Please Wait
8445
عندما یکون الکلام عن مسألة الرقیق فی الإسلام لابد من التوجه إلى عدة مسائل:
1- لم یکن الإسلام مبتکراً لمسألة الاسترقاق بأی شکل من الأشکال.
2- إن الإسلام اعتنى و اهتم بمصیر و أوضاع العبید المؤلمة باعتبارها مشکلة اجتماعیة معقدة.
3- إن الإسلام وضع (برنامجاً) دقیقاً و فعالاً لحل مسألة الرقیق؛ لأن العبید یشکلون نصف المجتمع فی بعض الأحیان، و لیس لهم عمل مستقل یکتسبون منه، و لا یملکون أیة وسیلة لإدامة حیاتهم، فلو أن الإسلام أصدر قراراً فوریاً یقضی بتحریر العبید دفعة واحدة لکان ضرره علیهم کبیراً و لهلک عدد منهم. و لعل هذه الفئة الکبیرة التی کانت تعانی من الحرمان و القهر تمارس بعض الأعمال التی تخل بأمن المجتمع من نهب و سلب و قتل فیما لو حررت دفعة واحدة. و کل هذه العوامل کانت فی حساب الإسلام لذلک وضع برنامجاً تدریجیاً لتحریر العبید و نیل حریتهم و امتزاجهم بالمجتمع.
وهذا المنهج یعتمد علی خطوات متعددة منها:
المادة الأولى: إغلاق باب الاسترقاق.
المادة الثانیة: فتح نافذة التحرر.
المادة الثالثة: إحیاء شخصیة العبید.
المادة الرابعة: التعامل الإنسانی مع العبید.
المادة الخامسة: الإعلان بأن بیع الإنسان من أسوأ الأعمال.
و إذا کان أئمة الإسلام یتملکون الرقیق فإن ذلک یندرج فی إطار هذا البرنامج الشامل، حتى أن معاملتهم للعبید کانت من اللطف و الإنسانیة إلى حد رفض معها بعض العبید مغادرة بیت الإمام بعد تحریره، إضافة إلى ذلک فإن تعامل أئمة الدین مع العبید یمثل قدوة عملیة للمسلمین تعلمهم کیفیة التعامل مع هذه المسألة الهامة و الحساسة و ذلک ما یخدم اتجاه تحریر العبید و إنهاء هذه الظاهرة.
و أما بخصوص ما طرحتم من شبهة تناقض الاسترقاق مع الآیة الشریفة فی قوله تعالى: «لا إکراه فی الدین»، فمن اللازم القول: إن مسألة الاسترقاق تختلف اختلافاً أساسیاً مع مسألة حریة الإنسان فی اختیاره لدینه. و بعبارة أوضح، فإن الآیة الشریفة تشیر إلى رفض الإکراه و الإجبار فی الدین و المعتقد و هذه مسألة ترتبط بروح الإنسان، أی أنها أمر داخلی، أما الاسترقاق فلا علاقة له بالروح، و إنما أمر متعلق باستثمار الجسد و قواه العضلیة، أی بوجود الإنسان الخارجی، کما نلاحظ وجود أشخاص على طول التاریخ کبلال الحبشی و ... کانوا بحسب الظاهر أرقاء، و لکنهم أحرار مختارون فی قضیة اختیار الدین و العقیدة. فاختاروا الإسلام، و من الجانب الآخر نجد إنساناً یتمتع بکامل حریته کأبی لهب مثلاً... و هو و إن کان حراً فی الظاهر إلا أنه أسیر شهواته و میوله النفسیة الدنیوی، فوقف معادیاً و معانداً للدین الإسلامی.
من أجل أن یتضح الجواب ینبغی أن نبحث مسألة الرق فی الإسلام و لو بشکل مختصر.
مع أن مسألة الرق و الاستعباد لم ترد فی القرآن الکریم کقانون حتمی بالنسبة لأسرى الحرب، و لکن لا یمکن إنکار الموارد المتعددة التی ذکرها القرآن بخصوص الرقیق، و أنه یثبت أصل وجود الرق فی زمن النبی (ص) و صدر الإسلام. [1] و مثال ذلک جواز أخذ الأسرى فی الحروب و الاستفادة منهم بعنوان الرقیق و أحکام الزواج بالعبید و مسائل المکاتبة و غیرها من المسائل التی وردت فی آیات عدیدة من آیات القرآن الکریم و فی عدة سور منها: النساء، النحل، المؤمنون، النور، الروم و الأحزاب.
و قد تولد لدى البعض عتب على الإسلام متمثل بالسؤال التالی:
لماذا لم یلغِ هذا السفر الإلهی العظیم مسألة الرق بقرار حاسم و قاطع لیحرر جمیع الأرقاء بحکم واحد؟!
صحیح أن الإسلام أوصى کثیراً بالعبید، و لکن المهم إعطاؤهم الحریة بلا قید أو شرط، فلماذا یبقى الإنسان عبداً لإنسان آخر و یحرم من نعمة الحریة الکبرى و هی منحة إلهیة لجمیع البشر؟
و الجواب لابد و أن یکون بجملة واحدة، و هی أن الإسلام وضع نظاماً دقیقاً لزمن معین لتحریر العبید حیث یتم فی نهایةالمطاف تحیرر الجمیع دون أن یکون لهذا التحرر انعکاسات سلبیة و مدمرة على المجتمع.
و قبل أن نفصِّل هذا (البرنامج) الإسلامی الدقیق، لابد من ذکر عدة نقاط على سبیل المقدمة:
1- لم یکن الإسلام مبتدعاً أو موجداً للاستعباد و الاسترقاق بای بشکل من الأشکال و انما ظهر الإسلام فی زمن کانت مسألة العبودیة فیه فی ذروة انتشارها.
2- کان الرقیق و على طول التاریخ یعیشون أوضاعاً کارثیة مؤلمة و کنموذج لذلک یمکن الإشارة إلى عبید "إسبارطة" باعتبار إسبارطة تمثل الحضارة و المدنیة آنذاک، و کما یقول صاحب روح القوانین: إن غلمان إسبارطة کانوا على درجة من التردی بحیث لم یکن أحدهم عبداً لشخص واحد، و إنما کانوا عبیداً لجمیع أفراد المجتمع و کل شخص بإمکانه أن یعذب و یؤذی غلامه أو غیره دون خوف أو خشیة من القانون، و فی حقیقة الأمر کانت حیاتهم أسوأ من حیاة الحیوانات. و فی الفترة المحصورة بین اصطیاد العبید من أنحاء الدول المتخلفة و حتى وصولهم إلى الأسواق لیباعوا کان العدید منهم یفارق الحیاة لقسوة المعاناة و سوء التعامل، و أما الباقی فیقع بأیدی أهل الأطماع و الجشع الذین یقت ّ رون علیهم فی الطعام بما یسد الرمق و یساعدهم على العمل لصالح الأسیاد، و عندما یصلون إلى مرحلة الشیخوخة أو یصابون بمرض عضال یترکون لیتلقوا مصیرهم بانفراد، و لذلک کان مصطلح الرق على طول التاریخ مقترناً بالجرائم الفضیعة.
و عندما جاء الإسلام باعتباره دیناً ینشد الحریة و السعادة لجمیع أبناء البشر، فقد عانى من مشکلة الرق السابقة لظهوره باعتباره مشکلة اجتماعیة معقدة، و لذلک لم یلتزم الصمت إزاء هذه المسألة الهامة، و إنما عرض حلولاً دقیقة و حکیمة لاجتثاث هذه المعضلة.
3- الحل الإسلامی لتحریر الرقیق:
من الأمور التی لا یلتفت إلیها عادة مسألة الزمن الذی یلزم لمعالجة النظام الخاطئ الذی یتغلغل فی نسیج المجتمع، و إن أی قرار غیر مدروس بهذا الشأن یؤدی إلى نتائج عکسیة، تماماً کالشخص المبتلى بمرض خطیر و إن مرضه أوغل من جسمه شیئاً فشیئاً، أو کمثل المدمن الذی أوغل فی الإدمان سنوات عدیدة، فإن مثل هذه الموارد لا تعالج دفعة واحدة، و إنما تحتاج إلى فترة زمنیة کافیة.
و نقول بصراحة أکثر: لو أن الإسلام أعلن تحریر جمیع العبید بقرار مفاجئ حاسم لتعرض الکثیر منهم إلى التلف، و ذلک لأن عدد الرقیق یکون نصف المجتمع فی بعض الأحیان، و هذا العدد الهائل لا یمتلک مأوى و لا عمل و لا الوسائل الضروریة لإدامة الحیاة، و تحریر الجمیع بقرار واحد یعنی ظهور مجتمع کبیر من العاطلین عن العمل المعرضین للخطر، إضافة إلى احتمال تسببهم لإخلال بنظام المجتمع و بنائه، و عندما یضغط الحرمان على هذه الشریحة فمن الممکن أن یدفعهم إلى ارتکاب الجرائم و إراقة الدماء.
و لذلک لابد من تحریرهم بشکل تدریجی و دمجهم فی نسیج المجتمع شیئاً فشیئاً، و عندها لا تتعرض حیاتهم إلى الخطر، و لا یعرضون نظام المجتمع إلى الخلل و الاضطراب. و هذا ما أخذه الإسلام بنظر الاعتبار حین عرض حلوله لمسألة الرقیق.
و ما طرحه الإسلام فی هذا البرنامج له سعة و تشعب نعرض لرؤوس المطالب فیه على وجه الاختصار:
المادة الأولى: إغلاق منابع الاسترقاق
للرق فی التاریخ أسباب کثیرة، و لم تقتصر على أسرى الحرب، فالمدانون العاجزون عن تسدید ما علیهم یستعبدون بدلاً عما علیهم، و القوة و الغلبة قد تکون سبباً من أسباب الاسترقاق، و لکن الاسلام وقف بوجه جمیع هذه الأسباب، و لم یجز الاسترقاق إلا لسبب واحد و هو اتخاذ الأسرى فی الحرب، فمن المسلم أن الغلبة فی میدان الحرب یلازمها أمران: إما أن یقتل الأفراد المتبقین من جنود العدو، و إما أن یساقوا أسرى، و السبب هو أن ترک العدو و ما تبقى من أفراده قد یؤدی به إلى استجماع قواه و تنظیم صفوفه و العودة إلى الهجوم.
و قد اختار الإسلام طریق الحل الثانی، و لکنه أمر بتغییر الموضوع بعد الخروج من ساحة الحرب تغییراً کاملاً، فالأسیر فی نظر الإسلام بمنزلة الأمانة الإلهیة فی أیدی المسلمین، مع کل ما اقترفت یداه من جنایات و جرائم. [2]
أما ما یخص حکم الأسیر بعد نهایة الحرب فأمر من أمور ثلاثة: تحریره دون قید أو شرط، تحریره بشرط أن یدفع الفدیة، و الخیار الثالث استرقاقه، و من المعلوم أن تعیین أحد الخیارات الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمین، و الإمام یراعی فی ذلک المصالح الإسلامیة العلیا فی الداخل و الخارج و یتخذ القرار المناسب تبعاً لذلک.
و إذا کان قرار الإمام عدم تحریر الأسرى و إطلاق سراحهم و لم تکن فی ذلک الوقت إمکانیة وضعهم فی سجون حتى یتبین مصیرهم النهائی، فلم یبق إلا أن یقسموا على العوائل باعتبارهم أرقاء للحفاظ علیهم.
و من الطبیعی فإن تغییر مثل هذه الظروف لا یبقى مبرر أمام الإمام فی الحکم باسترقاق الأسرى، فمن الممکن أن یحرروا بشرط دفع الجزیة، لأن الإسلام خیر الإمام باتخاذ القرار بحسب المصالح. و على هذا الأساس فإن الإسلام أغلق أبواب الاسترقاق الجدیدة تقریباً.
المادة الثانیة:
نظم الإسلام برنامجاً واسعاً لتحریر العبید، فلو أن المسلمین طبقوا هذا النظام عملیاً لأفضى إلى تحریر جمیع الأرقاء فی مدة زمنیة لیست بالبعیدة حتى ینصهروا فی نسیج المجتمع.
و عناوین النظام الإسلامی على الشکل التالی:
أ - شراء العبید و إطلاقهم و هو أحد مصارف الزکاة الثمانیة. [3] و هذا یعنی أن الإسلام رصد أموالاً ذا مصادر مستمرة فی بیت المال لغرض تحریر الرقیق بالکامل.
ب - وضع الإسلام مقررات یتمکن العبید من خلالها التعاقد مع مالکیهم یمکنهم من التحریر من ملکه بالتدریج و ذلک ما یطلق علیه فی الفقه الإسلامی اسم (العبد المکاتب).
ج - إعتبر تحریر الرق من أفضل العبادات و القربات فی الإسلام، و کان لأئمة المسلمین قدم السبق فی هذا المیدان، حتى قیل أن علی بن أبی طالب أطلق ألف عبد من کد یمینه. [4]
د - کان أئمة المسلمین یحررون الرقیق بأبسط الحجج حتى یکونوا قدوة للآخرین، حتى أن أحد غلمان الإمام الباقر عَمِل عَمَل خیر فکان رد الإمام أن قال له: «اذهب فأنت حر فإنی أکره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنة». [5]
و قد ورد فی سیرة الإمام علی بن الحسین (ع): روی أن جاریة لعلی بن الحسین (ع) جعلت تسکب علیه الماء لیتهیأ للصلاة، فسقط الإبریق من یدها فشجه، فرفع رأسه إلیها، فقالت له الجاریة: إن الله عز و جل یقول: «و الکاظمین الغیظ» فقال لها: قد کظمت غیظی، قالت: «و العافین عن الناس» قال: قد عفا الله عنک، قالت: «و الله یحب المحسنین» قال: اذهبی فأنت حرة لوجه الله». [6]
هـ - جاء فی بعض الروایات أن العبد یتحرر بعد سبع سنوات، ورد عن الإمام الصادق (ع): «من کان مؤمناً فقد عتق بعد سبع سنین، أعتقه صاحبه أم لم یعتقه، و لا یحل خدمة من کان مؤمناً بعد سبعة سنین». [7]
و قد نقل عن النبی حدیث فی هذا الباب حیث قال: «ما زال جبرئیل یوصینی بالمملوک حتى ظننت أنه یضرب له أجلاً یعتق فیه». [8]
و - الشخص الذی یحرر سهمه فی العبد المشترک یُلزم بشراء السهم الآخر و یحرره بالکامل.
ز - کل من یحرر عضواً من العبد الذی یملکه فالحریة تسری إلى القسم الآخر بشکل تلقائی، فیتحرر الجمیع.
ح - من مُلک أبویه أو أجداده أو أبناءه أو أعمامه أو أخواله أو أبناء أعمامه أو أخواله فإنهم یتحررون تلقائیا و على فوراً.
ط - فی أی مورد یکون مالک الجاریة صاحب ولد منها فلا یجوز بیعها، و إنما تحرر فیما بعد من سهم ولدها من الإرث. و هذه الوسیلة تساهم فی تحریر الکثیر من الجواری لأن الکثیر منهن بمثابة الزوجة للمالک، فیکون له منها أولاد.
ی- لقد قرر الإسلام أن تکون کفارة الکثیر من الذنوب و الاخطاء تحریر الرقاب مثل (کفارة قتل الخطأ، ترک الصوم عمداً، کفارة القسم).
ک - تحریر العبد الذی یعاقبه مالکه عقوبة قاسیة.
کان مالکو الرق قبل الإسلام یرون لأنفسهم الحریة الکاملة فی معاقبة عبیدهم و بکل وسیلة یرونها. أما الإسلام فقد منع الکثیر من ألوان العقوبات اللاإنسانیة مثل (قطع الأذن، اللسان، و الأنف) و أعلن أمام الملأ أن کل عبد یعاقب بمثل هذه العقوبات فإنه یتحرر مباشرة. [9]
المادة الثالثة إحیاء شخصیة العبد:
فی الوقت الذی یسیر فیه العبید باتجاه الحریة ضمن النظام الشامل الذی وضعه الإسلام لذلک نجد أن الإسلام اتخذ الکثیر من الإجراءات التی تساهم فی حفظ حقوقهم، و تحیی جوانب شخصیتهم الإنسانیة حتى لم یبق أی فارق بین شخصیة العبد و شخصیة الإنسان الحر. و ذلک عندما جعل من التقوى معیاراً أساسیاً للتفاضل بین الأشخاص. و لذلک سمح للعبید أن یتسنموا المناصب و المواقع الهامة فی المجتمع، بما فی ذلک منصب القضاء الحساس و المهم. و فی عصر النبی (ص) تسلم بعض المملوکین مناصب حساسة و ذات قیمة کبیرة کقیادة الجیوش و غیرها من المراکز الأخرى التی شغلها العبید أو من کانوا عبیداً ثم حرروا.
و إن الکثیر من أصحاب النبی کانوا من العبید أو المحررین، و قد أدى هؤلاء مهمة المساعد و المعاون لعظماء الإسلام و قادته، کسلمان و عمار و بلال و قنبر ممن یشار إلیه على سبیل المثال. و بعد غزوة بنی المصطلق تزوج النبی (ص) بإحدى الجواری المحررات من هذه القبیلة فکان ذلک سبباً لإطلاق جمیع أسرى القبیلة.
المادة الرابعة: التعامل الإنسانی مع العبید
ورد الکثیر من الأحکام و التعالیم الإسلامیة الخاصة بالرفق بالعبید و مداراتهم، حتى صاروا من المشارکین و المساهمین فی حیاة مالکیهم، یقول النبی الأکرم (ص): «إخوانکم خَوَلُکُم جعلهم الله تحت أیدیکم فمن کان أخوه تحت یده فلیطعمه مما یأکل و لیلبسه مما یلبس و لا تکلفوهم ما یغلبهم فإن کلفتموهم فأعینوهم».
و یقول علی (ع) لغلامه قنبر: «و أنا أستحیی من ربی أن أتفضل علیک، سمعت رسول الله (ص) یقول: ألبسوهم مما تلبسون، و أطعموهم مما تأکلون».
و یقول الإمام الصادق: «و إن کان أبی لیأمرهم فیقول کما أنتم، فیأتی فینظر فإن کان ثقیلاً قال بسم الله ثم عمل معهم و إن کان خفیفاً تنحى عنهم».
إن ما فرضه الإسلام من سیرة حسنة مع الرقیق فی الفترة الانتقالیة التی یعیشونها کان من الوضوح و الإنسانیة مما دعا غیر المسلمین إلى الإشادة به و تمجیده.
و کمثال على ذلک یقول جرجی زیدان فی کتابه تاریخ التمدن الإسلامی: إن الإسلام کان رحیماً بالعبید إلى أبعد ما یمکن، فقد ورد عن النبی الکثیر من التوصیات بهم، و منها قوله: « من کان أخوه تحت یده فلیطعمه مما یأکل و لیلبسه مما یلبس و لا تکلفوهم ما یغلبهم».
و یقول فی موضع آخر: «لا تخاطبوا عبیدکم بالقول یا غلام و یا جاریة بل یا أخی و یا ولدی! و کذلک ورد فی القرآن من التوصیات اللطیفة فیما یخص الرقیق: «وَ اعْبُدُوا اللهَ وَ لا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئًا وَ بِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَانًا وَ بِذِی الْقُرْبَى وَ الْیَتَامَى وَ الْمَسَاکِینِ وَ الْجَارِ ذِی الْقُرْبَى وَ الْجَارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ وَ مَا مَلَکَتْ أَیْمَانُکُمْ».
المادة الخامسة: بیع الإنسان من أسوأ الأعمال
یعتبر الإسلام بیع و شراء العبید من الأعمال الشدیدة الکراهة، حتى ورد عن الرسول (ص) قوله: «شر الناس من باع الناس». [10]
و هذه عبارة کافیة لمعرفة رأی الإسلام النهائی فی مسألة الرق و الاسترقاق، و بذلک یتضح الاتجاه الذی سعى إلیه الإسلام فیما وضع من نظام کامل لتحریر العبید.
و الأهم من ذلک أن الإسلام اعتبر سلب حریة الإنسان و تحویله إلى متاع یباع و یشترى ذنباً لا یغتفر، کما جاء فی الحدیث عن النبی الأکرم (ص): إن الله یغفر کل الذنوب إلا ثلاث: « إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ کُلَّ ذَنْبٍ یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِلَّا مَهْرَ امْرَأَةٍ وَ مَنِ اغْتَصَبَ أَجِیراً أَجْرَهُ وَ مَنْ بَاعَ حُرّاً ». [11]
و کما تقدم فإن الإسلام لا یسمح بالاسترقاق إلا فی مورد أسرى الحرب و هذا المورد لیس فیه جنبة إلزام أبداً فی حین نجد الأمر یختلف خارج حدود الدائرة الإسلامیة، حیث کان الاسترقاق فی عصر ظهور الإسلام و القرون التی تلت ذلک متفشیاً بواسطة العنف و القوة و الإکراه عن طریق الهجمات على الدول الإفریقیة ذات الغالبیة السوداء، حیث یوثق الناس الأحرار و یجلبون إلى أسواق النخاسة لیباعوا عبیداً مسلوبی الإرادة و الحریة، و کثیر ما کان التعامل معهم بوحشیة و قسوة مفرطة، حتى بلغ عدد العبید فی أسواق انکلترا فی القرن الثامن عشر مائتی ألف فی العام الواحد. و فی کل عام یجلب مائة ألف شخص من أفریقیا لیعملوا عبیداً فی أمریکا.
و لذلک فإن من یلقی اللوم على الإسلام فی مسألة الرقیق إنما یتکلم عن بعد دون أن یکون على اطلاع و معرفة بالنظام الذی وضعه الإسلام من أجل تحریر العبید بالتدریج دون وقوع أی خسائر أو أضرار، و تارة یکون الکلام بتأثیر ما یتبناه المغرضون و ما یشیعونه من أفکار معادیة للإسلام و اعتبار مسألة الرق من نقاط الضعف التی یتهمون بها الإسلام و یرجون لذلک. [12]
و ما تقدم یوضح أن أئمة الإسلام إذا ما کان لدیهم العبد أو العبید فإنهم یتبعون النظام الإسلامی المعد لتحریرهم، و کانوا یعاملونهم بإنسانیة و رحمة حتى أن بعض المحررین منهم رفضوا الخروج من بیت الإمام (ع) و کانوا یصرون على أن یجیز لهم الإمام البقاء فی بیته و الاستمرار فی خدمته و لکن الإمام یرفض ذلک.
و من جهة أخرى فإن تعامل الأئمة مع غلمانهم یعتبر قدوة عملیة للآخرین، و نوع تعلیم و تربیة لأفراد المجتمع البشری، و على الأخص المسلمین منهم لیکونوا على علم بأهمیة و حساسیة هذه المسألة الاجتماعیة الحساسة.
أما فیما یخص سؤالکم و ما أشتبه علیکم من التناقض بین إقرار الإسلام لمسألة الرق و مفهوم الآیة الشریفة فی قوله تعالى: «لا إکراه فی الدین» و کأن الرق یسلب الإنسان حق الاختیار.
و الجواب: إن مسألة الرق تختلف اختلافاً أساسیاً عما ورد فی الآیة الشریفة، فالآیة ناظرة إلى رفض الإکراه و الإجبار فی مسألة الدین و العقیدة ذات العلاقة بالجانب الروحی للإنسان و هی أمر الدین و العقیدة ذات العلاقة بالجانب الروحی للإنسان و هی أمر داخلی، و حیث أن العقیدة أمر نفسی داخلی لا یمکن أن تخضع لمقولة الإکراه و الإجبار. [13] و لکن الاسترقاق یتعلق باستغلال و استثمار قوى الجسد المتمثلة بالوجود الخارجی للإنسان، و قد وجد على امتداد التاریخ أناس أرقاء ظاهراً إلا أنهم کانوا أحراراً مخیرین اختیار عقیدتهم و دیتهم کبلال الحبشی و غیره ... حیث أقدموا على قبول الإسلام بکل حریة و بکامل الاختیار.. و من جهة أخرى نجد أناساً نظیر أبی لهب و ... أحراراً بحسب الظاهر و لکنهم فی رق و أسر روحی استعبدتهم شهواتهم و استرقتهم تمنیاتهم و میولهم الدنیویة، و لذلک وقفوا بوجه الحقیقة الإسلامیة وجدّوا فی منع انتشارها.
[1] التفسیر الأمثل، ج 16، ص 333 و 334.
[2] وسائل الشیعة، ج 15، ص 92، علی (ع) " إطعام الأسیر و الإحسان إلیه حق واجب و إن قتلته من الغد؛ الکافی، ج 5، ص 35، ورد عن الإمام علی بن الحسین (ع): إذا أخذت أسیراً فعجز عن المشی و لیس معک محمل فأرسله، و لا تقتله، فإنک لا تدری ما حکم الإمام فیه.
[3] التوبة، 60.
[4] الکافی، ج 5، ص 74، أعتق ألفاً من کد یده.
[5] من لا یحضره الفقیه، ج 1 ، ص 27: إذهب فأنت حر فإنی أکره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنة.
[6] مستدرکالوسائل، ج 1 ، ص 345.
[7] الکافی، ج 6 ، ص 196، من کان مؤمناً فقد عتق بعد سبع سنین، أعتقه صاحبه أم لم یعتقه، و لا یحل خدمة من کان مؤمناً بعد سبعة سنین.
[8] من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 52؛ وسائل الشیعة، ج 2، ص 7؛ مستدرک الوسائل، ج 13 ، ص 379: ما زال جبرئیل یوصینی بالمملوک حتى ظننت أنه یضرب له أجلاً یعتق فیه.
[9] شرح اللمعة الدمشقیة، ج 6، ص 280.
[10] الکافی، ج 5، ص 114: شر الناس من باع الناس.
[11] مستدرک الوسائل، ج 13 ، ص 378، إن الله تعالى غافر کل ذنب إلا من جحد مهراً، أو اغتصب أجیراً أجره، أو باع رجلاً حراً.
[12] انظر: التفسیر الأمثل، ج 16، ص 330 – 343.
[13] للاطلاع الأکثر، انظر: سؤال 1116 (الموقع: 1160) موضوع: الإیمان و الأمر بالمعروف و .... و الجهاد الابتدائی.