المعصومین؟
الجواب الإجمالي

العارف الصدّیق یکون فی مقام و مرتبة یفطع معها کل تعلقاته الدنیویة و یعتبر أی لون من ألوان المنِّ کفراً بالله. فإذا ما أظهر بعضاً من مقاماته العرفانیة و بینها لأجل هدایة الناس فإنه یؤدی بذلک العمل رسالته إزاء الناس إذ یعرفهم بحقیقة الإنسان و مقاماته و منزلته عند الله، و بذلک یرسخ و یقوی أمان الناس بالغیب.

هناک مبدأن أساسیان مسلمان أحدهما أن کتمان العلم و المعرفة فی موضع الحاجة إلى إظهارها أمر غیر جائز و من جهة أخرى فإن بیان المراتب و المقامات العرفانیة من قبل العارف بقصد التظاهر أمر غیر محبب و مرفوض، و من هنا یجب القول: إن العارف الصادق هو الذی یشخص المدى الضروری لمقدار المطالب التی یظهرها و یبینها للناس و کذلک مقدار ما ینبغی کتمانه و إخفاءه، و علیه فمن غیر الممکن الحکم بحسب السؤال بشکل مطلق على صحة أیٍّ من الطریقتین و السلوکین.

الجواب التفصيلي

العرفاء:

یطلق اصطلاح العرفاء على الناس الذین ترقوا فی مدارج الإیمان و الصدق فی الدین، و قد بلغوا مرتبة سامیة و هی التخلق بأخلاق الله و مقام خلافة الله فی أسمائه و صفاته، کما نقرأ فی الروایة: (لا یزال العبد یتقرب إلی بالنوافل و العبادات حتى أحبه، فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به و بصره الذی یبصر به و یده التی یبطش بها و رجله التی یمشی بها) [1] .

و علیه فالعارف هو الشخص الذی له مقام الولایة الإلهیة یمتلک خوارق العادات، و کما یقال فی الاصطلاح أن الکرامات لیست بما هی هی میزان لکون الإنسان عارفاً، کما أن تداول العرفان النظری لیس له ارتباط بحقیقة العرفان.

التفاوت فی مراتب العرفاء و مقاماتهم:

إن التخلق بأخلاق الله له درجات و مراتب، و علیه فإن العرفاء مع اختلاف مراتبهم و مقاماتهم أصبحوا مظهراً من مظاهر صفات الله بصورة کلیة أو جزئیة، و کذلک فإن العارف الکامل و تبعاً للإمام المعصوم صاحب الولایة الإلهیة الکلیة أصبح مظهراً من مظاهر الاسم الأعظم، فالإنسان ذاتاً یمتلک مثل هذا الاستعداد للوصول إلى هذا المقام و هذه المرتبة من خلال العشق و العبادة لله تعالى.

و أما فیما یتعلق بسلسلة مراتب العرفاء و مقاماتهم و أصنافهم فقد بسط الکلام فیها العرفاء الکبار من أمثال ابن عربی و کذلک جاءت الإشارة إلیها فی بعض الروایات [2] .

و قد بلغ عیسى (ع) و الخضر ذروة هذه المقامات و المراتب، و لکن المرتبة الأعلى للإمام المهدی (عج) لأنه موعود جمیع الأمم، و أن باقی العرفاء و بحسب سلسلة مراتبهم فإنهم متصلون بهذه الوجودات المقدسة، کما أنهم یعدون من أنصار الإمام (عج) فی کل عصر و زمان، کالأقمار المحیطة بشمس الولایة.

رسالة العرفان:

للعرفاء حالات مختلفة تبعاً لتجلیاتهم القلبیة و المقامات و المنازل التی یطوونها فی مسیرهم، و علیه فلیسوا جمیعاً على سیرة واحدة، مع أن أصوله الاصیلة و قواعده واحدة و جمیعهم یقتبس من نور واحد.

و من هنا فإن بعض العرفاء لیس لهم ارتباط إلا بأفراد خاصین بل أن بعضهم فی حال غیبة عن العالم الظاهری و عیون أهل الظاهر کما هو حال بالنسبة إلى عیسى (ع) و الخضر و هما من أصحاب الولایة و لکن بعض العرفاء یبقون على ارتباط عادی مع سائر الناس.

و لکن کل عارف صادق و مستقیم و فی أی وضع کان ألا و هو حامل لرسالة عرفانیة، و لم یعتبر نجاة نفسه منفصلة عن نجاة الناس، لأن جمیع الناس خلقوا من نفس واحدة.

ظروف المحیط (الزمان و المکان):

إن للمحیط الذی یعیش فیه العارفی بلحاظ المکان و الزمان أثرٌ کبیر على منهج العارف فی مسیرته فی إطاره الاجتماعی، ففی بعض الحقب التاریخیة یتوفر محیط ملائم و مناسب لإظهار و بیان المطالب العرفانیة و ذلک بوجود الکثیر من الناس المحتاجین لمثل هذه الهدایة، فی حین لم تکن مثل هذه الأرضیة موجودة فی حقب أخرى من التاریخ.

بیان المقامات العرفانیة:

العارف الصدّیق یکون فی مقام و مرتبة یقطع معها کل تعلقاته الدنیویة و یعتبر أی لون من ألوان المنِّ کفراً بالله. فإذا ما أظهر بعضاً من مقاماته العرفانیة و بینها لأجل هدایة الناس فإنه یؤدی بذلک العمل رسالته إزاء الناس إذ یعرفهم بحقیقة الإنسان و مقاماته و منزلته عند الله، و بذلک یرسخ و یقوی أیمان الناس بالغیب.

إن نبی الإسلام و الأئمة الأطهار و بعض العرفاء یظهرون بعض مقاماتهم العرفانیة لأجل المعرفة فقط، حتى یتعرف علیهم الناس فیکون تلک المعرفة سبیلاً إلى الهدایة و النجاة، و لو لم تکن هذه الرسالة موجودة لما أظهروا هذه المقامات و لم یعرفها الناس بها، و لما تعرضوا إلى هذه المتاعب و الأذى، کما خاطب الباری تعالى نبیه بالقول (و أما بنعمة ربک فحدث) [3] ، [4] .

و هذه النعمة هی مقام النبوة حیث أمر النبی (ص) بالکلام عنها و إظهارها [5] و کذلک حینما تحدث الإمام (ع) عن مقاماته و حالته فإنه جعل من هذه الآیة السبب و الداعی لکلامه و ما أفصح به من الأمر.

و طبقاً لهذه الآیة فإن کل عارف مأمور فی الجملة على الإجمال بإظهار علومه من أجل تنویر الناس و هدایتهم. و من هنا فلیس بیان المطالب العرفانیة لدى العرفاء الکبار أصبح أمراً معتاداً و حسب، بل اعتبروا فی بعض الأحیان هدایة السالکین إلى الطریق واجب و تکلیف. و لکن إظهار هذه المطالب و بیانها یکون مذموماً عندما یکون التصریح بها لأجل التظاهر أو اقترانها بمحذورات أخرى، و لکن العارف الحقیقی یکون بریئاً من هذه النقائض و منزهاً عن هذه الأمور المذمومة التی تکشف عن الجهل و عدم المعرفة، لأنه قد تخطى هذه المراتب.

و فی بعض الأوقات لم یحصل العرفاء و الأئمة من بیان مقاماتهم و حقائق عرفانهم إلا الأذى و عداوة الجهال و الجن و القتل و لذلک لا یمکن تصور أن هؤلاء العظماء یظهرون حالاتهم و یصرحون بمقاماتهم من أجل التظاهر و ریاء الناس. و لکن هذا الأمر کان الأثر الأکبر فی هدایة الناس و إرشادهم.

و علیه فالعارف نفسه یشخص الحد الممکن لبیان مثل هذه المطالب و الحد الضروری من الکتمان، و بذلک من غیر الممکن أن نحکم بشکل مطلق على صحة اتجاه دون آخر و ترجیح طریقة على أخرى، و إن الاختلاف بین العرفاء بخصوص هذه المسألة مرده إلى اختلاف الرسالة التی یحملها العارف و یرید إیصالها إلى المجتمع.

نعم قد یوجد من یدعی العرفان کاذباً و لیس لدیه أهداف وراء الخوض فی المسائل العرفانیة النظریة إلا لفت أنظار الناس الیه، و بذلک یخدعون الناس بواسطة خوارق العادات و الکذب و الریاء، و یکتمون من جهة أخرى إذا کان فی ذلک الکتمان مصلحة أو منفعة، و یختارون السکوت فی مقابل الجهل و البدعة، و مثل هذه الفئة خارجة عن محل البحث، و لم یعدوا من العرفاء بأی شکلٍ من الأشکال.

للاطلاع یراجع الجواب 11876 (الموقع: 11637).



[1] عوالی اللآلی، ج4، ص 103، منشورات سید الشهداء، قم، 1405 ق.

[3] الضحى، 11.

[4] الجواب رقم 11876 (الموقعک 11637).

[5] المجلسی، بحار الأنوار، ج18، 193، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280329 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258942 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129731 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115915 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89625 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61176 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60456 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57420 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51840 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • هل أن أكل سرطان البحر هو حرام؟
    47778 الحقوق والاحکام 2019/06/10
    لقد ورد معيار في أقوال و عبارات الفقهاء بخصوص حلية لحوم الحيوانات المائية حيث قالوا: بالاستناد إلى الروايات فان لحوم الحيوانات البحرية لا تؤكل و هذا يعني إن أكلها حرام[1]. إلا إذا كانت من نوع الأسماك التي لها فلس[2]، و ...