Please Wait
6568
العقل بمعنى الفهم، المعرفة، العلم، التدبر، القدرة على تقبل العلم و قوة تشخیص الحق من الباطل، و الخیر من الشر، و معنى العشق هو الحب الشدید.
و العشق تارةً یکون حقیقیاً و تارةً یکون مجازیاً، و العقل تارةً یکون ثاقباً...، و على هذا الأساس یمکن أن تفرض ثلاثة أنواع من الشخصیات للأفراد و هی: الشخصیة الحیوانیة، الشخصیة العقلانیة، و الشخصیة الربانیة، و حیث إن الإمام الحسین(ع) له وصال حقیقی و شدید بمعشوقه الحقیقی، کما أنه یتمتع بعقل ثاقب و قدسی، فإنه أقدم فی یوم عاشوراء على التضحیة، و ضحى بنفسه، نعم قد یکون الأمر من وجهة نظر العقل المحاسب و حساباته أن یتجنب الحسین هذه الفاجعة فینجو من القتل و یحفظ عیاله و أهله من الأسر، و لکن الحسین باعتباره عاشقاً و یتمتع بعقل ثاقب و هو من أفضل عقول بنی آدم، فقد شخص أن الطریق الوحید و الأمثل للحفاظ على الإسلام هو التضحیة و بذل النفس، فی نهضة عاشوراء سخر العقل للحساب فی دائرة العشق لیضع مخططاً یرسم الطریق للخلاص من هوة سحیقة، و هذا معنى انسجام العقل مع العشق فی نهضة الإمام الحسین(ع)، إن تجلی العشق لا یعنی غیاب العقل، فلا یعقل أبداً أن یکون عمل الحسین(ع) غیر معقول أو أنه مخالف للعقل، بل ما قام به یمثل تجلیاً للعشق المقارن للعقل الثاقب المدبر، و علیه إذا ما سئل الإمام(ع) کفیلسوف فبإمکانه أن یدافع عن نفسه.
حیث لا تکون الإجابة عن السؤال المتقدم ممکنة إلا من خلال عرض بعض المقدمات، و علیه و قبل کل شیء لا بد من تصویر فهم دقیق لعدة مفاهیم: العقل، العشق، الشخصیة التی تتشکل من هذین العنصرین و علاقة العقل بالعشق:
1ـ مفهوم العقل و العشق:
مفهوم العقل:
مادة عقل، معناها فی اللغة الإمساک و المنع، و کذلک تعنی الفهم، المعرفة، العلم، القوة و القدرة على تفهم العلم، التدبر و قوة تشخیص الحق من الباطل، و الخیر من الشر[1]. و فی العلوم المختلفة للعقل اصطلاح و استعمال مختلف من علم لآخر[2].
بحسب المفکرین الإسلامیین «فالعقل»: قوة مودعة فی النفس الإنسانیة و لیست من سنخ المیول، «العقل» مصباح ینیر الطریق و محاسب یزن الأمور و یقومها، و له نوعان من الأحکام: تارةً فی دائرة الوجود و العدم، و تارةً فی دائرة ما یجب و ما لا یجب، و یطلق علیه فی الدائرة الأولى «العقل النظری» و فی الدائرة الثانیة «العقل العملی»، و للعقل العملی مرتبتان: ألف: ما کان یعنى بتدبیر أمور الحیاة الدنیا و التفکیر بالمصلحة «الفردیة و الجماعیة»، و هذا ما یسمى «العقل المحاسب» و «العقل الجزئی» و اهتمام هذا العقل بإشباع الغرائز و المیول الشهوانیة.
ب ـ العقل الإیمانی الذی یرفض الشهوات و المیول الباطلة، و یسعى لتأمین سعادة الإنسان فی الدنیا و الآخرة، و یمکن تقسیم العقل الإیمانی نفسه إلى قسمین: العقل المتعارف و العقل الثاقب القدسی، و العقل المتعارف ینظر فی العواقب و یستلهم العبر و یسیر وفق القواعد و الأصول العقلائیة، و لکن جمیع هذه الأمور تدور فی فلک مصلحة الشخص أو المجتمع. و العقل هنا على الرغم من التفکیر بأبعد من المصلحة الشخصیة و اللذات و الأهواء إلا أنه ما یزال محاصراً بشراک مصالحه و منافعه، و لا یفهم معنى التضحیة و الفداء من أجل المعشوق. فی حین أن العقل القدسی یعنی الذوبان فی التوحید، و مع أن هذا العقل یتصف بالتفکیر بالعواقب و استلهام العبر و.... بنحو أفضل و کیفیة أعلى، و لکنه لا یجعل من المصالح الشخصیة أمراً محوریاً کما هو العقل المتعارف.
مفهوم العشق:
«العشق» مشتق من «العَشقَة» و «العشقَةُ» هی النباتات التی تلتف على الأشجار فتحجب عنها طرق التنفس فتتسبب مع مرور الأیام بإضرارها[3]. و العشق من مقولة المیول و الانجذاب و هو «الحب الشدید» و هذه المیول تارةً تکون حقیقیة و تارةً مجازیة.
العشق الحقیقی فی المبدأ و المعاد و قوس النزول و الصعود، و له نهایة و غایة سامیة،[4] إنه باتجاه العلة الإیجادیة للعالم، لأن ذات الحق کان هو العاشق و المعشوق قبل الخلق، و حینما أراد تجلی جمال ذاته جعل من الخلق مرآةً لجماله، و من جهة أخرى، فکل موجود یطلب کماله، و أن الکمال الوجودی لکل معلول هی مرتبة علة إیجاده، فکل معلول عاشق لعلته، و حیث إن ذات الحق هی أعلى مراتب الوجود، إذن فالمعشوق الحقیقی لسلسلة عالم الوجود هو الذات المقدسة للحق[5]. و کل عشق وراء هذا العشق فهو مجازی.
و مما تقدم أصبح معلوماً: أولاً، على أساس الأنواع الثلاثة للعقل الذی بیناه سابقاً هناک ثلاثة أنواع من الشخصیات: شخصیة حیوانیة، شخصیة عقلانیة، شخصیة ربانیة.
اختلاف الشخصیات:
الإنسان الذی یلتصق بالدنیا و لا ینظر إلى أبعد من الأمور المادیة، و یکون تمام همه الأکل و الشرب و إشباع الغرائز و المیول الشهوانیة و یستفید من العقل المتعارف لخدمة هذه الأهداف، فذلک الشخص حیوانی، و أما الإنسان الذی یستفد من العقل لیزن الأمور و ینظر فی العواقب[6]، و یسیر سیراً عقلائیاً، و لا یصدر منه عمل غیر محبب فهذا شخصیة عقلائیة، و أما الشخصیة الربانیة فهی عبارة عن الإنسان العاشق الذی ینظم سلوکه على أساس العقل الثاقب و القدسی، و هذا الإنسان و إن کان یستفید من معطیات العقل المتعارف و بأعلى المستویات، و لکن لا یجعل نفسه محوراً لتفکیره و همومه، و علیه فمن الممکن أن یکون بعض ما یصدر عن الإنسان الربانی مورداً لتأیید العقل المدبر أو المتعارف ، إضافة إلى إمکان تصور أربع حالات بخصوص بحث العلاقة بین العقل و العشق:
العلاقة بین العقل و العشق:
ألف: إذا کان المراد بالعقل هو العقل البدلی «المدبر» و المراد من العشق العشق الحقیقی، فمن البدیهی أن هذا العقل لا علاقة له بالعشق الحقیقی.
ب ـ إذا کان المراد من العشق العشق المجازی، أی التعلق بالشهوات و الغرائز، و المراد بالعقل العقل الإیمانی الإلهی، فمن المتیقن أن هذا العقل یدین مثل هذا العشق، لأن العقل المتوجه إلى الله یرفض سیطرة الشهوة و طغیانها، خصوصاً إذا کانت الشهوة إلى حد الإفراط.
ج ـ إذا کان المراد من العقل العقل المتعارف و المراد من العشق هو العشق الحقیقی و الفناء فی الله، فإذن هذان القسمان یتصارعان فی بعض المواطن، لأن عمل العقل تأمین المصالح و التفکیر بها، و عمل العشق هو التضحیة و الفداء و الإیثار فی طریق المعشوق.
د ــ إذا کان المراد من العشق الحقیقی و المراد من العقل العقل القدسی، فمن المتیقن أنه لا وجود لأی تنافٍ بینهما، و هما منسجمان فی طریق السیر و السلوک إلى الله، لأن معنى العشق هو الفناء فی الله، و معنى العقل القدسی الذوبان فی التوحید. و عندما یصل الإنسان إلى مرتبة العشق، فإنه یفهم أن العقل الحقیقی هو العقل «القدسی» الذی لدیه، و أن الآخرین فی عقال و وهم یتخیلونه عقلاً.
تحلیل شخصیة الإمام الحسین(ع) و نهضته:
نعلم أن ثورتین قامتا بوجه یزید بن معاویة: إحداهما ثورة الحسین بن علی(ع) و الأخرى ثورة عبد الله بن الزبیر، و بین الثورتین اختلافات أساسیة على صعید الأسس و القواعد و على مستوى الأهداف و الوسائل، إضافة إلى ما تمخضت عنهما من نتائج[7].
کان هدف ابن الزبیر فی ثورته الإمساک بزمام السلطة و الحکومة، و فی مثل هذا الهدف من الطبیعی أن یکون العقل فی خدمة الشهوات، و إن العقل المدبر یکون له دور فی تحقیق هذا الهدف، کما أنه یستفید من کل الوسائل المتاحة لتحقیق الهدف، حتى و إن کان الثمن هتک حرمة بیت الله.
و من جهة أخرى کان للحسین هدفٌ إلهی، و لم یکن یسعى لتحقیق شهوات النفس و إشباعها، و لم یکن فی نهضته أی دور للعقل الجزئی، کان یعلم أن هؤلاء یریدون قتله، و کذلک کان على علم بموقف أهل الکوفة و ما کان لهم من سابقة مع أبیه و أخیه، و علیه فما کان لیعتمد على عهود و کلام أهل الکوفة و و عودهم، و هذا ما کان یفکر به الکثیر من أهل زمانه من العلماء و العقلاء و أصحاب الرأی، حیث کانت لهم عقول راجحة و یتمتعون بالإیمان و الأخلاق الفاضلة[8].
و لکنهم یفکرون فی هذه الأمور من خلال عقل المصلحة، و إن القتل و السبی و التشرید هو نهایة هذا الطریق، و لذلک کانوا مستائین و طلبوا من الإمام (ع) أن یترک السفر إلى کربلاء، و کان بعضهم یقترح عدم حمل العائلة إن هو أصر على الخروج، و الفرق بین الإمام و بینهم فی نقطة واحدة: أنه کان یرى کما یرون من القتل و السبی و التشرید إلا أنه کان عاشقاً، فلا یلتفت إلى وساوس العقل المتعارف غیر القدسی و نظراته البعیدة.
کان الانحراف کبیراً فی المجتمع الإسلامی، و لم یتمکن أحد من الوقوف بوجه هذا الانحراف إلا عن هذا الطریق، و هنا استغرق الإمام فی العشق الحقیقی فی ذات الحق.و رأى أن الدفاع عن الحق لا یکون إلا عن طریق التضحیة و القتل و الاسر، و هذا هو الجهاد الأکبر الذی یکون بین العقل المتعارف و العشق الحقیقی، و هنا یکون صاحب العقل المتعارف الذی یسیر وفق البرهان و الحسابات الدقیقة یقول: عندما یکون الناصر قلیلا و العدو فی ذروة قوته، فلا بد من التقیة و السکوت و لکن الحسین الذی تخطى هذه المرتبة و توصل إلى مرتبة العقل القدسی، فإن العقل و العشق یفتی بالآتی: تجب التضحیة بالنفس و العیال و الأولاد على مذبح المحبوب و المعشوق، نعم، کان العقل المتعارف متحیراً فی مسألة النهضة الحسینیة، و أخیراً أفتى بالسکوت، و لکن العقل القدسی الذی وصل إلى ذروة العشق و الشهود، فأنه انتهى خلال محاسبة دقیقة و موازنة صادقة إلى معرفة الصحیح من الخطأ، و لم یکن حبیساً للعقل المتعارف و هو الوهم فی حقیقته، و الکل یعرف الیوم لو أن الحسین أصغى إلى نصائح العقلاء فی عصره لما بقی من الإسلام شیءٌ إلا إسمه و لکانت الحقیقة أسیرة بأیدی الأمویین و لم تصل إلى زماننا. إن تضحیة الإمام الحسین التی تعتبر مزیجاً من العقل و العشق حفظت الإسلام من خطر ماحق کاد أن یقضی علیه. لأن العقل أجرى حساباته داخل دائرة العشق، و رسم خططه فی إطار هذه الدائرة، حتى صدر طریق الخروج من هذا النفق المظلم. و هذا هو معنى اتساق العشق و العقل و انسجامهما فی نهضة الإمام الحسین(ع).
و علیه فعندما نقول أن نهضة الإمام الحسین هی تجلی العشق، فلا یعنی ذلک أنها فی دائرة غیر المعقول أو أنها ضد العقل. بل أنها تجلی العشق و أعلى مرتبة من العقل المتعارف، و علیه لو سئل الإمام باعتباره فیلسوفاً عن نهضته فإنه یستطیع أن یقدم جواباً لکل مواقفه.
مواضیع مرتبطة:
العشق و عقل الإنسان، 1822 (الموقع: 2935).
العقل المحاسب، القلب، الإیمان و العشق، 175 (موقع: 937).
العشق المجازی و الوصول إلى الحقیقة، 133 (الموقع: 1080).
العشق فی نظر العرفان و الفلسفة، 882 (الموقع: 963).
[1]انظر: الفراهیدی، خلیل بن أحمد، کتاب العین، مادة عقل؛ ابن فارس، أحمد، معجم مقاییس اللغة، مادة عقل، ج 4، ص 14769.
[2]انظر: ابن سینا، حسین، الرسائل، ج1، ص 88-89؛ ملا صدرا الشیرازی، صدر الدین، شرح أصول الکافی، ج1، ذیل شرح الحدیث الثالث، ص222-228.
[3]العشق إفراط الحب و یکون فی عفاف، و فی الأساس (اشتقاق العشق من العشقة)، أقرب الموارد، ج2، ص 786؛ کذلک انظر: لسان العرب، ج 10، ص 251؛ السجادی، سید جعفر، معجم المصطلحات و التعابیر العرفانیة، مادة عشق؛ نفسه، معجم العلوم العقلیة، مادة عشق.
4]من هنا نرى العرفاء قد استفادوا من قوله " یحبهم و یحبونه" بان العشق طرفینی الترکیب.
[5]ملا صدرا، الأسفار، ج7، ص 158.
[6]«یا أبا ذر لا عقل کالتدبیر». إرشاد القلوب إلى الصواب، ج1، ص 141؛ «العاقل من سلّم إلى القضاء و عمل بالحزم»؛ تصنیف غرر الحکم و درر الکلم، ص 54.
[7]للاطلاع الأکثر على هذه الاختلافات، انظر: هادوی الطهرانی، مهدی، سیاسة العزة الحسینیة، سیاسة الحیلة الزبیریة، مقالة ألقیت فی مؤتمر العزة و الافتخار الحسینی، سنة 1382.
[8]روى المجلسی: لَمَّا تَجَهَّزَ الْحُسَیْنُ (ع) إِلَى الْکُوفَةِ أَتَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَ الرَّحِمَ أَنْ یَکُونَ هُوَ الْمَقْتُولَ بِالطَّفِّ فَقَالَ أَنَا أَعْرَفُ بِمَصْرَعِی مِنْک. بحار الأنوار، ج 75، ص 273. للاطلاع على نصائح الآخرین، انظر: اللهوف، ص 62؛ الکامل ج 3، ص 38.