Please Wait
12171
لحقیقة الوجود طرفان، تصل فی أحد طرفیها إلى الفعلیة المحضة و الکمال المطلق، و تنتهی فی طرفها الآخر إلى القوة المحضة و القابلیة الصرفة، و المسافة بین هذین الطرفین تتشکل بمراحل الوجود المتوسطة بینهما.
فنور الوجود المنبثق من مبدأ الوجود لا یصل إلى مرحلة القوة المحضة إلاّ عن طریق المرور بجمیع مراحل الوجود المتوسطة، و هذا ما یسمونه (قوس النزول)،و کذلک فإن الوجود فی مراحل التکامل و الاستکمال، فإنه لا یرتقی من مرحلة القوة و الاستعداد المحض (الهیولی) إلى مقام القرب من واجب الوجود إلا عن طریق المرور و العبور لجمیع مراحل الوجود المتوسطة بین طرفی الوجود، و هذا ما یطلقون علیه (قوس الصعود).
و من هنا شبهوا سیر حقیقة الوجود بالدائرة المشتملة على قوسی النزول و الصعود.
و فی نظر العرفان فإن الإنسان تودع فی ذاته جمیع المراتب فی قوس النزول، و تصاحبه حتى نشأته الأولى، و بعد ذلک تتفتح هذه القابلیات- التی حصل علیها فی قوس النزول - فی قوس الصعود حتى یصل فی نهایة الأمر إلى درجة کماله، و فی وصوله إلى الثبات و القرار تتم دائرة الوجود بتمام حدودها و تعیناتها، کما هو الحال بالنسبة لنبی الإسلام الأعظم (ص)، فقد ارتقى إلى هذا المقام الشامخ، و قد أخبر القرآن بذلک فی قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَکَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنَى}.
قبل الدخول بصلب الموضوع، لابد من توضیح إجمالی لقاعدتین فلسفیتین هما (الإمکان الأشرف) و (الإمکان الأخس).
قاعدة (الإمکان الأشرف) تتمثل بالآتی: من اللازم تقدم الممکن الأشرف فی جمیع مراحل الوجود على الممکن الأخس، و الممکن الأشرف هو موجود ممکن یکون أعلى رتبة من حیث الوجود من الممکن الأخس، الذی یکون فی رتبة أدنى من حیث الوجود. و بعبارة أخرى: فی کل وقت یفترض فیه وجود الممکن الأخس فلا بد من القول بوجود الممکن الأشرف بالضرورة و هو متقدم على الممکن الأخس، فمثلاً إذا أخذنا (النفس) و (العقل) بنظر الاعتبار و قسنا أحدهما إلى الآخر، فإننا سوف نطمأن إلى القول أن العقل هو جوهر مجرد ذاتاً و فعلاً و هو متقدم على النفس.
فبمجرد أن نعلم بصدور وجود النفس فسوف نعلم بصدور وجود العقل و أنه سابق لصدور وجود النفس، و قاعدة الإمکان الأخس هی عکس قاعدة الإمکان الأشرف.
لحقیقة الوجود طرفان، یطلقون علیهما اسم (طرفی الوجود) فحقیقة الوجود تتصل من أحد طرفیها بالفعلیة المحضة و الکمال المطلق، و تنتهی فی طرفها الآخر إلى محض ما بالقوة و صرف الاستعداد، فالطرف الذی یصل إلى الفعلیة المحضة و الکمال المطلق هو واجب الوجود الذی هو غیر متناهٍ من حیث شدة الکمال و الفضل، کما أنه غیر متناهٍ من حیث الفعل، و أما الطرف الذی ینتهی إلى محض ما بالقوة و صرف الاستعداد فهو عبارة عن الهیولى الأولى و هو مرتبة غیر متناهیة من حیث القصور و فقدان الکمال، و کذلک لا نهایة من حیث الاستعداد و قبول الفعلیة، و المسافة بین هذین الطرفین تتشکل من مراحل الوجود المتوسطة بین الطرفین.
و نور الوجود المفاض من مبدأ الوجود لا یصل إلى مرحلة الوجود الهیولائی الذی هو انفعال محض، إلاّ عبر المرور بجمیع مراحل الوجود المتوسطة بین الطرفین، و هذا ما یسمونه (قوس النزول)، و کذلک فإن الوجود الهیولائی لا یصل فی مراحل استکماله و کماله إلى مرتبة القرب من واجب الوجود إلا من خلال العبور و المرور بمراحل الوجود المتوسطة، و هذا ما یطلقون علیه (قوس الصعود). و على هذا فإن الکثیر من الموجودات المتوسطة فی قوس النزول یتم إثباتها بواسطة قاعدة الإمکان الأشرف،کذلک کثیر من الموجودات المتوسطة فی قوس الصعود یتم اثباتها عن طریق قاعدة امکان الاخس، یعنی باثبات وجود النفس یتم إثبات وجود العقل بواسطة قاعدة الإمکان الأشرف، و أما فی قوس الصعود فبإثبات العقل - بقاعدة الإمکان الأخس - یثبت وجود النفس الناطقة.[1]
قوس النزول و الصعود بالنسبة للإنسان (بالنظرة العرفانیة):
قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِینَ}.[2] و هذا بحسب (قوس النزول) فیه دلالة على أن للإنسان وجوداً قبل وجوده فی عالم الطبیعة کما هو مقتضى التحقیق، فإن إعادته من أعلى علیین إلى أسفل السافلین غیر ممکن إلا بمروره فی المنازل المتوسطة بین المرتبتین.
فینزل من عالم (الأحدیة) و (عین ثابت) فی علم الله إلى عالم المشیئة، و من عالم المشیئة إلى عالم العقول و الروحانیین من الملائکة المقربین، و من هذا العالم إلى عالم (الملکوت الأعلى) عالم النفوس الکلیة، و منه إلى عالم الطبیعة، و عالم الطبیعة له مراتب متعددة أیضاً حتى الوصول إلى أدنى المراتب و هی مرتبة عالم الهیولى الأولى، و هذه هی الارضیة الاولی، و هی المرتبة السابقة و الطبیعة النازلة، و هی آخر درجات نزول الإنسان، ثم یشرع الإنسان بالسیر مرة أخرى، و یتدرج من الهیولى التی تعتبر مقبض القوس و بدایته إلى مقام {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَکَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنَى}[3]، فالإنسان الکامل هو کل شیء، و هو تمام سلسلة الوجود و به تتم دائرة الوجود و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، و هو الکتاب الإلهی الکلی.[4]
و قد اعتبر الفلاسفة مبدأ هذین القوسین و منتهاهما العقل الأول و هو فی حدود الفیض المقدس، و اعتبروا العقل الأول هو مرحلة البساطة و إجمال الأمر الإلهی الواحد[5] و حیث أن أهل العرفان یعتبرون تمام دائرة الوجود فی قوس الصعود هو الوصول إلى مقام (أو أدنى)، و إن کانت بدایة الحرکة و انبعاث الفیض تنتسب إلى أسماء الذات.
من هنا فإن قوس الصعود و النزول و محیط دائرة الأمر الإلهی و حرکة الإیجاد هی أوسع عند أهل العرفان مما یدور فی معرض فهم أهل الحکمة. فمقام الإنسان الکامل عند أهل العرفان کما جاء فی القرآن الکریم: {وَ مِنَ اللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَکَ عَسَى أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَاماً مَحْمُوداً}[6]. فکونه (محموداً مطلقاً) من جهة أن جمیع عالم الإمکان یتلقى منه الفیض، فهو حامد له. فصاحب المقام المحمود هو الشخص الذی یمر بقوسی النزول و الصعود فیصل إلى مقام (أو أدنى) و بهذا یکون المتعهد باتصال القوسین، ففی قوس النزول یتلقى الإنسان جمیع المراتب على سبیل الاستیداع فتصاحبه إلى وقت نشأته، و بعد ذلک فإن جمیع ما استودع فیه یتفتح و ینمو فی قوس الصعود.[7]
وهناک آیات قرآنیة أخرى یمکن أن یستفاد منها فی الإشارة إلى قوس النزول و الصعود، و هی کثیرة، من أمثال قوله: {کَمَا بَدَأَکُمْ تَعُودُونَ}[8] و {کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ}[9] و .... و لهذا نخاطب الإمام الحجة و صاحب العصر و الزمان (عج) فی دعاء الندبة فنقول: "یا ابن من دنا فتدلى، فکان قاب قوسین أو أدنى، دنواً و اقتراباً من العلی الأعلى...".[10] فالحدیث عن قوس النزول و الصعود طویل، ولکننا نکتفی هنا بهذا المقدار، و باستطاعة طلاب العلم و عشاقه الاستزادة منه بأن یراجعوا الکتب ذات العلاقة بالموضوع.[11]
[1]. ابراهیم الدینانی، غلام حسین، قواعد کلى فلسفى در فلسفه اسلامى "القواعد الکلیة فی الفلسفة الإسلامیة"، ج1، ص 30، مؤسسة التحقیقات و المطالعات الثقافیة.
[2]. التین، 4 و 5.
[3]. النجم، 8 و 9.
[4]. الإمام الخمینی، السید روح الله، شرح دعاى سحر" شرح دعاء السحر"، ص 102، نهضة المرأة المسلمة.
[5]. {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}، القمر، 50.
[6]. الإسراء، 79.
[7]. جوادی آملی، عبد الله، تحریر تمهید القواعد، ص 566 – 621، منشورات الزهراء.
[8]. الأعراف، 29.
[9]. الأنبیاء، 104.
[10]. المحدث القمی، عباس، مفاتیح الجنان، دعاء الندبة.
[11]. المواضیع ذات الصلة، القرب الإلهی – کمال الإنسان و....